أمزميز… حقوق سقطت في الركام

في أمزميز، حيث ما زال الركام شاهدا على فاجعة الزلزال، تتقاطع حكايات "المقصيين" العائدين من الموت في الألم والخذلان، رجال ونساء عاشوا تحت وطأة الكارثة، وما زالوا يرزحون تحت وطأة الإقصاء رغم مرور سنة كاملة.. الكثيرون حرموا من الاستفادة من الدعم المخصص لإيواء المتضررين، وكأن الدمار لم يكن كافيا ليضاعف الزلزال معاناتهم.. طرقوا أبواب المسؤولين، ثم ما لبثوا أن انضموا إلى تنسيقيات، وتوحدت أصواتهم في مسيرات ووقفات احتجاجية، لكن تلك الأبواب ظلت موصدة في وجوههم، لا يُفتح منها إلا السراب. إنجاز: محمد العوال (موفد الصباح إلى أمزميز) /تصوير(أطلس ميديا) تحت ظلال أشجار الزيتون في مقبرة أمزميز، يلجأ البعض إلى الترحم على أرواح الضحايا، لعل في الدعاء ما يخفف وجعهم، بينما الآخرون ما زالوا يقاومون من أجل إنصاف لم يأت بعد، يعيشون على هامش حياة سلبت منهم مرتين، مرة عندما سقطت منازلهم، ومرة أخرى عندما سقطت حقوقهم.. في مقبرة وسط أمزميز، تصطف قبور ضحايا زلزال ثامن شتنبر 2023 واحدا تلو الآخر، وكأنهم ما زالوا متماسكين في رحيلهم كما كانوا في حياتهم... أرض المقبرة تحكي بصمت حكايات الفقد والصدمة، بينما يحرص الحارس، وهو شاب في مقتبل العمر، على تنظيف جنباتها والعناية بقبورها. في المقابل، لا يمر يوم دون أن تجد عائلة أو فردا يزور هذه المقبرة، حاملا معه ذكرى أو دعاء أو دمعة حارة. مناجاة وسط القبور وسط هذه القبور، تجلس خديجة، المرأة التي خط الزمن على وجهها آثار الزمان وآلامه. تجلس القرفصاء بجوار قبر قريبتها التي دفنت هنا بعد الزلزال.. عيناها تحدقان في التراب، وكأنهما تغوصان في أعماق الذكريات، تتحدث إلى روح الراحلة بصوت خافت، كلماتها أشبه بتنهيدات قلب موجوع أكثر منها جملا مفهومة. اقتربنا منها، وهي تجمع شتات قواها لتقف وتهم بالمغادرة، فبادرناها بالسؤال عن التغيرات التي حدثت بعد عامٍ من الزلزال.. رفعت عينيها نحو القبور، ثم قالت بصوت مفعم بالحزن: "الذي تغير هو هؤلاء الموتى، الذين رحلوا إلى دار البقاء، رحلوا إلى جوار ربهم وتخلصوا من كل الألم... هم ماتوا، والعديدون لا زالوا يعانون هنا، ينتظرون من ينصفهم". سألناها هل كانت من بين المستفيدين من الدعم الذي قدمته الدولة، فأجابت بصوت متردد ولكن حازم: "بالعكس، زوجي استفاد، مثل المئات، بل الآلاف، ولكنني أعرف العشرات أو ربما المئات الذين لم يستفيدوا رغم أنهم يعيشون هنا في أمزميز، ويحق لهم أن يحصلوا على هذا الدعم". كان في صوتها خليط من الإحباط والاستياء، ليس فقط لأنها تعرف من لم يستفد، بل لأنها عاجزة عن فهم سبب هذا الإقصاء. على درب التضامن سائرون بدأت خديجة تحكي عن نساء تعرفهن، وكيف أن بعضهن لم يحصلن على الدعم الشهري، بينما أولئك الذين استفادوا يشاركون جزءا منه كل شهر مع جيرانهم الذين تم إقصاؤهم. "هنا، لم نعد مجرد جيران، بل أصبحنا إخوة، فالزلزال جعل علاقاتنا الاجتماعية أقوى، لا يمكن لأي شخص أن يذهب للسوق ويشتري ما يحتاجه بينما جاره لا يجد ثمن كيس دقيق." توقفت قليلا، وكأن الكلمات التي لم تقل أثقل على قلبها مما قيل، ثم تابعت "أشعر بالخيبة لإقصاء العديد من الناس من الاستفادة، حرام والله حرام، الدولة منحتنا حقوقنا، لكن بعض المسؤولين تلاعبوا بها". في عينيها، كان هناك مزيج من الحزن والأسى، لكنها لم تفقد الأمل. فبالنسبة إلى خديجة، الزلزال لم يكن مجرد كارثة طبيعية وقضاء وقدرا، بل كان اختبارا للعلاقات الإنسانية، لقوة الروابط بين الجيران والأهل، وللقدرة على الصمود في وجه الصعوبات وتقلبات الزمن.. عفيف... عفة وصمود في حي السور الجديد بأمزميز، يقف حسن عفيف قريبا من منزل جديد يبنى لجاره الذي استفاد من منحة إعادة الإعمار بعد زلزال ثامن شتنبر، كأنما يخفف عليه ذلك قليلا من وطأة الألم الذي يحمله في قلبه... رجل لطالما كان ملاذا للآخرين، يشع بالحيوية والنشاط، يخفي خلف ملامحه قصة مليئة بالوجع والإحباط، تحكي عن حياة تغيرت في لحظة وعن أمل ضاع في خضم الوعود التي لم تتحقق. "هذا منزل أحد جيراني، استفاد من البناء"، يقول حسن بابتسامة خفيفة، لكنها سرعان ما تتلاشى عندما يستدير ليبدأ في سرد حكايته، مشيرا إلى ما فقده بعد ذلك اليوم المشؤوم. من جزار إلى عاطل كان حسن عفيف يعمل جزارا لسنوات طويلة، وكانت مهنته مصدر رزقه الوحيد، يعيل بها أسرته الصغيرة ويوفر لها كل ما تحتاجه، كل من عرفه كان يشهد على كرمه وأخلاقه، فقد اعتاد أن يقدم المساعدة لجيرانه كلما استطاع، ويخص الفقراء والمحتاجين بجزء من ربحه، لم يكن حسن يوما ينتظر شيئا من الآخرين، فقد كان عزيز النفس، يرى في العمل والاجتهاد سلاحا لمواجهة الحياة. لكن مع زلزال ثامن شتنبر، فقد حسن كل شيء في لحظة، فقد انهار جزء من منزله، وتضرر محله التجاري بشكل جعل استمراره في العمل مستحيلا، "محلي التجاري تضرر، ولم أعد أعمل، فقدت عملي، وانهار جزء من منزلي، والجزء الآخر مهدد بالانهيار"، يقول حسن وهو يقاوم دموعه، ويضيف بنبرة مثقلة بالحزن، "رغم ذلك، لم أستفد من أي منحة لإعادة بناء منزلي ولا حتى من المنحة الشهرية." طيلة سنوات عمله جزارا، ادخر حسن بعض المال ليكون عونا له في الأزمات، لكنه أنفق كل ما ادخره خلال هذه السنة لرعاية أبنائه بعد أن توقف عن العمل. "كل ما كنت أملكه، أنفقته على أبنائي طيلة هذه السنة.. أعيش على إعانات عائلتي.. يمنحونني من حين لآخر ما يسد رمقنا." يقول حسن هذه الكلمات بصوت يخنقه الألم والخيبة، إذ لم يكن يتخيل يوما أن يتلقى صدقات من عائلته، بعدما كان يعين الآخرين، ليجد اليوم نفسه عالقا في وضع يجبره على قبول المساعدة التي لم يكن يتصور يوما أنه سيحتاجها. ذكريات من الأمس القريب رغم كل ما فقده حسن في زلزال ثامن شتنبر، إلا أن ذكريات ذلك اليوم لا تزال محفورة في ذاكرته، مؤلمة كأنها حدثت بالأمس.. لا يستطيع نسيان اللحظات التي اهتزت فيها الأرض بعنف تحت قدميه، وخرج بسرعة مع أسرته الصغيرة إلى الشارع، مرعوبا مما يمكن أن يحدث، لكنه لم يتوقف عند حماية أسرته فقط، بعد أن اطمأن إلى سلامتهم، عاد حسن ليخاطر بحياته من أجل إنقاذ جارة له حوصرت تحت الأنقاض بعد انهيار منزلها.. فلم يتردد في العودة إلى موقع الخطر، يحفر بيديه لإنقاذ تلك المرأة التي كانت في حاجة إلى المساعدة. في تلك اللحظة، كان حسن بطلا، لكن على الرغم من هذه التضحيات، لم يجد حسن الحظ نفسه في الاستفادة من المساعدات التي قدمتها الدولة. لم يقف حسن مكتوف الأيدي أمام مصيره، فقد قصد مكتب الباشا مرات عديدة، وتوجه إلى مصالح عمالة مراكش على أمل أن يتم إنصافه، في كل مرة كان يتلقى وعودا بأن مشكلته ستحل، وبأنه سيحصل على حقوقه مثل غيره من المواطنين. "تلقيت تطمينات بأن مشكلتي ستحل، وأنني سأستفيد مثل غيري. لكن لا شيء تحقق إلى يومنا هذا"، يقول حسن بنبرة مشوبة بالمرارة. ورغم الحزن العميق الذي يلف حياة حسن، إلا أن الأمل لا يزال يشع في قلبه.. ترى في عينيه الألم، ولكنك ترى أيضا تلك النظرة التي تشير إلى أنه ما زال يؤمن بأن الحق سينتصر في النهاية، وأن العدالة ستتحقق، وإن تأخرت.. قصته ليست مجرد قصة شخص فقد منزله أو عمله، بل هي قصة رجل فقد جزءا من نفسه في خضم المعاناة، لكنه لم يفقد روحه الكريمة التي طالما قدمت المساعدة للآخرين. حسن عفيف هو صورة من صور القوة والضعف الإنساني في آن واحد، وهو مثال على صمود الروح حتى في أحلك الظروف.. أسئلة في مهب الريح تتزاحم الأسئلة في ذهن عبد الواحد ميمون، الشاب الناشط الذي لم يتردد مرارا في رفع صوته قائلا "لا" للتلاعب في لوائح المستفيدين. ونحن نسبر برفقته أزقة أمزميز، نشاهد بيوتا تصارع الزمن، مهددة بالانهيار في أي لحظة، كأنها جدران توشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. هذه البيوت، التي تقف شاهدة على الألم واللامبالاة، لا تهدد فقط ساكنيها، بل كل من يمر بجوارها، ومع ذلك، تظل السلطات واقفة في صمت، وكأنها تراقب مسرحا يعيد تكرار نفسه ببطء مؤلم. عبد الواحد، الذي لطالما طالب بتوضيح الأسباب الحقيقية وراء هذا الإقصاء، يقول "نلتقي أجوبة غامضة، وكأننا نسأل الريح،" يضيف بأسى، "إن تعثر إعادة الإعمار مرده تلك التلاعبات التي أصابت لوائح المستفيدين". في طريقنا التقينا حسن، الرجل المتقاعد من القوات المساعدة، الذي لم يعد يجد سوى الدعاء للمسؤولين بأن يصلح الله حالهم بعدما حرموا حق المئات من أهالي أمزميز من الاستفادة. يأخذنا حسن في جولة قصيرة، يشير إلى بيوت لم ينصفها القدر ولا اللوائح. نلتقي محمد، الشاب الذي يسكن في حي السور الجديد بأمزميز، يقف بجوار منزله الذي نخرته الخسائر، يقول بحزن "منزلنا ينهار من الداخل، نضع الأعمدة لنتجنب السقوط، لكننا لم ندرج ضمن لوائح المستفيدين.. لجأنا لخبراء لتقييم الأضرار من مالنا الخاص، وما زلنا ننتظر". يتساءل بحرقة، "هل ينتظرون أن ينهار السقف فوق أجسادنا حتى يتحركوا؟".. إنه سؤال بدون إجابة، يظل عالقا في جدران أمزميز المهترئة.

أمزميز… حقوق سقطت في الركام

إقصاء المئات من الاستفادة أشعل موجة غضب نتج عنه ارتباك في إعادة الإعمار

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

التحقيق في اختلالات قفة رمضان ببنكرير

ردة وتراجع عن المكتسبات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات