كان اليسار المغربي، ذات زمن ليس ببعيد، قوة فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي والاجتماعي بالمغرب، إذ حمل هموم الكادحين والمهمشين، ورفع لواء النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، حتى أن شعاراته كانت تلهب حماس الجماهير، ومواقفه تشكل بوصلة للباحثين عن غد أفضل. لكن المتتبع للشأن السياسي اليوم يلاحظ تراجعا ملحوظا لهذا التيار، ليس فقط على مستوى النتائج الانتخابية، بل أيضا على مستوى التأثير والجاذبية، والأهم، على مستوى الالتزام بالمبادئ والقيم التي تأسس عليها. أحد التجليات الصارخة لهذا التراجع، والتي يتداولها البعض ولو على سبيل السخرية المرة، هي تلك الصورة النمطية لبعض المحسوبين على اليسار الذين يبدون وكأنهم انشغلوا بمظاهر حياة تبدو بعيدة كل البعد عن نبض الشارع ومعاناة المواطن البسيط، فالحديث المجازي عن "يساري السيكار الكوبي الفاخر" ليس مجرد انتقاد لنمط حياة شخصي، بل هو رمز عميق لانفصال محتمل عن الجذور، وتحول في الأولويات، فبدلاً من الانغماس في قضايا الفقر والبطالة والتهميش، والدفاع المستميت عن الحقوق والحريات، يبدو أن البعض أصبح مهتما أكثر بالبحث عن "الوجاهة" أو الانخراط في ألعاب السياسة ودهاليزها الضيقة، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ الكبرى. المفارقة تكمن في مصير تيار بنى شرعيته التاريخية على الدفاع عن المستضعفين ومناهضة الامتيازات والريع، قبل أن ينغمس بعض من ينتسبون إليه في مظاهر قد تفسر على أنها نوع من "البورجوازية الجديدة"، التي كان هو نفسه ينتقدها بشدة، فكيف يمكن رفع شعارات المساواة والعدالة، بينما الممارسات اليومية لبعض أعضائه قد توحي بغير ذلك، سواء عبر صفقات سياسية غير مفهومة، أو صمت مريب عن قضايا جوهرية، أو حتى تبني أنماط استهلاكية لا تتماشى مع خطاب التضامن المطلوب؟ إن قيم اليسار الأصيلة، التي يبدو أنها أصبحت باهتة في ممارسات البعض، واضحة وجلية تاريخيا، منها السعي لتقليص الفوارق الطبقية وضمان توزيع عادل للثروة وتكافؤ الفرص بين الجميع، والنضال من أجل المساواة بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء الاجتماعي، والوقوف إلى جانب الفئات الهشة والمهمشة والعمال والفلاحين والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم. عندما يغيب الانشغال الحقيقي بهذه القيم أو تتراجع في سلم الأولويات لصالح البحث عن مكاسب شخصية أو مواقع سياسية عابرة، يفقد اليسار بريقه وقوته وقدرته على التعبئة والتأثير، فأزمة اليسار المغربي ليست مجرد أزمة تنظيم أو خطاب، بل هي في العمق أزمة وفاء للمبادئ وتجسيد للقيم، فوهج المبادئ لا يمكن أن يطغى عليه دخان أي "سيكار"، مهما كان فاخرا. للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma