محمد الطنجاوي… يد ممدودة بالقلم

الشاعر الذي غنى له عبد الوهاب وعبد الحليم والصحافي الذي أعجب به محمد الخامس والحسن الثاني حلت أخيرا الذكرى السادسة لرحيل الشاعر والإعلامي والكاتب محمد الطنجاوي. اسم صنع مجده بقلمه الذي امتشقه وفتح به آفاقا استطاع فيها السير بتوازن بين مجال السياسة والفن والإبداع، مع انحياز واضح للبعد الشعري والإبداعي الذي ظل يسكنه ويملأ عليه كيانه، ويوجهه في اختياراته في الحياة، ويطبع علاقته وسلوكه بالآخرين، وكانت النتيجة تقديرا كبيرا من قبل الكبار وإيمانا بموهبة الرجل بدءا برموز الحركة الوطنية أمثال عبد الخالق الطريس وعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني ثم عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة مرورا بالملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يقدر الطنجاوي تقديرا خاصا دفعه إلى تعيينه على رأس مديرية الأنباء وتكليفه بمهام تتصل بالإعلام والتواصل بالديوان الملكي، وصولا إلى علاقته برموز الفن والغناء، نظير الموسيقار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، إذ يعد الشاعر المغربي الوحيد الذي غنيا من ألحانه، وأيضا علاقته بالموسيقار عبد الوهاب الدكالي الذي تعامل معه في تقديم روائع رصعت تاريخ الأغنية المغربية. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في رحلة في مسار صاحب "مولد القمر". إعداد: عزيز المجدوب في بيئة شمالية بقلب المدينة العتيقة لتطوان بما تختزنه من عبق التاريخ ونسائم الثقافات والأعراق المتنوعة التي التقت في هذه المدينة، كانت نشأة محمد بنيحيى وسط أسرة جذورها صحراوية من تافيلالت، اختار فيها الجد الاستقرار في مدينة الحمامة البيضاء بمحيط جامعها الأعظم الذي كان يضم خليطا من العائلات العريقة مثل آل بنونة وبريشة والرزيني، التي تتحدر من أصول موريسكية وأخرى جزائرية أو من مناطق مختلفة من المغرب. في ذلك الجو المشبع بالوطنية والانشداد نحو ثقافة المشرق العربي والتطلع إلى الجار الإسباني الذي لم يكن حينها مجرد جار، بل مستعمرا تغلغل في نسيج البيئة الشمالية بمرافقه ومعماره ولغته وثقافته، تفتح وعي محمد بنيحيى الذي لازمه لقب "الطنجاوي" فقط لأن والده كان يتردد لأسباب مهنية على طنجة، فكان فقيه المسيد ينادي الطفل بنيحيى ب"ولد الطنجاوي" تمييزا له عن أترابه، فحفظ الطفل هذا اللقب بل وقع به أول نص شعري له نشر له بجريدة "الأمة" سنة 1952 وسنه لا يتجاوز السادسة عشرة. لم يصل الطنجاوي لكتابة نص شعري في هذا السن المبكر من فراغ، أو مجرد نزوة مراهقة، بل كانت محصلة انجذاب خاص، بدت مخايله منذ سنوات الطفولة الأولى، نحو الشعر والأدب والتهام كل ما وقع تحت يديه من كتب سواء خلال مرحلة الدراسة بالمسيد، أو بعد الالتحاق بالمعهد الديني لتطوان، والتتلمذ على يد أسماء تركت أثرها في نفسه مثل الفقيه المصمودي والتهامي الوزاني وغيرهما، كما قضى سنة بجامعة القرويين. ظهرت مواهب الطنجاوي الأدبية مبكرا كما تمتع بقدرة خاصة على الخطابة، تأثرا منه بالجو الحماسي الذي كانت تبعثه الحركة الوطنية خاصة مع الزعيم عبد الخالق الطريس زعيم حزب الإصلاح الوطني الذي انتسب إليه الطنجاوي مبكرا، كما أظهر تعاطفا خاصا مع حزب الشورى والاستقلال، وكان الطنجاوي في تلك الفترة من بين الشباب اليافع الذي كلفه الطريس بقراءة بعض الخطب الحماسية في أوساط الجماهير التي تحضر التجمعات الخطابية. كانت لحظة التحول الكبرى في مسار محمد الطنجاوي والتي جعلته يضع أولى الخطوات الثابتة على درب الكتابة، هو تتويجه بجائزة المغرب للآداب في فرع الشعر سنة 1955 وسنه لا يتجاوز التاسعة عشرة عن نص شعري بعنوان "فتيان القرية"، في الوقت الذي توج بالجائزة نفسها عن فرع القصة الكاتب أحمد عبد السلام البقالي. وبعد أن أسس الزعيم الاستقلالي علال الفاسي جريدة "الصحراء" سنة 1956 كان محمد الطنجاوي ضمن المحررين الأساسيين فيها، بعد التحاقه بالرباط سنة بعد تأسيسها، كما رشحه عبد الخالق الطريس للالتحاق بالإذاعة الوطنية فقدم فيها في بداياته برنامجا حظي بشهرة كبيرة هو "مجاال الأديب". وهكذا تفرق مجهود الطنجاوي الإعلامي، آنذاك، بين الإذاعة وكتابة الأعمدة والمقالات على مختلف الجرائد الحزبية آنذاك، دون أن ينتسب إليها بالضرورة، بل كان وفيا لاستقلاليته الفكرية التي حظيت باحترام وتقدير الحزبيين أنفسهم، الذين خطبوا وده، وهكذا التحق بطاقم جريدة "التحرير" بطلب من الزعيم الاتحادي الراحل عبد الرحمن اليوسفي لحظة تأسيسها سنة 1959 لتكون اللسان الناطق باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي ولد للتو، وكان الطنجاوي ضمن طاقمها الأول الذي ضم أسماء من قبيل محمد عابد الجابري ومحمد باهي وعبد السلام البوسرغيني. لم يكن ليمر مقام الطنجاوي داخل جريدة "التحرير"، ووسط الجو السياسي المشحون لمغرب نهاية الخمسينات وبداية الستينات، دون مشاكل، سيما أن الجريدة التي كان يكتب فيها مقالاته اللاذعة كانت في أوج اصطدامها مع النظام، وهو ما جعله معرضا لمخاطر استشعرها كما أدرك المشرفون على الحزب آنذاك ذلك، فدبروا له سفرا مفاجئا لمصر قصد إبعاده عن الخطر المحدق به. كان الطنجاوي آنذاك حديث العهد بالزواج وأبا لطفلين صغيرين، فاضطر إلى السفر بعيدا عن أسرته الصغيرة، إلى أرض الكنانة التي كان يمني النفس بالسفر إليها، لكن ليس في ظروف قسرية مثل هذه. وهكذا حقق الطنجاوي حلما دفينا، بالالتحاق بالجامعة فدرس بكلية الصحافة وأقام بالقاهرة لمدة ناهزت سنتين، اكتسب فيها تجارب معرفية وإنسانية ساهمت في نضجه أكثر، خاصة أن العاصمة المصرية آنذاك كانت وجهة لمجموعة من الأسماء المغربية منهم إدريس بنونة ومحمد بنجلون وحسن المفتي والطاهر جيمي وغيرهم. بعد العودة إلى المغرب واصل الطنجاوي مساره المهني ضمن جريدة "التحرير" إلا أنه استقال منها, أو بالأحرى فصل منها، لخلاف بينه وبين مسؤولها آنذاك الفقيه البصري، ليجد نفسه في مواجهة المجهول ودون عمل وهو حينها رب أسرة، فتدخل الزعيم عبد الخالق الطريس لاحتواء الوضع, دون أن يشعر الطنجاوي بذلك، حتى اصطحبه معه إلى القصر الملكي ووضعه وجها لوجه مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان على علم بما جرى للصحافي الشاب عن طريق الطريس نفسه، بل أخبره الملك الشاب آنذاك، أن والده الراحل محمد الخامس كان يقرأ مقالاته، ليعينه فترة قصيرة بعد ذلك مديرا لجريدة "الأنباء" الصحيفة الرسمية آنذاك للحكومة. بعد سنوات طويلة على رأس "الأنباء" انتقل محمد الطنجاوي إلى جريدة "الميثاق الوطني" كما تولى مسؤوليات كبرى بكتابة البرلمان وكذلك مهام بالديوان الملكي رفقة المستشار أحمد بنسودة ووزارة الأنباء، ومواكبة الملفات السياسية والاجتماعية التي كانت تهم الديوان الملكي والتوجهات الكبرى للدولة المغربية إلى حين وفاته في 25 نونبر 2016. ووسط كل هذا الزخم لم ينس الطنجاوي طبيعته الأصلية وهو أنه شاعر وأديب قبل كل شيء، إذ كان هاجس الكتابة والارتباط بالكتاب هو الطاغي على مساره، وهو الأمر الذي تعكسه مكتبته الشخصية التي وضعتها أسرته رهن إشارة المكتبة الوطنية في فبراير 2018، وأتيحت ل"الصباح" فرصة زيارتها والاطلاع على محتوياتها. وتضم المجموعة الخاصة بالراحل محمد الطنجاوي حوالي 1344 كتابا وهي جزء من مكتبته تبرعت به أسرته لفائدة الباحثين ورواد المكتبة الوطنية، وهي الخزانة التي تضم عناوين تعكس اهتمامات الشاعر والكاتب الراحل تتوزع بين الشعر والأدب والتاريخ والسياسة والفنون والمذكرات وكذلك كتب الفقه وعلوم الدين وغيرها. الدكالي يستعيد روائعه مع الطنجاوي يقول الموسيقار عبد الوهاب الدكالي إن علاقته بالشاعر محمد الطنجاوي تعود إلى بداية الستينات حين كان في مستهل مساره الفني، من خلال أغنية "هذي يدي". ويحكي الدكالي عن ظروف ميلاد هذه الأغنية أن الطنجاوي كان مكلفا، حينها، بالتعليق على الأخبار الرئيسية بالإذاعة، وكان جالسين بأحد المقاهي المقابلة لمقر الإذاعة فشعر الطنجاوي بالرغبة في كتابة شيء، فطلب ورقة وقلما وسرعان ما انهمك في كتابة القصيدة لدرجة أنه نسي نفسه ونسي موعد التعليق على الأخبار. كما يتذكر الدكالي إحدى زياراتهما للزعيم علال الفاسي، في أواخر حياة الزعيم الاستقلالي مطلع السبعينات، فدخلا عليه بمسكنه بطريق زعير بالرباط، فاستحضر معهما الفاسي ذكريات جميلة عن فاس وعن شقيق الدكالي الذي كان يفتتح لقاءاته بتلاوة القرآن، قبل أن يقترح عليهما تقديم أغنية عن الصحراء. وبعد انصرافهما دعا الطنجاوي الدكالي إلى العشاء في بيته وبينما هما جالسان انزوى مرة أخرى، وكأنه ظل مشغولا بما قاله علال الفاسي، فحرر على ورقة قصيدة ستشكل ملحمة "العهد" الوطنية الشهيرة. وتعامل عميد الأغنية المغربية مع الطنجاوي في أعمال أخرى أشهرها اغنية "مولد القمر" التي قال الدكالي عنها إنه أطول قصيدة غناها، ولم يجد ما يحذف منها لأنها كانت نصا شعريا متماسكا، وعبارة عن تحدي ركباه معا، الشاعر والملحن، إذ تم تسجيلها بالقاهرة رفقة أشهر العازفين بمصر. بنيحيى: ظل شاعرا في كل حالاته يحكي قيس بنيحيى، نجل الشاعر محمد الطنجاوي، جوانب عن والده قائلا إنه يظل أكبر رأس مال بالنسبة إليه ومرجعا لكل القيم التي امتلكها، بل بمثابة اليد الخفية التي ظلت تسير حياته، حتى عندما أصدر مجموعته الشعرية "كلمات متناثرة.. حب مضطرب" باللغة الفرنسية. وأضاف بنيحيى، وهو مهندس في الكيمياء النووية وخبير في التواصل ومكلف بمهمة في الديوان الملكي، في حديث مع "الصباح"، أن والده لم يكن يتعامل مع أبنائه بمنطق الأبوة السلطوية، بل كان يرى فيه، رفقة شقيقيه الآخرين، مثالا في كل شيء وما يستحب أن يرى الابن في الأب، إذ اكتسبوا منه عشق اللغة العربية والاعتداد بها، إذ رغم أنهم درسوا اللغات الأجنبية فإنه كان ممنوعا عليهم الحديث بها معه في المنزل. وعن طقوسه اليومية وعلاقته بالكتابة يحكي قيس عن والده أنه كان شخصا بوهيميا يطارد إلهامه أينما كان، لدرجة أنه عندما تداهمه الرغبة في الكتابة يبحث عن ورقة في أي مكان، إذ كانت الكتابة بالنسبة إليه حالة أكثر منها استعدادا، وكان فخورا بأن يتقاسم مع أبنائه ما يكتب خلال لحظة تحريرها. كما يستحضر قيس جوانب من اللقاءات والسهرات التي كان يحتضنها بيتهم بزنقة علال بن عبد الله بالرباط، إذ كانت مقصدا لنجوم الفن والأدب والسياسة، بل يذكر أنه لم يكن يشعر أن هؤلاء الزوار أشخاص فوق العادة، إذ كانوا يتصرفون على سجيتهم، وهو ما يعكس طبيعة العلاقة التي كانت تجمعهم بوالده. ومن بين الشخصيات التي يذكرها بنيحيى الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كان يتردد على بيتهم في كل زياراته للمغرب، بل كان موسيقار الأجيال يشعر وكأنه في بيته ويتحرك فيه متخلصا من ضغط البروتوكول والتحفظ والوسوسة التي كان معروفا بها، بل كان يشارك في بعض الأحيان في تحضير الوجبات في المطبخ. أما عبد الحليم حافظ فكانت شخصيته تعكس تواضعه غير المصطنع، إذ كان يتمتع بالأوقات التي كان يقضيها رفقة الأسرة الصغيرة للطنجاوي في البيت، ولا يتردد في الجلوس معهم على الأرض وهم يتسامرون. ويتابع بنيحيى أن علاقة هؤلاء الفنانين بوالده لم تكن مهنية فقط, رغم أنها أفرزت عملين وطنيين هما أغنية "الفرحة الكبرى" التي غناها محمد عبد الوهاب من شعر محمد الطنجاوي، أو قصيدة "من المصري إلى المغربي" التي غناها العندليب الأسمر ولحنها الموسيقار الراحل أحمد البيضاوي. إعداد: عزيز المجدوب

محمد الطنجاوي… يد ممدودة بالقلم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

التزوير يطيح برئيس جماعة ونائبه

الجلطة الدماغية... موت الخلايا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات