مستشفيات مراكش … اختلالات التدبير

ضغط وعجز ينذران بشلل تام والقطاع الخاص أكبر مستفيد يشهد وضع الخدمات الصحية العمومية بمراكش ضغطا يهدد بالعجز، إذ صار المركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس يمنح للمواطنين مواعد علاج في نهاية 2017 بسبب الإقبال الكثيف الذي جعله يتجاوز طاقته الاستيعابية بنسبة 33 في المائة، ويشار بأصابع الاتهام في ذلك إلى المستشفيات الجهوية والإقليمية التي لا تقوم بمهامها. هنا "زووم" على واقع الحال. "باش نجيك من الأخير، في مراكش لا وجود لخريطة صحية ولا عرض صحي !"، يقول بيقين مثير للانتباه وبلهجة مراكشية لا يخطئها السمع، إبراهيم المومن، نقابي متمرس في قطاع الصحة بمراكش وكل المرشدين بالمدينة يوصون باللقاء به. الخلاصة السوداء واليقينية لإبراهيم، نطق بها و"الصباح" بصدد البحث عن تفسير منطقي لمشاهد لا يتقبلها العقل رصدتها خلال جولة بمستشفيات المدينة، ومنها عدم تردد مصلحة المواعد الطبية بالمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس في منح مرتفقين قصدوها تاريخ ماي 2017، أي بعد حوالي سنة من الآن، موعدا لإجراء عملية جراحية! ضغط كبير منح المرضى مواعد للعلاج تلزمهم بالانتظار إلى غاية ماي 2017، ظاهرة عامة بالمركز الجامعي، باعتراف أطباء وممرضين، وتأكدت منها "الصباح" بقسم الأمراض الصدرية بمستشفى الرازي للتخصصات، حيث لم يتردد ممرض رئيسي أوصى بالتكتم على هويته، في إطلاع "الصباح" على نموذج ومجموعة من الحقائق الخطيرة. يطلب الممرض الرئيسي من مساعد له أن يمده بجداول وخطاطات معلقة سلفا على سبورة مقابلة لطاولة مكتبه، يتسلمها فيقول: "في هذا الجدول نجد أن قسم جراحة الأمراض الصدرية، عالج 176 مريضا في الفترة من يناير إلى يونيو، وبقسمة العدد على 6 أشهر، يتبين أنه خلال كل شهر يتكفل القسم بحوالي 26 حالة، في حين أن طاقته الاستيعابية محددة في 17 سريرا". لا تتوضح الفكرة التي يريد الممرض الرئيسي إيصالها إلا حينما يقول: "يبدو التساؤل مشروعا حول كيف أمكننا تجاوز الطاقة الاستيعابية؟ إنه أمر بسيط لكنه خطير وفرضه الإقبال الشديد على خدمات القسم، فرغم أن جراحة الأمراض الصدرية من العمليات الدقيقة التي تتطلب الاحتفاظ بالمريض ووضعه تحت المراقبة لمدة 10 أيام على الأقل بعد التدخل الجراحي، يضطر المستشفى إلى مطالبة المرتفقين بالمغادرة بعد 5 أيام، لإخلاء السرير لحالة جديدة". الأدهى من ذلك، أن مستشفى الرازي للتخصصات يبقى أفضل مستفشيات مراكش الآن، فقد اختير ليكون المستشفى الرسمي للمؤتمر الأممي للمناخ (كوب22) المرتقب تنظيمه بالمدينة الحمراء في نونبر المقبل، "رغم أنه لا يتوفر إلا على جهاز سكانير واحد لـ33 مصلحة وقسما طبيا يتكون منها المستشفى، كما لا يتوفر على قسم مستعجلات"، يؤكد الممرض نفسه. الوضع الذي يوجد عليه مستشفى الرازي للتخصصات هو نفسه الذي تشهده باقي المستشفيات المكونة للمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس، وهي ابن طفيل وابن النفيس، ومستشفى الأم والطفل، ومستشفى الأنكولوجيا وأمراض الدم، والتي يصل مجموع طاقتها الاستيعابية 1548 سريرا يتم فيها سنويا استقبال 450000 مريض، بنسبة ملء نسبتها 133 في المائة، أي أن المستشفى يتجاوز طاقته الاستيعابية بنسبة 33 في المائة. سوء تخطيط مسالك العلاجات، التي تحدثت عنها المديرية العامة للمركز الاستشفائي، هي ما يعرف بـ"المستويات الثلاثة للعلاج بالمغرب"، ويقصد بها أن العرض والخريطة الصحيين بالمغرب يتكونان من ثلاثة مستويات متكاملة في ما بينها: المستوى الأول يتمثل في المراكز الصحية الحضرية والقروية، والثاني يتجسد في المستشفيات الإقليمية والجهوية، والثالث هو المستشفيات الجامعية. وتبعا لذلك، يبدو علاج مشكلة المركز الاستفشائي الجامعي بمراكش مسألة تنظيمية بالأساس، أي أن "الأشخاص والمؤسسات" عليهما الكف عن إيفاد كل الحالات المرضية على المركز والحرص على احترام المسالك العلاجية، من قبيل أن يتوقف المستشفى الإقليمي بابن جرير، مثلا، عن توجيه الحالات المستعصية عليه، مباشرة إلى المركز الجامعي محمد السادس بمراكش، ويوجهها بدلا من ذلك إلى المستشفى الجهوي ابن زهر بمراكش. في الحقيقة المشكلة أكبر من مجرد قرارات تنظيمية، وذلك ما يظهر حين اللقاء بإبراهيم المومن، إطار صحي متمرس بمراكش وهو عضو المكتب الوطني للفدرالية الديمقراطية للشغل والمنسق الجهوي لقطاعاتها النقابية في ميدان الصحة العمومية بمدينة النخيل، وهي الصفة التي تجعله مواكبا على نحو جيد وتجعله على علم بكل التفاصيل والمستجدات. "لفهم الاختلالات التي يعيشها العرض والخريطة الصحيان بمراكش، لا بد من العودة إلى التاريخ"، يقول إبراهيم المومن، موضحا: "في هذه المدينة توجد مرحلتان: ما قبل 2002، وما بعدها". فقبل تلك السنة التي تؤرخ للشروع في إحداث المركز الجامعي وتشييده، كانت بالمدينة أربعة مستشفيات جهوية، هي ابن طفيل ويختص في الجراحة العامة والولادة، والرازي للاختصاصات، وابن النفيس للأمراض العقلية وابن زهر للجراحة العامة وطب الأطفال، فكان فعلا بالمدينة عرض صحي". ما المشكلة إذن في تعزيز تلك المستشفيات بمركز جامعي يعد قائدها؟ يجيب النقابي قائلا: "المشكلة كانت في سوء التخطيط والافتقاد إلى بعد النظر ولو على المدى المتوسط ناهيك عن البعيد، وهو بعد النظر المتعلق أساسا بموقع بناء المستشفى الجامعي، ونبهت إليه نقابتنا في إبانه (2002)، حينما دعت إلى أن يبنى بالقرب من الموقع الذي شيد عليه الملعب الكبير لمراكش وعدم إعدام المستشفيات الجهوية الموجودة، لكن لم يستمع إلينا أحد". وبسبب اختيار وزارة الصحة تشييد المركز الجامعي محمد السادس داخل مراكش، أعدمت وجود مستشفى الرازي حينما شيدت فوقه وألحقت به ابن طفيل وابن النفيس، فلم يبقى لدى مراكش إلا مستشفى جهوي واحد هو ابن زهر المعروف محليا بـ"المامونية"، في حين كان بإمكان المدينة أن تتوفر على أربع مستشفيات جهوية يضاف إليها واحد كبير هو المركز الجامعي محمد السادس. وبفعل "إعدام" المستوى الثاني، الذي توفرت عليه مراكش في الماضي، صارت باقي مستشفيات المستوى الأول، من مراكز حضرية صحية إقليمية حضرية وقروية، مجرد "محطات" و"غرف تسجيل" يتوجه إليها المرضى، قبل توجيههم مباشرة إلى المركز الاستشفائي الجامعي. ويعد المستشفى الإقليمي الرحامنة لابن جرير، أبرز دليل على ذلك، إذ وقفت فيه "الصباح"، على كيف أن أغلب الحالات التي ترد عليه، توجه مباشرة إلى مراكش، بسبب عجزه، رغم أنه كان موضوع أشغال تجديد وتوسيع حديثا. وتوجد حالة مريض، يعتمدها الجميع مثالا دقيقا على تحول المستشفيات الإقليمية بجهة مراكش إلى "محطات عبور" ما يسبب الضغط على الطاقة الاستيعابية للمستشفى الجامعي، وتتعلق بشاب من دوار "الجويدات" بجماعة سيدي عبد الله بقيادة أولاد اتميم بالرحامنة الشمالية، أفرط في تناول "الكرموس"، فأصيب بالإمساك، وبمستعجلات المستشفى الإقليمي ابن جرير، عجزوا عن علاجه وتقرر إحالته على المركز الجامعي بمراكش، فلقي مصرعه قبل أن يصل إليه بفعل "الإمساك"! استغلال الوضع وسط اختناق الوضع الصحي بمراكش، تختفي فوضى في التدبير واستغلال للوضع، وذلك ما يتجسد في تدبير انتشار الموارد البشرية، وفي الصفقات، ما ولد وضعا تعد المصحات الخاصة أكبر مستفيد منه. فعلى مستوى الموارد البشرية، وبسبب الوضعية السيئة للتجهيزات وغياب أدوات العمل بالمستشفى الجهوي ابن زهر، حسب إبراهيم المومن، عضو المكتب الوطني للنقابة الوطنية للصحة التابعة لمركزية الفدرالية الديمقراطية للشغل، تفرغ ثلاثة أطباء متخصصين في المسالك البولية للعمل في المصحات الخاصة. ولأن العجز المتفاقم للمرافق الصحية بمراكش، بات يتحمل كلفته الممرضون، بسبب قربهم أكثر من المرتفقين، من خلال التعرض لاعتداءات على يد المرضى والمرافقين الذين لا يعرفون تحديدا أسرار مكامن الخلل، باتت الأطر التمريضية، بالدرجة الأساس، هي الحاملة للواء المطالبة بالإصلاح. ويعد عبد الرحيم المرابط، الممرض الرئيسي بالمركز الاستشفائي الجامعي وقيادي نقابي شاب في الفدرالية الديمقراطية للشغل، نموذجا من أولئك الممرضين، واختص في رصد شبهات الصفقات بالمركز الاستشفائي الجامعي، فالتقته "الصباح"، وكشف لها عن نماذج لسوء التدبير المالي. وفي هذا الصدد، يشير المتحدث إلى صفقة التدبير المفوض للتغذية والمطعمة، "إذ تستفيد منها شركة واحدة على امتداد سبع سنوات، والأغرب أكثر، رصد لجان المراقبة لعدد من الخروقات ما حتم إقرار غرامات في حق الشركة تناهز 100 مليون سنتيم لإخلالها بدفتر التحملات، لم يمنع تجديد الصفقة مع الشركة نفسها". ولم يتم التوقف عند التجديد فقط، بل تم "الرفع من مبلغ الصفقة من مليار و900 مليون سنتيم إلى ثلاثة ملايير و300 مليون سنتيم، مقابل الجودة نفسها وكميات من الوجبات أقل من السابق!". وبمبرر معالجة الضغط، يتم إقرار صفقات إصلاح وإعادة تهيئة وهيكلة، يتحفظ عليها النقابيون، إذ يشيرون مثلا، إلى "مشروع إعادة هيكلة مستشفى الأم والطفل الذي لم يمض على بنائه سوى ثماني سنوات، تم عبر تخصيص ميزانية ضخمة تكفي لبناء مستشفى إقليمي جديد بالمدينة الحمراء"، يقول إبراهيم المومن. ومازال الجميع بمراكش، يتذكر تفاصيل "صفقة القرن" التي فضحها الفيضان في 2013 لكن لم تطو بعد، ويتعلق الأمر بمعدات وآليات بلغت قيمتها المالية حوالي أربعة ملايير و300 مليون سنتيم، تم إبرامها بغاية تجهيز مستشفى الرازي بها قبل الانتهاء من أشغاله، فتم إيداعها بمستودع عشوائي ليأتي عليها الفيضان، ما استدعى إبرام صفقة أخرى لإصلاح تلك المعدات التي لم يسبق استعمالها، بمبلغ 400 مليون سنتيم. ويتفق أغلب الذين التقتهم "الصباح" بمراكش، أن المستفيد الأكبر من عجز المرافق الصحية بمراكش، هو المصحات الخاصة، فبسبب الأعطاب في الأجهزة والضغط على الخدمات، درجة تسليم مواعد لمرتفقين تحمل تواريخ نهاية 2017 وبداية 2018، يضطر المواطنون إلى دق أبواب المصحات والعيادات والمختبرات الخاصة. وبلغت استفادة المصحات الخاصة من أعطاب مرافق الصحة العمومية بمراكش "درجة أن بعض الجماعات الترابية بالجهة أبرمت اتفاقيات تعاون مع مصحات خاصة بالمدينة سعيا إلى توفير خدمات صحية جيدة لسكانها بدلا من وزارة الصحة العمومية". إن وضعية مرافق الصحة العمومية بمراكش، ترجح صلابة قناعة بدأت تتسرب إلى عقول كثير من المتتبعين للوضع، ومنهم النقابي إبراهيم المومن، ومفادها "أننا في النهاية أمام سياسة مركزية ومدروسة يتم تنزيلها، وترمي إلى القضاء على المجانية في قطاعي الصحة العمومية والتربية الوطنية والتعليم".ويستحضر المتحدث، في الدفاع عن صحة استنتاجه، قول عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، قبل أشهر: "حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن مجموعة من القطاعات الخدماتية، مثل الصحة والتعليم، إذ لا يجب أن تشرف على كل شيء، بل ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخاص". خمسة أطباء وممرضين لإجراء 80 ولادة يوميا أثناء الكشف عن تلك الأرقام من قبل مدير المركز الجامعي، في ندوة صحافية خلال مارس الماضي، كان صريحا جدا، وهو يقول إنها تعكس شيئا واحدا أسماه "ضغطا كبيرا تعانيه المستشفيات التابعة للمركز"، ما ينعكس على جودة الخدمات. ولكي يؤكد المدير نفسه، أن الرقم غير طبيعي ولا يعني بتاتا نجاحا أو إنجازا للمركز الجامعي، كشف أن تجاوز القدرة الاستيعابية للمركز يتم على حساب حسن الاستقبال والتكفل، وأعطى مثالا بقسم الولادة، فقال إن "طاقما طبيا وتمريضيا، لا يتجاوز عدد أفراده خمسة أشخاص، يشرف على إجراء 80 حالة ولادة عادية و15 عملية ولادة قيصرية يوميا بالمستشفى الجامعي". واقعيا يعد المستشفى الجامعي محمد السادس بمراكش، الأكبر حاليا بجنوب المملكة، في انتظار إحداث مراكز استشفائية جامعية بالعيون وأكادير، غير أن ذلك ليس السبب الرئيسي في الضغط، فخلال استعراض الحصيلة في اللقاء نفسه من قبل مديريته العامة، قيلت عبارة أساسية ومهمة لكنها اختفت وسط زحمة الأرقام. ويتعلق الأمر بقول المدير إن "المركز يصعب عليه الاستجابة للحاجات المتزايدة بفعل العديد من الإكراهات الخاصة باحترام المواطنين والمؤسسات لمسالك العلاجات"، فماذا كان يقصد بالضبط بمصطلح "مسالك العلاجات؟" زرع الأعضاء... نقطة الضوء رغم الضغط الذي يعانيه المركز الاستشفائي الجامعي بمراكش بفعل العجز في المستويين الثاني والأول من سلسلة العلاج، إلا أن حصيلته على مستوى البحث العلمي والتكوين، تبدو مضيئة، وهو ما يحرص ديوان وزير الصحة بنفسه، في التركيز عليه حينما يريد تسويق الجانب الوردي من صورة المركز، سيما برنامجه لزرع الأعضاء والأنسجة. وآخر المنجزات اللافتة للانتباه، الإعلان في نهاية يونيو الماضي، عن إحداث بنك للعظام، يعد الأول على الصعيد الوطني، وذلك في إطار تطوير المركز لبرنامج زراعة الأعضاء والأنسجة البشرية، بعد عشر سنوات من التخطيط، فبات ممكنا التبرع بالعظام لفائدة المرضى الذين يحتاجون إليها. ويرتبط المستشفى الجامعي محمد السادس بمراكش، في الفترة الأخيرة، بعمليات معقدة وتشكل سبقا بالمغرب، إذ احتضن إجراء أول عملية بالمغرب لزرع للكبد انطلاقا من متبرع حي بالمغرب، واستفاد منها طفل في العاشرة من عمره، وهي العملية ذات المستوى العالي التي تمت في إطار نظام المساعدة الطبية (راميد). وتنضاف تلك العمليات إلى أخرى، منها زرع القلب لطفلة تبلغ من العمر 14 سنة من متبرعة في حالة موت دماغي، لتجعل المركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بمراكش، الأفضل وطنيا في النجاح في تطوير برنامج زرع الأعضاء والأنسجة البشرية. وكشف تقرير آخر مجلس إداري للمركز الجامعي، نجاحه في القيام بـ40 عملية زرع للنخاع العظمي، 28 منها في إطار نظام المساعدة الطبية راميد، في الفترة الممتدة ما بين 2012 و2015، كما قام المستشفى الجامعي نفسه بـ184 عملية زرع للقرنية، و25 عملية زرع الكلي، و38 عملية زرع القوقعة علاج الصمم. امحمد خيي(موفد الصباح إلى مراكش) تصوير: (عبد اللطيف مفيق)

مستشفيات مراكش … اختلالات التدبير

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة تتمة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تكريم ياسمين عبد العزيز بالبيضاء

فيديو يطيح بعصابة

مقالات ذات صلة