كتاب يستعيد مذكرات مقاوم كان في قلب خلايا فاس صدر حديثا عن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، كتاب بعنوان "مسار مقاوم إبان فترة الكفاح الوطني". الكتاب يسلط الضوء على حقبة مهمة من مسار وتاريخ المقاوم "محمد القباج" (1935 ـ 1998) ومحيطه الأسري، وما كان عليه من قيم وطنية وانخراط نضالي وطني، ومن دور أيضا في حركة المقاومة وجسور الاتصال والتنسيق ضمن ثلة من المقاومين، انطلقوا من أحياء فاس العتيقة حاملين هموم وآلام وطنهم في ثنايا أفئدتهم، منخرطين بإرادة قوية وعفوية ونكران ذات في تأجيج جذوة النضال والفداء والكفاح من أجل حرية واستقلال ووحدة الوطن. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في عوالم هذا الكتاب الذي هو نبش في أوراق وسيرة هذا المقاوم. إعداد: عزيز المجدوب في تقديمه للكتاب أشار الدكتور مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، إلى أنه رغم أنه يبدو في ظاهره عبارة عن مذكرات، فهو "في الواقع تأليف تاريخي لفترة عصيبة من تاريخ الكفاح الوطني من جانب، ومن جانب ثان، فهو يحصر مجال أحداث وقائع العمل الفدائي بحاضرة فاس، ودروب مدينتها العتيقة، مهد التشكيلات الفدائية التي انطلقت من حاضنتها الشعبية التي كان الصناع التقليديون والحرفيون والعمال والتجار الصغار والمتوسطون والطلبة والتلاميذ يكوّنون زادها، إضافة إلى بعض العلماء والفقهاء ممن كانوا يمدون حركة المقاومة والفداء بالدعم المعنوي والغطاء اللوجستيكي". وأضاف الكتيري أن نشر سير ومذكرات وذكريات وشهادات ورموز وأعلام الحركة الوطنية ورجالات المقاومة وجيش التحرير يأتي في "سياق حفظ الذاكرة التاريخية الوطنية المهددة بالاندثار باختفاء الشهود المؤتمنين على أحداثها وتفاصيلها وعلى نقلها من جيل إلى جيل عبر الأجيال المتعاقبة لتظل شاهدة على عظمة الوطن وأصالته المتجذرة في عمق التاريخ وتراكماته ماضيا وحاضرا ولتستمر باعثة وواعدة بمستقبل مشرق وزاهر". يتم مبكر تولت فدوى القباج نجلة المقاوم محمد القباج مهمة الإشراف على إعداد مذكرات والدها، بالاعتماد على مصدرين أساسيين، أولهما كناش خطه المقاوم القباج بخط يده، والثاني عبارة عن كتيب دونته شقيقته أمينة القباج، استنادا على حكي وسرد القباج نفسه، لتتجمع بذلك فصول حكاية المقاوم محمد القباج الذي كان واحدا من نشطاء خلايا المقاومة بالعاصمة العلمية، وأحد الأسماء التي اضطلعت بتنفيذ عمليات فدائية أوجعت المستعمر وأذنابه حينها. يتحدث محمد القباج في مذكراته بصيغة المتكلم قائلا "ازددت سنة 1935 بمراكش من والدي أحمد القباج وخديجة بنت عبد القادر بناني. كان الوالد فقيها مفتيا ومتضلعا في الفقه والسنة وشرح كتاب الله. تزوج من أمي بفاس ومكث بها بضع سنين، وبحكم عمله عيّن بمراكش". سنوات قليلة بعد ذلك عاد والد القباج إلى فاس إثر تعيينه بها، حيث استأنف عمله في التدريس والفتوى، وكل ما يتعلق بالقرآن والسنة حتى ذاع صيته. كما كان يقوم، في ساعة فراغه، بإلقاء دروس الوعظ والإرشاد في ضريح المولى إدريس الأزهر أو في جامعة القرويين. لكن سنوات الرخاء سرعان ما انطوت بعد رحيل مفاجئ للأب ليترك ابنه وعمره لا يتجاوز العاشرة، ليجد محمد القباج نفسه في مواجهة أعباء الحياة دون ظهر أو سند، خاصة أنه كان أكبر إخوته، فدفعت به والدته إلى أحد الأقارب ليمتهن حرفة نسج الثياب حتى يعينها على تحمل مسؤوليات البيت، في الوقت