أرقام مرتفعة تثير النقاش حول العوامل والأسباب التي تدفع شخصا إلى وضع حد لحياته يستفيق سكان سيدي موسى بسلا، في كل مرة، على خبر انتحار أحد الأشخاص بالشريط الساحلي للمدينة، تاركا الكثير من علامات الاستفهام. وقبل أيام قليلة اهتزت تيفلت على وقع ثلاث حالات انتحار في يوم واحد، والشيء ذاته بالنسبة إلى مدن أخرى. فالحوادث المتكررة لأشخاص قرروا انهاء حياتهم تدعو إلى طرح الكثير من الأسئلة، منها لماذا ترتفع حالات الانتحار في المغرب؟ وما هي العوامل التي تقود إلى اتخاذ هذا القرار ووضع حد للحياة؟ وكيف هي وضعية مراكز محاربة الإدمان؟ وما هو واقع منظومة الصحة النفسية؟ في هذا الخاص، نجيب على هذه الأسئلة لمحاولة تقديم صورة واضحة حول واقع الانتحار في المغرب. إنجاز: إيمان رضيف تعتبر ظاهرة الانتحار من أخطر الظواهر الاجتماعية الصامتة التي شهدت ارتفاعا ملحوظا في معدلاتها، حسب ما يؤكد المختصون، وهو ما يثير القلق. وأصبحت هذه الظاهرة تتصدر قائمة القضايا الاجتماعية في الآونة الأخيرة، رغم تنوع الأسباب والدوافع التي تقف وراءها، علما أنه في 2003، اعتبرت الرابطة الدولية لمنع الانتحار بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية يوم 10 شتنبر من كل سنة يوما عالميا للتوعية بخطورة هذه الظاهرة وضرورة التصدي لها. ضغوطات نفسية ومهنية أن يفكر الشخص في وضع حد لحياته، فالأكيد أن وراء هذا القرار الكثير من الخلفيات والأسباب التي دفعته إلى ذلك. لكن قبل الحديث عن الأسباب، فمن المهم، رصد وضعية واقع الانتحار، من أجل ذلك، كان لنا حديث مع هشام العفو، متخصص ومعالج نفساني ورئيس رابطة المتخصصين في الصحة النفسية والعقلية بالمغرب. يقول العفو إن الإحصائيات التي يتوفر عليها، تشير إلى أن معدلات الانتحار تتزايد بشكل مقلق، خاصة بين فئات الموظفين والعاملين والشباب، وحتى الأطفال وكبار السن، أي "أن الانتحار يمس جميع شرائح المجتمع، خصوصا الفئات الأكثر عرضة للهشاشة الاجتماعية والضغوط النفسية والمهنية". وأوضح أنه أخيرا، يلاحظ أن المجتمع المغربي بدأ يتقبل هذه الظاهرة بشكل متزايد، ما يجعلها تبدو جزءا من السيرورة الاجتماعية والنفسية، وهو ما يعد أمرا خطيرا، "نتحدث عن إنهاء حياة إنسانية ليست بيدنا". والاكثر من ذلك، حسب ما يؤكد المختص، أصبح الانتحار يتخذ أشكالا متعددة، منها الانتحار الاستعراضي، والانتقامي، والمتحدي، ما يعكس تراجعا كبيرا في قيمة الحياة لدى الأفراد، خاصة بين المصابين باضطرابات نفسية وعقلية، إذ يصبح الانتحار بالنسبة إليهم مسألة وقت فقط، نتيجة تأثير مجموعة من العوامل والظروف. تداخل وتكتم إن التقارير المتاحة قد لا تعكس الواقع الحقيقي لارتفاع حالات الانتحار في المغرب، فالمؤسسات التي تقوم بإجراء الأبحاث ونشر الإحصائيات ليست متخصصة في مجال الصحة النفسية، ولا تمتلك مرجعية سيكولوجية كافية، خاصة عندما يتعلق الأمر بدراسة ظاهرة معقدة تتداخل فيها عوامل بنيوية متعددة. وقال العفو إن التقارير لا تتناول بجدية العمق الحقيقي لظاهرة الانتحار، ولا تأخذ في الاعتبار توزيعها الجغرافي والتاريخي والثقافي والمهني، كما أن بعض المؤسسات تتكتم على الأرقام المتعلقة بحالات الانتحار بين موظفيها، ما يعني أن المشكلة لا تزال تحت السيطرة والتحكم، ولم يتم تناولها بشكل صريح من قبل المختبرات العلمية الجامعية مثل ظاهرة خطيرة تستوجب الدراسة والبحث، "ما نعتمد عليه في هذا السياق هو أرقام المندوبية السامية للتخطيط، وهو ما يعد غير كاف لتفسير ظواهر بهذا التعقيد". وأوضح العفو أنه تم رصد ارتفاع حالات الانتحار في مدن الشمال، و"هو ما لاحظناه بشكل مباشر، الأمر الذي له علاقة بالتعاطي للمخدرات، بالإضافة إلى ذلك، فإن مشكلة الهجرة، رغم أن الأفراد يدركون أن فرص نجاتهم ضئيلة، تمثل أيضا شكلا من أشكال الانتحار، لذا من الضروري دراسة الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تجعل مناطق الشمال أكثر عرضة لتنامي ظاهرة الانتحار"، حسب تعبيره. الإدمان عامل أساسي كان الانتحار، قبل سنوات، من الظواهر المسكوت عنها، إذ يتحفظ الكثير من المغاربة عن التطرق إلى الموضوع لأسباب كثيرة، لكن اليوم تغير الوضع. يقول العفو إن دراسة العوامل المسببة للانتحار تتطلب منهجا تحليليا وتفكيكيا لفهم جوهر تشكل هذه الظاهرة، إذ يتعين استكشاف الأسباب والدوافع وكيفية تفاعلها وتجمعها. إن تأثير هذه العوامل لا يظهر بشكل فردي، بل تكمن قوتها في تداخلها وتجمعها في حياة الفرد، يقول المتخصص والمعالج النفساني، قبل أن يضيف أن الدراسات الميدانية تشير إلى أن الإدمان يعد عاملا أساسيا في ظاهرة الانتحار، إذ يعكس عجز الفرد عن إدارة حالته العقلية والذهنية، ما يؤدي إلى عدم قدرته على التحكم في سلوكاته وأفكاره تجاه نفسه ومحيطه. ويتعرض المدمنون غالبا للوقوع في فخ دائرة التفكير المغلقة، التي يصعب الخروج منها دون تدخل علاجي، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات النفسية الحادة. وتتأرجح حالة المدمن بين الحاجة إلى تعاطي المواد المخدرة وسيلة للهروب من الواقع، وتجنب النقد والضغط والمساءلة، إلى مرحلة تقبل الوضع الراهن والتموقع في منطقة الأمان والراحة التي يخلقها لنفسه بعيدا عن المجتمع والقيم والتوجيهات العامة. في هذه المرحلة "يسعى المدمن إلى تشكيل دائرة تأثير خاصة به، إذ يبرر أفعاله ويحيط نفسه بمحيط يدعمه، دون أن يدرك أنه يخلق أزمة حادة تؤدي إلى اضطرابات نفسية أو عقلية"، حسب تعبير المتحدث. وتبدأ هذه الاضطرابات بتبخيس وجوده في الحياة، ما يعزز مشاعر الحقد والكراهية تجاه محيطه، ويؤدي إلى توتر العلاقات الأسرية والعائلية كما يمكن أن تترتب على ذلك عداءات غير مبررة ضد الأفكار والقيم والأشخاص والنظم المجتمعية والأخلاقية "تتطور هذه الحالة العدائية لدى المدمن، مما يدفعه إلى الرغبة في التخلص من الصراع الداخلي والخارجي الذي يعيشه، والهروب من الآلام النفسية ومشاعر الذنب التي تسيطر عليه". في نهاية المطاف، قد يصل المدمن إلى اعتبار الانتحار حلا للخلاص من هذا العذاب، خاصة في مراحل "الرفض" أو "الإنكار"، إذ يرفض الخضوع للعلاج "هذه الظاهرة تبرز بشكل واضح في سلوكات العديد من الأفراد في المجتمع، مما يستدعي ضرورة التدخل العلاجي والدعم النفسي". عقد نفسية وأفكار سلبية يجب التأكيد أن الوصول إلى مرحلة اتخاذ قرار الانتحار يشير إلى أن الفرد يعيش في واقع قاتم، وغالبا ما يوجد في حالة من الظلام النفسي الذي يؤدي إلى تكوين "حجرات مظلمة" داخل جهازه النفسي. يقول المتخصص النفسي إنه غالبا ما يتراكم الشعور بالعجز، ما يجعل الفرد تحت سيطرة أفكار سلبية دائرية تتسم بتبخيس الذات وتجريدها من حقها في الحياة "هذا الشعور يعزز الألم الداخلي ويزيد من حدة الصراع النفسي، ما يجعل الفرد أكثر حساسية تجاه المحيط ويؤثر سلباً على تفاعلاته مع الآخرين". وأوضح المتحدث ذاته أن الأشخاص في هذه الحالة، يفضلون العيش في منطقة الأمان، التي تمثل لهم منطقة الألم والماضي المؤلم "نتحدث هنا عن تطور "العقد النفسية" التي تتراكم وتتعزز، ما يشكل حاجزا بين الفرد والحياة". وغالبا ما يبدأ الفرد، حسب ما أكده العفو في اختيار العزلة، وقد يتجه نحو الإدمان وتطوير مشاعر الحقد والكراهية، ما يزيد من عزلته ومعاناته، حتى يصل إلى قرار إنهاء حياته، سواء بطرق سريعة مثل الشنق أو إلقاء نفسه أمام سكة القطار. من المهم الإشارة إلى أن بعض الممارسات التي يقوم بها أفراد المجتمع، مثل تقديم نصائح غير مدروسة أو توجيهات سريعة، أو إخضاع الشخص لما يسمى "الرقية الشرعية"، تعتبر ممارسات غير فعالة وقد تكون كارثية "هذه الممارسات لا تساعد المريض على التغلب على ميوله الانتحارية، بل قد تعزز التشوهات المعرفية لديه وتزيد من شعوره بالذنب، ما يعمق معاناته". منظومة الصحة النفسية في قفص الاتهام يوجه البعض أصابع الاتهام في ما يتعلق بارتفاع حالات الانتحار بالمغرب، إلى منظومة الصحة النفسية بالمغرب، معتبرين أنها عائق أمام التصدي لهذه الظاهرة. وقال العفو إن مراكز الصحة النفسية، تشكل عائقا كبيرا بسبب ضعف الطاقة الاستيعابية وندرة الأطر الطبية، ما يؤدي إلى نقص كبير في الخدمات "هذا الواقع مؤسف، خاصة مع تزايد نسبة المصابين بالاضطرابات العقلية وحالات الإدمان، ما يفسر ارتفاع حالات الانتحار". وأوضح المتحدث ذاته أن خدمات تلك المراكز لا تلبي الحاجيات الأساسية للمواطنين في جميع مناطق المغرب، ما يدفع إلى دق ناقوس الخطر بشأن أهمية الصحة النفسية، التي أصبحت مكونا ضروريا في المنظومة الصحية "يتطلب الأمر مراجعة شاملة، خاصة مع ارتفاع الطلب وارتفاع أسعار الخدمات الصحية الخاصة، التي تتركز في ثلاث مدن فقط، ما يجعل العلاج صعبا على المواطنين في المدن البعيدة. تحديات هل ضعف مراكز محاربة الإدمان يساهم في ارتفاع معدلات الانتحار؟ السؤال المطروح يحمل في طياته إجابة ضمنية، إذ ظهر أن ضعف مراكز محاربة الإدمان عامل مساهم بشكل كبير في ارتفاع معدلات الانتحار. هذه العلاقة تعتبر سببية واضحة، إذ من الطبيعي أن يسهم العلاج في تقليل الأفكار الانتحارية ويساعد الأفراد على تجاوز مشاكلهم النفسية، ما يعزز نظرتهم الإيجابية لأنفسهم، ومع ذلك فإن العجز عن الحصول على العلاج أو غياب مراكز متخصصة يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإحباط لدى المريض وعائلته، وهو ما نلاحظه بشكل جلي. ومن المعروف أن حالات الإدمان تكون معقدة، وغالبا ما يكون من الصعب إقناع المريض بضرورة العلاج وفي حال اقتناعه بعد جهد كبير، تواجه الأسرة تحديات تتعلق بمكان العلاج أو توفر مراكز خدمات صحية متكاملة، ثم تبدأ هنا رحلة شاقة وطويلة، قد تكون مكلفة ومتعبة، ما قد يعمق معاناة المريض وعائلته في بعض الحالات، وقد يدفع هذا الوضع المريض إلى التفكير في إنهاء حياته بشكل مفاجئ، وهو ما شهدناه في العديد من الحالات. لهذا، يتطلب التعامل مع حالات الانتحار، التمييز بين تلك التي تنجم عن الإدمان، والتي تحتاج إلى علاج دوائي مستمر في مراكز محاربة الإدمان، وتلك التي تصل إلى مرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي، والتي تتطلب متابعة طبية نفسية في مراكز متعددة التخصصات، إذا كان الهدف فعلا توفير الرعاية اللازمة والحد من ظاهرة الانتحار.