تطفو على السطح، بين الفينة والأخرى، تسجيلات لمكالمات هاتفية، تتضمن تصريحات مسيئة أو جرائم وادعاءات تمس بالحياة الخاصة، أو تشهر بالناس، وهي مكالمات، في واقع الأمر، جرت بين طرفين اثنين، لا ثالث لهما، إلا الله، لكن لسبب من الأسباب عمد أحد الطرفين إلى بثها ونشرها للعموم، سواء في وسائط التواصل الاجتماعي أو في غيرها، ما يطرح استفهامات حول المسؤولية الجنائية الناجمة عن الإضرار بالآخر بسبب تلك المضامين. فهل يعتد بالشريط المسجل دون علم صاحبه وإرادته في تعميمه وسيلة لإثبات الجريمة وتنزيل العقاب؟ أم أن الأمر يقتضي، خلاف ذلك، التريث للتأكد من مدى توفر القصد الجنائي في ارتكاب أفعال وسلوكات معاقب عليها، سيما أنه عنصر مهم من أركان الجريمة، وهو الركن المعنوي، الذي إذا غاب لا تقوم المسؤولية الجنائية، بل إن إثباته لا يقبل الافتراض، وينبغي أن يكون فعليا ومبنيا على علم وإرادة الجاني أو الظنين. لا أحد يجادل في اعتماد أي شخص على تسجيلات المكالمات الهاتفية دليلا لإثبات ما يتعرض له من تهديد أو تحريض أو غيره مما يشكل شبهات معاقب عليها قانونا، لكن شريطة أن يكون التبليغ تم وفق الشروط التي يحددها القانون، وهي نقل مضامين تلك المكالمات إلى الجهة الإدارية أو القضائية المختصة، للمطالبة بإجراء بحث ومساءلة المذنب، لكن أن تبث للعموم، فتلك قصة أخرى تختلف شكلا ومضمونا عن قواعد التبليغ القانونية، بل قد تزج بناشرها في متاهة المساءلة. المكالمات الهاتفية لها حصانة، شأنها شأن المراسلات والمنازل، إذ نص الفصل 24 من دستور 2011، في فقرته الثانية على أنه "لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها، ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلا أو بعضا، أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي، ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون". فأسمى قانون في المملكة، جرم خرق سرية المكالمات كيفما كان شكلها، وهذه قاعدة عامة، لا يمكن خرقها إلا بالقانون، وهو ما أتاحه المشرع الجنائي في الفصل 108، ليس للأشخاص، بل للجهات القضائية التي حددها في الفصل نفسه، بل إن التحديد لم يقتصر على من له الحق باعتراض والتقاط وتسجيل المكالمات، وتعدى ذلك إلى تضييق دائرة الجرائم التي يسمح فيها بخرق تلك القاعدة الدستورية، وهي الحالات التي تكون فيها الجريمة موضوع البحث تمس بأمن الدولة أو جريمة إرهابية أو تتعلق بالعصابات الإجرامية، أو بالقتل أو التسميم، أو بالاختطاف وأخذ الرهائن، أو بتزييف أو تزوير النقود أو سندات القرض العام، أو بالمخدرات والمؤثرات العقلية، أو بالأسلحة والذخيرة والمتفجرات، أو بحماية الصحة. للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma