طقس فرجوي مندثر يستعيد نشأة الصويرة ويعكس تعايشها خصصت الدورة التاسعة عشرة لمهرجان الأندلسيات الأطلسية التي احتضنتها الصويرة، نهاية الأسبوع الماضي، فقرة خاصة لإحياء طقس "الرزون" والتعريف به، ضمن عرض فني أشرف عليه وأخرجه الباحث والمسرحي يوسف بوسان، رفقة مجموعة من أبناء المدينة، وعناصر من الطائفة العيساوية. في هذا الخاص تحاول "الصباح" أن تسبر أغوار هذا الطقس الذي يعكس جانبا من الذاكرة الثقافية والفرجوية لمدينة الرياح، قبل أن يندثر بفعل التحولات المتسارعة التي دفنت معها جانبا مشرقا من تاريخ المدينة تزايد الوعي بضرورة إحيائه والحفاظ عليه. إنجاز: عزيز المجدوب (موفد "الصباح" إلى الصويرة) دقت ساعة منتصف الليل. كان جزء من جمهور مهرجان الأندلسيات الأطلسية قد أخذ مكانه بفضاء "دار الصويري"، قبل وقت الحفل، مضحين ببقية فقرات المهرجان التي كانت تقدم بمنصة أخرى، حتى لا يخلفوا الموعد المنتظر. كانت تشكيلة الجمهور متنوعة تضم زواره الاعتياديين، تتخللها فئات عريضة من الصويريين، من أجيال مختلفة، بعضها قاده الحنين لاسترجاع طقس دخل في عداد الفرجات المنقرضة، والبعض الآخر من الأجيال الحالية قادها الفضول لاكتشاف هذا النمط التراثي الذي ارتبط اسمه بالصويرة، دون أن يعيشوا تفاصيله، لأن صناعه ورواده قضوا نحبهم عن آخرهم. يتعلق الأمر بطقس فرجوي، لم تعد له قائمة، منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، وتحدث عنه العديد من الباحثين والمهتمين بالتاريخ الثقافي للصويرة، وما زال بعض أبنائها المسنين يستعيدون بنوع من الحنين والحسرة، مشاهد منه تعكس الأجواء التي كانت تعيشها المدينة، خلال احتفالات عاشوراء، حين كانت تندلع مبارزات شعرية بين أبناء الأحياء الرئيسية التي كانت تتشكل منها المدينة العتيقة للصويرة، خاصة حيي "بني عنتر" و"الشبانات". قبيل بدء الحفل دلف أندري أزولاي، مستشار جلالة الملك، والرئيس المؤسس لجمعية "الصويرة موكادور"، إلى داخل فضاء "دار الصويري"، وكان في استقباله أفراد من الطائفة العيساوية عند المدخل، شرعت في تقديم مرددات شعبية محلية، تفاعل معها المستشار الملكي من موقعه ابنا للمدينة، ومختزنا في ذاكرته لجزء من طقوسها الفرجوية. كانت طريقة الاستقبال بالأهازيج العيساوية جزءا من العرض الذي انطلق بمجرد وصول الوفد الرسمي، الذي ذاب في أجواء الفرجة، وخلع عنه جبة الرسمية، ليشرع الباحث والمسرحي يوسف بوسان في تقديم العرض بطريقة مسرحية، تجمع بين الإلقاء الشعري والزجلي، والإيقاعات والأنغام التراثية. من جانب آخر توزع بقية الأفراد المشاركين في العرض بأزيائهم التراثية التي تعكس مهنا مختلفة مرتبطة، بطقس "الرزون" كما كان يحييه الصويريون قديما، منها المكلف بتوزيع المشروبات، وإعداد الشاي، وبائع "الجابان" وغيرها من المظاهر الاحتفالية. كان بوسان يلقي كلماته ومقاطع زجلية تشكل جزءا من الرصيد الشعري لتراث "الرزون" الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر، أي لحظة تأسيس المدينة وإعادة إعمارها على عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الله، حينها جلب لها سكانا من مناطق مغربية مختلفة، أفرزت تشكيلات عرقية، توزعت بين الأحياء التي حملت اسمها. كان التجانس هو السمة الغالبة على مكونات المدينة، رغم أن تشكيلات سكانها من أعراق مختلفة، الأمر الذي جعل المدينة تنتج قيمها الخاصة، وفنونها التي تعكس مزاجها المتعدد، والمطبوع بالخصوصية الصويرية، وهو الأمر الذي ينطبق على نمط "الرزون". "الرزون"... الدقة بصيغة صويرية يقول محمد زوزاف الفنان التشكيلي الصويري، إن "الرزون" يشكل امتدادا وتطويرا لفن الدقة الرودانية، التي نشأت في تارودانت، ثم انتقلت إلى مراكش وأخذت طابعا خاصا، قبل أن تحل بالصويرة، مع إنشاء المدينة لتنطبع بطابعها المحلي، وتحمل اسما جديدا. ويضيف زوزاف، في حديث مع "الصباح"، أن نمط "الرزون" هو أشبه بمبارزة شعرية وإيقاعية، كانت تنشأ بين "بني عنتر" و"الشبانات" المشكّلين، لأهم أحياء المدينة العتيقة للصويرة، إذ يتواجهان شفويا، عبر ارتجال نصوص تهدف خلق نوع من المتعة، والتندر والسخرية من الطرف الآخر. طقس عاشورائي أما الباحث يوسف بوسان الذي نذر مساره المهني، للمحافظة على هذا الطقس وإحيائه، إلى جانب فعاليات صويرية أخرى، فيتحدث عن جانب من طقس "الرزون"، كما عاشها الصويريون القدماء، قبل انقراضه، قائلا "ابتداء من فاتح محرم إلى العاشر منه، تعم المدينة دقة الضجة، إذ كان بنو عنتر يجتمعون في الأيام التسعة الأولى بالجانب الغربي للمدينة، وتحديدا بمنطقة "الترعة"، أما الشبانات فيجتمعون بباب مراكش بالجانب الشرقي." وأصخب هذه الليالي هي الثامن من شهر محرم، وتسمى تلك الليالي عند الصويريين ب"ليلة شريب أتاي". وما يميز "الرزون" في صيغته الصويرية، يضيف بوسان، أنه يخلو من خاصية الحدة في الإيقاع، والإنشاد وقوفا، كما هو الشأن بالنسبة إلى الدقة المراكشية، أو ما يصطلحون عليه في المدينة الحمراء بـ "التعلاق"، إذ أن طقس "شريب أتاي" الملازم لاحتفالات "الرزون" يتميز بالجلوس على الأرض، في وضع متسم بالرصانة، وإلقاء الكلام بنوع من "الرزانة" ومن هنا جاءت عبارة "الرزون" ملتصقة بالشكل الشعري الذي تفرزه هاته الجلسات، التي تأتي أشبه بمبارزة شعرية ما بين "الشبانات" و"بني عنتر" أو أشبه ب"كلاشات" متبادلة بينهما. يقول بوسان "كان بنو عنتر يجلسون أمام مسجد سيدي يوسف، وكان مقره بالمنطقة الفاصلة بين الطرفين: أي منطقة "الحدادة" وهي بمثابة ملتقى طرق. أما الشبانات فيجلسون أمام مسجد "سيدي محماد أو حماد"، لينطلق الإنشاد بمقاطع من قبيل: سيدي محمد يا السلطان/ الله ينصرو ويعلّي بركابو/ فرحوا يا لسلام فرحوا/ سلطان غربنا سيدي جاب علامو". وكلمات "الرزون" مستوحاة من حياة المدينة وتاريخها، نجد فيها حضورا لشخصياتها ومؤسسيها بمن فيهم السلطان محمد بن عبد الله، كما كان رجال السلطة وممثلو المخزن يشاركون السكان في الاحتفالات التي تلغى فيها الحواجز بين الناس. وتوجد في أشعار "الرزون" إشارات إلى بعض أحياء المدينة وأشخاصها، فهناك ذكر للأحياء الموجودة في منطقة بني عنتر مثل درب "أدوّار" ودرب "لعلوج" خاصة في المقطع القائل: "يا لغادي لأدوّار هاك النوّار/ شافت عيني شي عيون كوحل/ في درب لعلوج أخويا هلكوني...". كما تتغنى في مقاطع أخرى بأسوار المدينة وجمالها حيث تقول "الصويرة بعد سور عالي/ حنا فحماك آسيد الجيلالي/ سيدي مكدول عمارة الصويرة/ ما كاين ضدها حتى فاليمن...". وتكتسي المبارزات الشعرية في "الرزون" طابعا ساخرا مفعما بروح النكتة، إذ لا يقصد منها الهجاء بقسوة، بقدر ما تهدف إلى الإضحاك، إذ يختار كل طرف في مقطعه استحضار شخصيات لا يتوقع أحد أن يمنحها الزعامة على رأس الطرف الآخر. وكمثال على ذلك المقطع القائل على لسان بني عنتر "شكون كبيركم آلشبانات/ عصمان التبوقيلا بوكرادة" فيرد عليهم أهل الشبانات "شكون كبيركم آبني عنتر/ علي ورصاص وكلبو وحمارو..". والشخصيات المذكورة في المقطعين شخصيات حقيقية مغمورة، إذ كان "عصمان" الذي يعتبره بنو عنتر "كبير الشبانات" شخصا بسيطا تقتصر مهمته في الحي على الإعلان عن حلول رمضان أو انقضائه، أما "علي ورصاص" كبير بني عنتر فكان أعرج، لا يتنقل بين الدروب إلا فوق حماره، رفقة كلبه الذي لا يفارقه كظله. كما تحضر في أزجال "الرزون" لمسة يهود المدينة، الذين لم يكونوا يترددون في المشاركة في الاحتفالات والمبارزات الشعرية، إذ في الوقت الذي ينشد بنو عنتر: "سيدي الجيلالي ليك جينا.. السر والبها لولاد مسكينة..." يرد عليهم الشبانات على لسان يهودهم "واليوم السبت السخينة/ لعمى والزحف لولاد مسكينة". وعند طلوع الفجر يشتد العناد بين الطرفين حتى مرحلة الانفجار الجماعي، التي يقوم فيها المغنون بكسر "الطعارج". هذه الليالي عبارة عن "كرنفال كبير"، فبنو عنتر يحملون مجسما يرمز إلى "باخرة نوح" محملة بالشموع، يسبقهم شخص يدعى "تكتيكة" بقبعته السحرية وقناعه الغريب، أما أهل الشبانات، فيسبقهم جمل عاشوراء، ويليه جوق العيطة ينشد فيه رجال يرتدون زي النساء. وهنا يعلق الباحث يوسف بوسان "هكذا نرى أن عاشوراء تنقلب فيها المعايير الاجتماعية فتصبح فيها للنساء حرية، ويرتدي فيها بعض الرجال لباس النساء، فحفل عاشوراء في الصويرة يكتسي طابع الفرجة والضحك، عكس طابع الحزن الذي يلفه في مناطق أخرى". ما زال بوسان، الذي سبق أن أنجز بحثا جامعيا في الموضوع، يطمح ويحلم بإقامة "كرنفال"، كما سبق أن قدمه في نهاية التسعينات، بمواصفات عصرية تستعيد هذا الطقس المندثر وتحفظه للأجيال المقبلة، إذ أن ترميم الصويرة لا يجب أن ينصب على الأسوار والحجر فقط، بل يجب أن يشمل ذاكرة المدينة وفنونها وتراثها.