تستضيف "الصباح" خلال كل جمعة من شهر رمضان، سياسيين ورياضيين ومثقفين ونقابيين وفاعلين جمعويين، في إطار ركن "فطور الصباح"، لمناقشة قضايا موضوع جدل واهتمام من قبل المواطنين. الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الخاصة للنموذج التنموي طالب بإعادة النظر في خيارات مخطط التنمية الفلاحية رصد محمد بنموسى، الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الخاصة لإعداد النموذج التنموي، مواطن الخلل في السياسات العمومية المعتمدة وتداعياتها على المواطنين، خلال استضافته في فطور مناقشة رفقة الحسين اليماني النقابي ومنسق جبهة إنقاذ "سامير"، مشيرا، بهذا الصدد، إلى أن جل الإصلاحات التي جاء بها النموذج التنموي الجديد مغيبة عن البرنامج الحكومي، مثل الإصلاح الجبائي الذي كان سيوفر لخزينة الدولة موارد إضافية لا تقل عن 50 مليار درهم. واعتبر أن قرار بنك المغرب رفع سعر الفائدة الرئيسي خطأ اقتصادي وتقييم خاطئ لأسباب التضخم، الناتج، حسب بنموسى، عن خلل في العرض وليس بفعل زيادة في الكتلة النقدية. أجرى الحوارين: عبد الواحد كنفاوي وبرحو بوزياني - تصوير (فدوى الناصر) - أثارت موجة الغلاء تباينا في وجهات النظر، كيف تقيمون هذا الجدل القائم، حاليا، حول الموضوع؟ - يمثل التضخم بالمغرب مشكلا كبيرا، وتعرفه جل بلدان العالم، حاليا، لكنه يتميز ببعض الخصوصيات ببلدنا، إذ أن المنبع كان خارجيا، خلال 2022، من خلال المواد التي نستوردها وعلى رأسها المواد الغذائية والنفطية، لكن ما زاد الطين بلة، هو تحول مصادر التضخم إلى عوامل داخلية، إذ أن مهنيين وفاعلين في بعض القطاعات الاقتصادية استغلوا التضخم المستورد، ليضاعفوا أسعارهم إلى خمس مرات في بعض الأحيان، في غياب أي مراقبة من قبل السلطات العمومية. وهكذا تحول التضخم المستورد إلى داخلي وانتشر في جميع القطاعات والمناطق وشمل جميع المواد الذي يستهلكها المغاربة، ووصل، حاليا، إلى مستوى خطير في ما يتعلق بالمواد الغذائية واسعة الاستهلاك. - هل تعتقد أن الإجراء الذي اتخذه بنك المغرب برفع سعر الفائدة الرئيسي كانت صائبا؟ - من وجهة نظري، لم يكن قرار بنك المغرب سليما ومن شأنه أن يؤزم الوضع أكثر، لما ستكون له من انعكاسات على الاستثمارات، إذ عمد البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي ثلاث مرات، ما بين شتنبر 2022 و مارس الماضي، لينتقل من 1.5 في المائة إلى 3، دون أن تكون لذلك أي نتيجة في ما يتعلق بالحد من الضغوط التضخمية، بالنظر إلى أن التضخم الذي يعرفه المغرب غير ناتج عن زيادة في الكتلة النقدية، بل الأمر يتعلق بارتفاع للأثمنة، نظرا لعوامل خارجية وظرفية دولية، وكذا بسبب الاختلالات التي تعرفها الأسواق الداخلية، المتمثلة في كثرة المضاربين والسماسرة، ما يجعل أن الفلاح الصغير يعرض منتوجه بسعر بسيط جدا، لكن هذا المنتوج يصل إلى قفة المستهلك بثمن مضاعف بمرتين أو ثلاث مرات وفي بعض الأحيان يصل الفارق إلى خمس مرات، ما يبرهن على أن هناك اختلالات كبيرة في أسواق الجملة وفي سلاسل التوزيع، وهذا لا يتطلب رفع سعر الفائدة الرئيسي، الذي أعتبره خطأ اقتصاديا كبيرا، بل يفرض تدخل الحكومة، من خلال تفعيل آليات التفتيش والمراقبة، أولا، ثم عليها إعمال الفصل 4 من قانون حرية الأسعار والمنافسة، الذي يعطي السلطة للحكومة لتقنين أسعار بعض المواد في ظروف استثنائية، والتي نعيشها حاليا. المطلوب فلاحة للأمن الغذائي - المندوب السامي للتخطيط أكد في تصريح صحافي أن المشكل يكمن في العرض وليس في الطلب، ألا يسائل ذلك بعض السياسات القطاعية؟ - أشاطر رأي المندوب السامي للتخطيط، لدينا، بالفعل، أزمة عرض، إذ أن المنتوج الوطني غير كاف لتغطية حاجيات المواطنين، علما أن جزءا كبيرا من المنتوج يصدر إلى الخارج، وهنا يكمن الخلل في الإستراتيجيات القطاعية، ما يجعلنا نتساءل حول نجاعة بعض السياسات القطاعية وبالأخص "المخطط الأخضر" وحاليا "الجيل الأخضر"، الذي يمتد ما بين 2020 و 2030، إذ يتعين علينا إعادة النظر في الإستراتيجية الفلاحية وأن نكون واعين بأن تكون أولوية هذه الإستراتيجية في ضمان الاستقلالية الفلاحية للمغرب والأمن الغذائي للمغاربة، قبل أن نفكر في التصدير، علما أن صادرات القطاع هي عبارة عن منتوجات خام لا تخضع لأي تصنيع، وعندما نصدر مثل هذه المواد، فكأنما نصدر طاقة مائية، يوجد المغرب في أمس الحاجة إليها. لكن الأزمة التي نعيشها حاليا تسائل، أيضا، نجاعة السياسة الصناعية، إذ عرف المغرب أربع إستراتيجيات لتنمية القطاع الصناعي منذ 2005. ورغم بعض الإنجازات على مستوى قطاع السيارات وصناعة الطيران، لكن مساهمة الصناعة في الاقتصاد الوطني تظل محدودة، بل عرفت تراجعا، إذ أنها كانت تمثل، خلال 2014، حوالي 16.5 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، فتراجعت حصتها، في 2022، إلى 15.7 في المائة. وبالرجوع إلى المجهود الذي تبذله البنوك من أجل تمويل المشاريع الصناعية، نجده ضعيفا جدا، إذ في غضون عشر سنوات، ما بين 2012 و2022، زاد حجم التمويلات البنكية للاقتصاد الوطني بحوالي 300 مليار درهم، ليصل إلى ألف مليار درهم. وعندما نلاحظ حصة القطاع السياحي نلاحظ أن الأرقام كارثية، إذ عرفت انخفاضا، إذ أن القروض البنكية الموجهة للصناعة كانت في حدود 23 مليار درهم، خلال 2012، فتقلصت إلى أقل من 18 مليارا، ما يعكس اختلالات كبيرة ونواقص كثيرة في السياسات الفلاحية والصناعية. الاقتراض يهدد استقلالية القرار الاقتصادي - أصبحت الحكومة تفتخر بالحصول على قروض خارجية، ألا ترون أن الإفراط في المديونية من شأنه أن يرهن الاقتصاد الوطني؟ - أكيد أن الإفراط في الاقتراض أصبح مسألة مقلقة، إذ أن المديونية العمومية، التي تشمل الخزينة العامة والمقاولات والمؤسسات العمومية والجهات والجماعات الترابية، أصبحت تناهز 1100 مليار درهم، ما يمثل ما بين 85 و 87 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، وتكلف خدمة الدين خزينة الدولة في ميزانية 2023، 109 ملايير درهم، ما يمثل الرتبة الأولى في تكاليف ميزانية الدولة، إذ تفوق ميزانية الأمن الداخلي والخارجي، التي تناهز 92 مليار درهم، والتربية الوطنية والتعليم العالي والتكوين المهني، التي تناهز 86 مليار درهم، ما يعكس العبء الكبير الذي تمثله المديونية على ميزانية الدولة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر ذلك مفخرة، بل إكراها يجب تجاوزه، إذ أن الاستمرار بهذه الوتيرة في الاقتراض يثير مخاطر حول استقلالية القرار الاقتصادي مستقبلا. إجراءات قوية وجريئة - هل يعكس هذا الإفراط في الاستدانة عجز الحكومة عن تعبئة الموارد؟ يؤكد هذا الوضع أن الحكومة غير قادرة، مع الأسف الشديد، على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ويعكس عدم قدرة الحكومة على توسيع مصادر الموارد الضريبية، ويحيل هذا الأمر على موضوع الإصلاح الضريبي، الذي لا نجده في قانوني المالية 2022 و 2023. كما أن هناك غياب سياسة فعالة لتعبئة الموارد المالية من المقاولات والمؤسسات العمومية، التي تشكل، حاليا، عبئا على ميزانية الدولة، إذ أن التحويلات المالية بين ميزانية الدولة وهذه المؤسسات سجلت، خلال 2022، خسارة بالنسبة إلى الميزانية العامة بقيمة 39 مليار درهم، وعندما نقيم هذه العلاقة المالية على المدى الطويل، ما بين 2012 و 2022، فإن حجم الخسارة يفوق 260 مليار درهم. فإذا كانت الحكومة تفرط في اللجوء للاقتراض، فلأن الحاجيات وانتظارات المواطنين كبيرة، إضافة إلى الورش الكبير لتعميم التغطية الاجتماعية الذي سيكلف 51 مليار درهم سنويا، لكن هذا الإفراط هو ناتج عن عدم قدرة الحكومة على ابتكار حلول من أجل تعبئة موارد إضافية، ما يدفعها إلى الاقتراض، لأنه خيار سهل، لكنه يقلص من استقلالية القرار الاقتصادي ببلادنا، وهي سياسية ذات عواقب غير مطمئنة. ويفرض الوضع الحالي على الحكومة اتخاذ إجراءات جريئة وقوية، من قبيل الإصلاح الجبائي وإصلاح القطاع البنكي وتفكيك مواطن اقتصاد الريع، وإصلاحات هيكلية أخرى، بما يضمن توسيع الوعاء الضريبي لرفع الموارد الجبائية وتعبئة موارد غير ضريبية. تجاهل النموذج التنموي الجديد - كنتم ضمن أعضاء اللجنة التي سهرت على إعداد النموذج التنموي الجديد، هل هناك تنزيل حاليا لمضامين هذا النموذج؟ - هذا سؤال يجب أن يطرح على الحكومة، باعتبارها المسؤولة عن بلورة السياسات العمومية، كما يتعين أن يطرح على أعضاء البرلمان، باعتباره سلطة التشريع ومراقبة عمل الحكومة. لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن لدي تقييما سلبيا جدا، في ما يتعلق بهذا الجانب، إذ أعتبر أن البرنامج الحكومي في واد والنموذج التنموي الجديد في واد آخر، رغم أن الحكومة تلتزم في برنامجها أنها ستعمل على تفعيل النموذج الجديد، لكن عندما نفتحص التدابير العملية المتخذة من قبل الفريق الحكومة، نلاحظ أنه ليس هناك أي تفعيل لتوصيات ومحاور النموذج التنموي الجديد، باستثناء قطاعين أساسيين، ويتعلق الأمر بقطاع التغطية الاجتماعية، الذي يعتبر ورشا ملكيا يتابعه صاحب الجلالة عن كثب، والتربية الوطنية، الذي يمكن القول إنه يعرف وتيرة لابأس بها في تفعيل الإصلاحات التي جاء بها النموذج التنموي، علما أن الوزير المكلف بهذا القطاع، هو الذي كان يرأس اللجنة الخاصة للنموذج التنموي. وباستثناء هذين القطاعين، فإن المشاريع والإصلاحات الهيكلية التي جاء بها النموذج الجديد مفقودة بتاتا في البرنامج الحكومي، ما يطرح السؤال حول أسباب هذا التغييب. المحروقات قطاع ريعي بامتياز - ماهي الإصلاحات التي جاء بها النموذج التنموية وتم تجاهلها من قبل الحكومة؟ > كان من المفروض اعتماد كل الإصلاحات الهيكلية التي جاء بها النموذج، وعلى رأسها تفكيك اقتصاد الريع، إذ في غياب ذلك سنظل في وتيرة نمو في حدود 2.5 في المائة إلى 3.5 أقصى درجة، في حين أننا نحتاج إلى نمو اقتصادي يصل إلى 6 في المائة كل سنة باستمرار على مدى 15 سنة. ولكي نحقق ذلك يجب العمل على تفكيك مواطن اقتصاد الريع، وليس هناك خيار آخر. ويتعين تحديد هذه المواطن، وقد تحدثنا عن قطاع المحروقات، الذي يعتبر قطاعا ريعيا بامتياز، هناك أيضا القطاع البنكي، والتأمينات ومقالع الرمال والحجارة ومأذونيات الصيد البحري ونقل البضائع، ما يفرض جرأة وشجاعة سياسيتين ورؤية شمولية، من أجل تحرير الطاقات الوطنية ومبادرات القطاع الخاص، وتحفيز بروز مقاولين جدد شباب، لإحداث ثورة وثروة اقتصادية ببلادنا. هناك إصلاحات مهمة جدا يتعين اعتمادها، أيضا، إذا أردنا أن نكون وفيين للنموذج التنموي، ويتعلق الأمر بالإصلاح الضريبي، علما أن المداخيل الضريبية متواضعة جدا، إذ لا تتجاوز 265 مليار درهم سنويا، أي ما يناهز ضغطا جبائيا يتراوح بين 20.5 في المائة و21 من الناتج الداخلي الخام، في حين يصل في الدول الضريبية، التي لديها التسعيرات ذاتها للضرائب الأساسية (الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الدخل والضريبة على الشركات)، إلى 40 في المائة، فهناك، إذن، خلل كبير. يجب أن نعلم أنه إذا فعلنا الإصلاحات الجبائية، التي جاء بها النموذج التنموي، والغائبة في قانوني المالية 2022 و2023، سنتمكن من رفع الموارد الضريبية بقيمة تتراوح بين 50 مليار درهم و60 مليارا كل سنة. كما يتعين إصلاح القطاع البنكي والمالي لتحرير تمويل المقاولات، الذي يعد من ضمن العوائق الكبيرة التي يشتكي منها أرباب المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وتفضل البنوك، حاليا، إقراض الشركات الدولية والكبرى، واقتناء سندات الخزينة، في حين أن دور القطاع البنكي هو تمويل المقاولات.