كتاب للباحث حسن حبيبي يسبر أغوار أيقونة المجموعات الغنائية صدر حديثا للباحث والإعلامي حسن حبيبي كتاب اختار له عنوان "ناس الغيوان.. أصوات تشبه المغرب". الكتاب جاء أشبه بفيض صوفي تجلت فيه تجربة حسن حبيبي التي امتدت لعقود مع ظاهرة المجموعات الغنائية، ليضمنه خلاصة انطباعاته الذاتية والموضوعية، بخصوص هاته التجربة التي قلبت كيان النغم المغربي، وأعادت مصالحة المغاربة مع ذاتهم الإيقاعية والموسيقية والفرجوية. في هذا الخاص تتوقف "الصباح" عند أهم النقط والمنطلقات التي تخللت الكتاب الذي يعد وثيقة مهمة في تركيب ذاكرة المجموعات الغنائية، من خلال مجموعة "ناس الغيوان". إعداد: عزيز المجدوب يقول حسن حبيبي إن هذا الكتاب ليس توثيقا لتجربة "ناس الغيوان" بل هو محاولة لاستكشاف العمق الذي جعل هذه المجموعة تتخطى حدود الفن لتصبح رمزا خالدا في وجدان المغاربة. يقودنا الكتاب نحو رحلة عميقة داخل عالم "ناس الغيوان". رحلة حاول من خلالها الباحث اكتشاف كيف استطاعات هذه المجموعة أن تصوغ معاني الهوية والحلم والمقاومة، وأن تدون بألحانها فصلا لا ينسى في تاريخ المغرب، بل وتصبح أيقونة تجاوزت الحدود لتتردد أصداؤها في كل مكان. وانطلقت رحلة بحث الكتاب من سؤال جوهري: كيف استطاعت مجموعة بسيطة أن تحول ألم المرحلة وأحلامها إلى أغنيات خالدة تعبر الزمن؟ السياق الثقافي والاجتماعي في سياق استحضاره للسياق الثقافي والاجتماعي الذي أفرز تجربة "ناس الغيوان" تحدث الباحث حسن حبيبي عن الشكل الذي سعت به الدولة إلى تطوير الأغنية المغربية من خلال مسارين رئيسيين: الأول يعتمد على الغناء الفردي المصحوب بجوق، مستوحى من التقاليد الشرقية، بينما اعتمد المسار الثاني على تحويل التعبيرات الشعبية إلى أشكال مدعومة من الدولة. ويعطي الباحث أمثلة في هذا الإطار مستشهدا بالطريقة التي تعاملت بها سلطات الحماية مع الفنون الشعبية المغربية، إذ لم تقتصر محاولات الهيمنة الثقافية على مجال واحد، بل امتدت إلى مختلف أنواع التعبير الفني، فقد ركزت على إعادة تشكيل الفن الشعبي المغربي وفق رؤية استعمارية تهدف إلى إضعاف الثقافة الوطنية. ورغم رحيل الاستعمار، يقول حبيبي، لم تنصف الحركة الوطنية الفنون الشعبية، إذ نظرت إلى بعضها باعتبارها إرثا من حقبة الاستعمار، ولم تبذل جهودا كافية لإعادة الاعتبار لها، ومع ذلك ظهرت محاولات خجولة في السبعينات والثمانينات لإحياء فن العيطة وإعادة مكانة "الشيخات"، لكنها ظلت محدودة وغير قادرة على تصحيح الصورة المتجذرة في الوعي الجمعي. ويتابع أنه مع مرور الوقت بدأت تظهر معطيات جديدة على الأرض تدفع إلى كسر العلاقة بين الحركة الثقافية والدولة، مما أدى إلى انقسام الحقل الثقافي إلى قسمين، في أحدهما، ظل التناغم مع الدولة، حيث سيطر الاحتفال والتزيين على الأعمال الثقافية، بينما في الآخر، بدأ العمل الثقافي يصبح أداة للتعبير عن المعارضة والتمرد على النظام الرسمي. وفي هذا الحقل الثقافي، يقول المتحدث نفسه، الذي اختار القطيعة مع الدولة، بدأت تظهر مشاريع ثقافية تهتم بالقضايا السياسية وتتناولها من منظور تحريضي، حيث تم استخدام القضية الفلسطينية نقطة انطلاق لتمرير خطاب التضامن مع القضايا القومية والأممية. وبالتوازي مع هذا التوجه، بدأت الحركات الثقافية في تأسيس جبهات ثقافية لمقاومة مخططات الدولة وبرامجها، وكان من أبرز هذه المبادرات حركة مسرح الهواة وتأسيس الجامعة الوطنية لمسرح الهواة، إضافة إلى حركة النوادي السينمائية التي لعبت دورا محوريا في تشكيل المشهد الثقافي. وفي هذا السياق، يتابع حسن حبيبي، تعتبر المجموعات الغيوانية واحدة من أبرز الأمثلة على القطيعة الثقافية التي نشأت بعيدا عن الهيمنة الرسمية، إذ برزت كحركة فنية تحمل خطابا مغايرا للمألوف في مرحلة ما بعد الاستقلال، ففي الوقت الذي كانت فيه الثقافة الرسمية تعبر عن الوحدة الوطنية والاحتفالية بالاستقلال بطرق فجة، وتروج لصور مثالية للهوية المغربية، كانت "ناس الغيوان" ترفض هذا الطرح السطحي لتقدم صوتا ثقافيا مستقلا يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي المعقد للمجتمع المغربي. مواجهة بالكلمة واللحن يقول حبيبي عندما ظهرت "ناس الغيوان" لأول مرة تحت اسم "الدراويش الجدد" كانت أشبه بظاهرة غريبة تجذب الأنظار، ليس فقط بسبب موسيقى أفرادها الفريدة، بل أيضا مظهرهم الذي لم يكن مألوفا في المشهد الفني المغربي آنذاك. كان شعرهم الطويل، وطريقة لباسهم وسهراتهم الطويلة حتى ساعات الفجر، تجعلهم يبدون وكأنهم من عالم آخر، عالم الهيبيين الذين انتشروا في المغرب في الوقت نفسه تقريبا. لكن، رغم التشابه الظاهري، كان هناك فرق جوهري بين "ناس الغيوان" وبين حركة الهيبيين فهؤلاء كانوا يسعون للهرب من العالم ومشكلاته، بينما كانت "ناس الغيوان" تسعى لمواجهة تلك المشكلات وجها لوجه، ليس بالسلاح أو بالعنف، بل بالكلمة واللحن. في أسلوب "ناس الغيوان" يظهر هذا النوع من الموسيقى التي تمزج بين التراث الصوفي والفكر النقدي الاجتماعي، وبمرور الوقت، أصبح واضحا للجميع أن "ناس الغيوان" لم تكن مجرد فرقة تحاكي الموسيقى الغربية، كما فعلت بعض الفرق الموسيقية المغربية الأخرى في ذلك الوقت، بل كانت تنسج موسيقى فريدة من نوعها، تستمد جذورها من أعماق التراث المغربي، وتضيف إليها لمسة صوفية روحية تعكس تاريخ البلد وثقافته. الحي المحمدي: منبع الإبداع وسؤال الهوية يرى حسن حبيبي أن الحي المحمدي و"ناس الغيوان" يشكلان وحدة عضوية عميقة، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، خاصة أن هذا المكان الذي شهد ميلاد الفرقة، كان بمثابة التعبير الفني الأكثر دقة عن أبنائه، وبالتالي فإن "ناس الغيوان"، حسب الباحث نفسه، لم تكن فرقة موسيقية فحسب، بل كانت سفيرة حقيقية لهوية الشعب المغربي، ترجمت الواقع الاجتماعي بتعقيداته وتناقضاته، وكانت بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، بين التحديات الحالية والتطلعات المستقبلية. كما يعد أفراد "ناس الغيوان" مثالا حيا على الانصهار الثقافي الذي شهده الحي المحمدي، وكاريان سانطرال على وجه التحديد، الذي استقبل، منذ عشرينات القرن الماضي، المهاجرين الباحثين عن حياة أفضل في قلب المدينة الصناعية. كل عضو من أعضاء الفرقة جاء بحمولته الثقافية الفريدة: بوجميع بجذوره الصحراوية، حمل معه روح الصحراء وأغانيها العميقة والروحانية، بينما جاء العربي باطما من الشاوية، حاملا معه أصوات المقاومة والتصميم البدوي، وعمر السيد جلب معه تقاليده الأمازيغية التي أضافت بعدا لغويا وإيقاعيا مميزا، أما علال يعلى، الذي يتحدر من أصول صحراوية أيضا، فقد أضاف لمسة تراثية موسيقية أكملت هذا التنوع. الأصول المسرحية في التجربة استحضر حسن حبيبي دور الفنان الراحل الطيب الصديقي في تشكيل العرض الدرامي الذي تبنته مجموعة "ناس الغيوان"، واعتبر أنه لا يمكن فهم هذا التأثير بشكل كامل دون النظر إلى جذوره في ثقافة المسرح الشعبي، إذ كان "السوق الفوقاني" ب"كاريان سانطرال" فضاء رحبا للفرق التراثية خاصة "عبيدات الرمى" التي كانت تقدم عروضها الموسيقية والمسرحية التي تمزج بين الغناء العيطي التقليدي والعناصر المسرحية مثل المكياج والأزياء وتوزيــــــــــــع الأدوار، لتكون بذلك فرقة مسرحية متكاملة تنقل رسائل اجتماعية وثقافيــــــة تتجاوز الصوت والموسيقى. كما تحدث الباحث نفسه عن تجربة أفراد فرقة "ناس الغيوان" داخل فرقهم الموسيقية في "دار الشباب"، والتي شكلت نقطة انطلاق مهمة في مسيرتهم الفنية قبل التعرف على الطيب الصديقي. في تلك الفترة انخرطوا في فنون المسرح بشكل مستقل، حيث كانت "دار الشباب" بمثابة فضاء حيوي لتجاربهم المسرحية المبكرة التي ساعدت على صقل مواهبهم. كانت تلك الفرق بمثابة أوراش تدريبية على فنون التمثيل والدراما، وساهمت بشكل كبير في تطوير قدرات أعضاء الفرقة على دمج المسرح مع الموسيقى. وأتاح لهم ذلك التكوين المسرحي المبكر إضافة بعد درامي عميق على عروضهم الموسيقية، مما جعل "ناس الغيوان" أكثر من مجرد فرقة موسيقية، بل كانت مجموعة فنية متكاملة تجمع بين المسرح والموسيقى بشكل مبتكر. ويرى حبيبي أن تجربة الطيب الصديقي المسرحية خضعت لتحول عميق على مستوى بنية العرض المسرحي، تحت قيادته، خاصة بعد التحاق نخبة من أبناء الحي المحمدي مثل بوجميع وعمر السيد والعربي باطما ومحمد مفتاح وأحمد الروداني والضمراوي، إذ لم يكن هؤلاء الفنانون مجرد ممثلين أو مؤدين، بل كانوا حملة تراث شعبي غارق في أصالته، جاؤوا من تجارب مسرحية أخرى، حاملين معهم زخما من الحكايات الشعبية والأغاني التي تعكس نبض الشارع المغربي. وكان هذا الانصهار بمثابة شرارة الانطلاق نحو ولادة مسرح شعبي حقيقي، يقترب من الجمهور ويعبر بلغته الخاصة. والطيب الصديقي، يقول حبيبي، في سعيه الدؤوب نحو تحقيق رؤيته للمسرح الشعبي، وجد في هؤلاء الفنانين الجسر الذي سيعبر به إلى قلوب الجماهير. ذلك الجسر لم يكن مجرد مسرح يروي قصصا، بل كان منصة تجسد أحلام وآمال الناس العاديين، وتلامس همومهم اليومية بصدق وعمق. روح البساطة كتب حسن حبيبي "خمسة شبان ينبضون بالفن والإبداع، ويطلون في غلاف أول أسطوانة لهم، جالسين على الأرض، في صورة بسيطة تحمل في طياتها دلالات لا تقاس، (...) كان "ناس الغيوان" ينسجون أغانيهم من أصوات متباينة الأصول، ليخلقوا منها قطعة فنية تمزج تواضع الأرض مع عراقة التراث. لم يكن تواضعهم مجرد صفة عابرة، بل كان فلسفة حياة يسري في أرواحهم، يتنقلون بها عبر كل لحن وكل ظهور. لم يروا في أنفسهم سوى جزء حي من هذا الشعب، يرقصون على نبضه ويغنون له، كما يغني الندى للورد. كان ذلك قسما مقدسا، بالوفاء لجذورهم، أن يظل فنهم نابعا من تربة الصدق، تتغلغل فيها البساطة وتتشابك مع عمق التاريخ". وخصص حسن حبيبي فصلا خاصا تتبع فيه المسارات الفردية لأعضاء مجموعة ناس الغيوان المؤسسين وهم بوجمعة أحكور وعمر السيد والعربي باطما وعلال يعلى ومولاي عبد العزيز الطاهري وعبد الرحمن باكو، فضلا عن فصل آخر أسماه "أغاني تلامس الوجدان وتخلد الذاكرة الغيوانية" تناول فيه بالتحليل عشر روائع من ريبرتوار المجموعة.