الذي شمرت فيه بدورها عن ساعدها وبدأت تمارس مهنة الخياطة بآلة كانت في حوزتها. استقلالي منذ الطفولة كانت 1948 سنة تحول بالنسبة إلى محمد القباج، الذي لم يكن عمره يتجاوز الثالثة عشرة، حين قاده الفضول لاكتشاف ما وراء حشد كبير من الناس تجمعوا أمام باب منزل كبير، وبعد أن تجاوز عتبة الباب، علم أن الأمر يتعلق بمنزل الوطني الحاج أحمد مكوار، الذي كان يحتضن حفلا لمناسبة رجوع الزعيم علال الفاسي من منفاه بالغابون، وخلال هذا الحفل تم استحضار مواقف الزعيم الاستقلالي وتضحياته في مواجهة الاستعمار. وجد القباج نفسه مشدودا إلى أجواء الاحتفال والأحاديث المسترسلة عن بطولات الوطنيين وصمودهم، إلى درجة أنه لما لاحظ أن أحد الأشخاص كان يسجل أسماء الراغبين في الانخراط في حزب الزعيم، تقدم بكل اقتناع طالبا تدوين اسمه ضمن لائحة المرشحين الجدد للانضمام إليه، ليتم تسليمه شارة عبارة عن خيوط حمراء وخضراء ترمز إلى العلم المغربي، علقها على صدره وكانت بمثابة عهد أخذه على نفسه وقرر منذ ذلك اليوم أن يبذل كل ما في جهده لصد الاستعمار والدفاع عن الوطن. كانت أول حادثة شهدها القباج بعد انخراطه في حزب الاستقلال، عملية هجوم المقيم العام الجنرال "جوان" على العرش المغربي، لكنها باءت بالفشل، وسيكرر خلفه الجنرال "غيوم" هذا الهجوم ويحاصر القصر الملكي، بمباركة ودعم من قوات كبار القياد الخونة، حيث سينفذ مؤامرة نفي سلطان المغرب وعائلته يوم 20 غشت 1953. ميلاد منظمة "اليد السوداء" أعقبت نفي السلطان محمد الخامس موجة مظاهرات وانتفاضات شملت العديد من المدن والحواضر المغربية، منها فاس، التي كان القباج في زمرة الشباب المتظاهر، ليجد نفسه من جملة المعتقلين الذين زج بهم في معتقل مخيف كان يسمى "برج النور". واجه القباج لأول مرة صنوفا من التعذيب والإذلال طيلة أزيد من أسبوعين، لم تزده إلا إصرارا وتشبثا بقضيته، إلى أن أطلق سراحه، وهو أكثر عزيمة على المضي قدما في طريق المقاومة، ليواصل انخراطه في المظاهرات وتوزيع المنشورات، التي تحرض المغاربة على مقاطعة السلع الفرنسية. وخلال هذه الفترة بدأ القباج اتصالاته بمجموعة من أصدقائه وأترابه، منهم بوشتى صبور ومحمد ميكو وعبد المجيد ميكو، وهم يحاولون تطبيق تعليمات اللجنة المحلية لحزب الاستقلال التي لخصت الوضع قائلة "هذا الاستعمار ظالم ومستبد، لا ينفع معه إلا السلاح والقتل ولهذا علينا أن نبحث ونختار شبابا شجعانا يقدرون على حمل السلاح والتدريب عليه وتحمل المسؤولية". وهنا يقول القباج في مذكراته "في اليوم نفسه قابلنا محمد بن الراضي السلاوي، الذي سبق أن تعرف علينا في أحد الأحياء الصناعية، (...) كان لقاؤنا الأول بمنزل السيد عبد السلام بنجلون، الكائن بحي واد رشاشة بالمدينة القديمة، حضره كل من الشاب عبد العالي بنشقرون وابن عمه عبد العزيز بنشقرون، ومحمد الحياني ومحمد ميكو وعبد السلام بنجلون وبوشتى صبور، وتم خلال هذا الاجتماع مناقشة الوضع العام الذي يعيشه المغاربة بعد نفي السلطان والضغط الممارس، من قبل سلطات الحماية الفرنسية على المواطنين". وأضاف القباج "تم الاتفاق على خطة الكفاح ضد المحتل، كما أدينا القسم على المصحف الكريم، وتعاهدنا على الإخلاص لله والوطن. فجأة ولج قاعة الاجتماع رجل يلبس قناعا، وبعد أن حيى الحاضرين، قدم لنا السلاح، وبعد تبادل أطراف الأحاديث أمكن لنا التعرف على الشخص المقنع ولم يكن إلا الفدائي محمد السعيدي الذي كان يعيش بالدار البيضاء". وتابع "تزودنا بالسلاح نظير قدر مهم من المال طلبه صاحب السلاح، ذلك أن محمد السعيدي لم يكن إلا وسيطا في عملية جلب السلاح. ومن هنا كانت الانطلاقة الأولى لخليتنا الفدائية التي سميناها "منظمة اليد السوداء". عمليات فدائية واعتقالات يقول القباج "كانت أول خطوة قمنا بها في العمل الفدائي، إحراق مكتب مطبعة جريدة "الضيافة" التي كان يديرها محمد الشرايبي. لم نكن نتوفر حينها على سلاح، وقد نفذنا عملية الإحراق ليلا والتهمت ألسنة النيران خلال ساعة جانبا من المطبعة، وقد هرعت وحدة الإطفاء نحو المكان وتمكنت من إخماد النار وجنبت صاحبها الخسارة التي كنا نستهدفها". وأجرى أعضاء الخلية اتصالات بالجنود القدماء وقدماء المحاربين وأشخاص يشتغلون في التهريب بين المنطقة الخليفية والمنطقة السلطانية، وتوالت اجتماعاتهم، إذ كان كل اجتماع ينعقد في مكان مغاير عن الاجتماع السابق، حتى لا ينفضح أمرهم، إذ مرة يجتمعون بمقابر باب الفتوح، وتارة في حديقة "جنان السبيل" مراوغين الفضوليين، ومتظاهرين بلعب الورق "الكارطة". وبدأت الخلية في تحصيل السلاح بطرق مختلفة، وقبل الشروع في العمليات الفدائية المسلحة، تمت صياغة وتحرير العديد من الرسائل الإنذارية وتوزيعها على الخونة المتعاونين مع السلطات الاستعمارية ورجال الاستخبارات وأئمة المساجد وحثهم على عدم ذكر السلطان المنصب محمد بن عرفة في خطبهم، كما كانت هذه الرسائل تتضمن تهديدات بالتصفية الجسدية في حال التمادي في التعامل مع الاستعمار. كما تكررت عمليات الاغتيالات بتدبير من منظمة "اليد السوداء" ودب الرعب في جميع أحياء وشوارع فاس، وأصبح اسم المنظمة على لسان الجميع، ما دفع سلطات الحماية إلى التفكير في طريقة إخماد لهيب المنظمة، التي كان يتراوح أعمار أعضائها بين 18 سنة و21، لكن دون جدوى. وتضمن الكتاب جداول ضمت جردا لمختلف العمليات الفدائية التي قامت بها منظمة "اليد السوداء" بفاس، وطبيعتها ونوعية الأشخاص المستهدفين، عبارة عن اغتيالات ومحاولات اغتيال وتفجير القنابل ومحاولات التفجير وأيضا إضرام النار. ووقع بعض أعضاء المنظمة ضحية حملات الاعتقالات، منهم المقاوم محمد المرنيسي اليحياوي، الملقب ب"الميركاني" الذي سقط عقب تنفيذه عملية اغتيال، وفراره إلى القنيطرة حيث سقط في يد الشرطة، واعترف، تحت التعذيب، ببقية أعضاء المنظمة، ليتم اعتقال مجموعة، منهم محمد القباج نفسه إلى أن تم إطلاق سراحه بعد تعرضه للتعذيب هو الآخر. وتوالت عمليات اعتقال محمد القباج ورفاقه، وفي كل مرة كان يطلق سراح بعضهم، أو من تبقى منهم، إذ تم تنفيذ أحكام الإعدام في حق زملائهم، كانوا يؤسسون منظمات أخرى منها خلية "لجنة التحرير الفدائية الفاسية" ثم منظمة "المقاومة والتحرير"، قبل أن يلتحق القباج بجيش التحرير بعد أن صار اسمه مطلوبا لدى السلطات الاستعمارية، التي وصل بها الأمر إلى اعتقال والدته وأشقائه الصغار حتى يضغطوا عليه من أجل الاستسلام. شارك القباج في مجموعة من معارك جيش التحرير، بعد أن لجأ إلى وجدة والناظور والمناطق المجاورة لهما، وخضع لتداريب شاقة بجبال "تدزي أندرار"، لينخرط في مواجهات ضد الجيش الفرنسي بتيزي أوسلي بالريف ناحية تازة، كما ربط اتصالات بالمنظمة السرية بالبيضاء ومنظمة "الهلال الأسود"، حيث واصلوا عملياتهم إلى حين عودة السلطان محمد الخامس من منفاه في منتصف نونبر 1955.