الشاعر والمفكر العربي قال لـحابصل إننا نأخذ الحداثة ونرفض أسسها العقلية حل الشاعر والمفكر العربي علي أحمد سعيد، الشهير بـ "أدونيس"، أخيرا، بالمغرب، على هامش المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط. في هذا الحوار الذي خص به "الصباح" يتحدث عن قضايا تتعلق بالحداثة والشعر والفكر والربيع العربي والدين. في سن الثالثة والتسعين مازال صاحب "الثابت والمتحول" منشغلا بهذه الأسئلة التي أنضجه البحث فيها طيلة عقود من الاشتغال على الواجهات الإبداعية والفكرية والنقدية. اجتياز عتبة التسعين يعد تحديا وانتصارا على شروط الجسد والحياة، لكن ماذا يعني لأدونيس المفكر والشاعر؟ الكائن يولد ويحيا لكي يغيب ولكي يموت، والموت بالنسبة إلي ليس مشكلا، خاصة على مستوى الأفق العاطفي والعلاقات الشخصية، لأن الموت أينما نذهب سنجده بين أحضان الحياة، وليس المشكل في الموت أو الحياة بحد ذاتهما، بل كيف نحيا وكيف نموت، وأنا لا أعنى بهذا الموضوع إطلاقا، بل أهتم بأن أعطي لحياتي وموتي معنى. لم أطرح المسألة باعتبارها مشكلا، بل باعتبارها عنوانا للاختمار بالتجارب والحِكم التي تترسب عبر مراحل العمر؟ على هذا المستوى هناك أفقان: شخصي محض، واجتماعي عام. الأفق الشخصي ذاتي، بمعنى أن يمضي الإنسان حياته كلها، دون القدرة على الإجابة عن سؤال أساسي هو: ما سر هذا العالم؟ أما على المستوى العام هو أن ينقل بوصفه كاتبا يعيش في عالم إلى الناس حوله، هذه الطريق التي سار أو يسير فيها. اتسمت طفولتك بالافتتان بسحر الغموض والكلمات الغريبة، هل هذا هو الذي قادك إلى الأدب؟ تربيت في هذا المناخ ونشأت هكذا، بدل أن أستمر فلاحا أو اختار مهنة أخرى، وجدت نفسي تلقائيا، في عالم الكتب والكتابة، وربما هذا راجع إلى والدي الذي عاش في وسط مفعم بالتدين والتصوف، وهو ما دفعني إلى حفظ القرآن مبكرا، والاتجاه نحو الانفتاح على الشعر والأدب وملاحقة المعاني، وتعلمت في البداية على يديه مباشرة، إذ لم تكن هناك في قريتنا مدرسة، بل لم تكن هناك أية وسائل أخرى فلم أعرف المذياع ولا السيارة ولا الكهرباء حتى بلغت الثالثة عشرة من عمري. مفارقة عجيبة، رغم أنك تعرفت على وسائل الحداثة متأخرا، إلا أنك صرت من أشد المدافعين عنها. عموما الحداثة كلمة فضفاضة، ولم يعد لها أي معنى في الوقت الحالي، ما الحديث؟ يمكن أن يكون هناك فلاح بسيط مع نخلته أو حقله أكثر حداثة من طيار يدمر العالم بأحدث الوسائل التقنية في لحظة واحدة، هذه مفردات فرغت من معانيها، الحداثة يمكن أن تكون في بعض أوجهها أسوأ من أي قديم كان. تشبعت بالأدب في وسط قروي.. هل كان الوالد يجمع بين الفلاحة والأدب؟ فعلا جمع بين ذلك، وكان أول من فتح لي طريق الأدب والمعرفة، وفي ظله كتبت أول قصيدة وأنا طفل، ولهذا فأنا في الواقع وليد أمّين: أمي الطبيعية/ البيولوجية، والأم الثانية هي القصيدة التي جعلتني أتجاوز وضعي والشرط الذي ولدتُ فيه، عن طريق المدرسة والتعلم، وتفتح أمامي كل الآفاق. هل كان الوالد يوجهك نحو كتابة الشعر؟ لا لم يفعل ذلك بشكل مباشر، إذ لم يكن يقول لي افعل كذا ولا تفعل كذا، أشركني في ما يحب أن يقرأ ومنحني ما رآه قد ينفعني في تكويني المعرفي وترك لي حرية الاختيار، حتى عندما كتبت القصيدة الأولى التي قادتني إلى الطريق التي أوصلتني إلى ما أنا عليه، لم يقل شيئا، بل أوضح لي أنني اخترت طريقي بنفسي وعلي أن أتحمل مسؤوليتي فيه. يبدو أن تأثير الأب كان حاضرا في كتابك الموسوم "ديوان الشعر العربي"؟ ليس إلى هذا الحد، بل إن كل ما يتعلق بمحبتي للشعر العربي لم يأت من جهة الأب. وما الدافع إلى تأليف هذا الكتاب؟ هذا الكتاب جاء فترة طويلة بعد وفاة والدي، ولم تكن له علاقة مباشرة به، خلال إعدادي لهذا الكتاب الذي ضم منتخبات من نفائس الشعر العربي القديم عبر مختلف مراحله التاريخية، تبين لي أن لكل شاعر لغة، ولا يكفي أن يكتب قصيدة لكي نسميه شاعرا. الشاعر خلاّق آفاق، وبوصفه كذلك فإنه يعيد كتابة تاريخه بشكل أو بآخر، ومع انغماسي في دراسة الثقافة العربية والاطلاع على الشعر، رأيت أن ما تلقيته في المدرسة، بعد التحاقي بها في ما بعد، ثم الجامعة لا يتطابق مع ما قرأت وبالتالي لا يعنيني في شيء، لذلك كنت أبحث عن الشعر العربي كما نشأت عليه، ففكرت في كتابة تاريخ آخر لهذا الشعر، لأني أعده شعرا عظيما وسط مختلف التجارب الشعرية الإنسانية التي اطلعت عليها، لكن المشكل أن المجتمع العربي حوّل الشعر، في فترات متأخرة، إلى "وظيفة" وقتل فيه الأبعاد الجمالية. لماذا ليس هناك سوى المديح والهجاء والرثاء والغزل، وكأن الشعر أصبح ظاهرة اجتماعية قابلة للإلحاق والتوظيف، ولا ينبغي أن يكون له كذلك، بل الشعر يمكن أن يستخدِم كل شيء ويوظِّف كل شيء، لكنه لا يُوظَّف أبدا، ولهذا قلت إنني سأحاول أن أعيد للشعر العربي دوره الأساس في رؤية العالم، وفي الكشف عن أسراره بطريقتي الخاصة. هل تعتقد أن أفق الحداثة الشعرية الذي فتحه جيلك ما زال له معنى؟ موضوع "الحداثة الشعرية" معقد جدا ومتضارب، ومليء بسوء الفهم، فمنذ الخمسينات، ومنذ تجربة مجلة "شعر"، انتبهت إلى أن الحداثة هي الموضوع النقدي العربي في تاريخ الشعر العربي منذ القرن الثامن الميلادي، أي قبل أن ينبثق مفهوم الحداثة في أوربا بألف سنة، وبقيت هذه المشكلة على امتداد قرنين، إذ أن مفردات الحداثة هي مفردات عربية، وابتكرت في اللغة العربية: الحدث والإحداث والقديم والجديد. لقد نسينا كل هذا، وصرنا نبحث عن الحداثة ونأخذها من الغرب رغم أنها نشأت هناك في ظروف مختلفة عنا حضاريا وتاريخيا، وفي ثقافة مغايرة، وفي مجتمعات تقوم على أسس غير التي تقوم عليها مجتمعاتنا، أي أننا أخذنا الحداثة كما نأخذ اليوم السيارات والطائرات ومختلف الوسائل التقنية الحديثة باعتبارها منجزات، ولكن نرفض الأسس العلمية والعقلية التي انبنت عليها وأدت إلى تحقيقها، هذا هو التناقض الأساسي الذي يطبع علاقتنا بالحداثة، لذلك علينا أن نعيد النظر فيه. كيف ذلك؟ هناك مسألة أخرى سأشير لها في هذا السياق وهي أن الحداثة لم تنشأ في أوربا إلا بعد أن طرحت أسئلة جوهرية على الدين، وهو الأمر الذي لم يطرحه أحد عندنا ولا يستطيع أن يطرحه، فهناك عالم هائل ومكبوت ومحجوب في الحداثة العربية، الأمر الذي يجعلها حداثة شكلية، في كل مستوياها بما فيها الأدبي، إذ أننا نتعامل مع الشعر كما الآلة نوظفها ولا ننجزها. بمعنى أنه موضوع دقيق ويجب أن يعاد فيه النظر كليا. لكن كيف نربط الحداثة اليوم بالشعر العربي القديم؟ هذا مع الأسف ينقلنا إلى مشكلات المجتمع العربي السياسية، فنحن لم نخرج بعد من العصر الديني بالمعنى العميق للكلمة، ولذلك عقلنا وروحنا وكتابتنا من الصعب أن تكون حديثة، لأنها لا تجرؤ أن تطرح سؤالها على ما يشكل حياة العرب وثقافتهم وقيمهم وهو الدين. أتوقف معك عند كتاب "الثابت والمتحول" الذي شكل ظهوره، مطلع السبعينات، حدثا ثقافيا، ومن خلاله تتبعت فيه عنصري "الاتباع" و"الإبداع" في العقلية العربية عبر مسار تاريخي وأدبي وفكري طويل، الملاحظ أنك كنت فيه "منحازا" لكل ما هو "متحول" في الثقافة العربية؟ خلال اللحظة التي ظهر فيها الكتاب، كانت هناك طريقتان سائدتين للتعامل مع التراث، أولاهما الطريقة اليسارية الماركسية التي تنظر إلى التراث بأدوات لم تنشأ من التراث، بل هي مستعارة، ولذلك لم تضف للتراث شيئا بل زادته عتمة، وهناك الطريقة الثانية التي أعادت كتابة التراث ودراسته ونقله بشكل أو بآخر، لكن بقناعات مسبقة، تحول دون طرح أي سؤال أساسي على الدين، بل تتفادى ذلك، وتعيد كتابة المكتوب التراثي بصيغة فقهية وبلباس الأوربي، وهو الاتجاه الذي مثله مفكركم الراحل محمد عابد الجابري. لم أتبع الطريقتين لأنني وجدتهما لا تضيئان موقفي من التراث، ولا تفيداني شيئا، فقد أردت أن أفتتح طريقا أخرى وهي النظر إلى التراث العربي بأدواته ذاتها، وأقرأ النصوص: ما الذي تحول؟ وما الذي ظل ثابتا؟ ولماذا كان هناك أبو نواس وأبو تمام والمعري والمتنبي؟ ولماذا ظل الخيط الثابت التقليدي متماسكا حول السلطة ومؤسساتها التربوية والتعليمية واستمر قرونا حتى الخمسينات من القرن الماضي. كما تتبعت الجدلية العميقة التي نشأت في التراث، وأدت إلى ظهور التصوف الذي كان بمثابة ثورة معرفية كبرى، لم يعترف بها "الثابت" بل أدانها انطلاقا مما ينهض عليه من أسس سلطوية ودينية، كما أنه من خلال هذا الكتاب تكتشف بذور الحداثة عند شعراء سابقين وقضايا طرحوها منذ أزيد من ألف سنة، وأعيد طرحها في ما بعد على يد أدباء أوروبيين، تتعلق بالصراع بين الأبدي والزائل، والخروج من الثقافة المرتبطة بالقيم الدينية والعودة إلى الحياة ذاتها وإلى الجسد الإنساني وهذا هو أساس "التحول" الذي نشأ في الثقافة العربية وعكسه شعرها وأدبها، لكن طمسته علاقتنا بالغرب وثقافته وبتنا نعتقد أنها جاءت منه، كما طمسته المؤسسة السياسية بالتعاون مع المؤسسة الدينية. يبدو أن هذه المؤسسات لم تطمس فقط "المتحول" بل حتى "الثابت" من خلال الحروب المعلنة باسم الدين؟ في هذا السياق أقول إن الأديان تتغير وتحدث فيها انشقاقات، كما حدث في المسيحية، لدرجة أنه لم يعد شخص المسيح موجودا بل صارت هناك الكنيسة محله، وصار الدين رأسمالا سياسيا واقتصاديا، وهذا ما حدث أيضا للإسلام الذي تحول اليوم إلى مجرد رأسمال اقتصادي واجتماعي وأصبح وظيفة، وبدل أن يظل الدين أفقا للتأمل والتفكير والبحث في أسرار الوجود والكون والإنسان، أصبح أشبه بوظيفة ومصرف أو بنك مدرّا للربح، يستخدم في جميع مناحي الحياة وترتكب باسمه الجرائم، كما حدث في الربيع العربي، الذي أعتبره من أوحش فترات التاريخ، إذ باسم الله وباسم الإسلام هدمت منجزات البشرية. كيف يمكن أن تهدم حضارات مثل الفرعونية والبابلية والآشورية والسومرية والفنيقية التي انبنى عليها العالم، فقصيدة الحب الأولى والملحمة الأولى والأبجدية الأولى التي مدّنت العالم وحتى الأديان نفسها من هذه البلاد، فأكبر من الجرائم التي ارتكبت باسم الإسلام في الربيع العربي هو سكوت المسلمين على هذه الجرائم، وكأن الجمع مخدر وراض عما حدث.