المنازل المهجورة بمكناس… قنابل موقوتة

تعد منطقة «حمرية» رمزا لمكناس العصرية والحديثة، ونجح مهندسو الحقبة الاستعمارية في تحويلها إلى لوحة معمارية فريدة. بنيت على ربوة بعيدة عن المدينة العتيقة بمئات الأمتار، في إشارة إلى أن الانتقال من التاريخ إلى الحداثة يتطلب مئات الخطوات. بكل مظاهر الحياة العصرية من عمارات وفيلات وسينما تاريخية ومحلات تجارية لماركة عالمية، ظلت «حمرية» أيقونة المدينة، إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأت وأحياء عصرية مجاورة لها، تفقد طابعها العصري، وصارت أطلال البنايات المهجورة تزاحم أخرى أبدع المهندسون في تصميمها، أمام عجز المسؤولين عن حل هذا الإشكال لتعقد المساطر القانونية. إنجاز: مصطفى لطفي وحميد بن التهامي (مكناس) تمتزج مشاعر متناقضة خلال النظر إلى المنزل المهجورة بالحي الجديد، بعضها يعود إلى الحقبة الاستعمارية، كأنها تحتفظ بسر حياة عائلات قطنت فيها في السابق واختفت في صمت، منها من رحل إلى دار البقاء، وأخرى عادت إلى أوطانها. تحتفظ هذه المنازل بأسرار أصحابها السابقين، وتفاصيل حياتهم اليومية بحلوها ومرها، قبل أن يهجروها لأسباب مختلفة. وبعد أن كانت مفعمة بالحيوية والجمال المعماري، تحولت إلى ذكرى مع السنين وفقدت رونقها ودخلت عالم الإهمال والنسيان، قبل أن تفقد محتوياتها بفعل السرقة والتخريب. مصادر أكدت أن نسبة كبيرة من البنايات المهجورة، المحسوبة على الفترة الاستعمارية، مازالت إلى حدود اليوم في ملكية أصحابها وحفدتهم، وأن أي مس بها، قد يجر من تورط فيها إلى القضاء، كما الأمر لأحد أبناء المدينة ضم فيلا إلى فضاء تابع له، ليجد نفسه متابعا من قبل حفدة مالكيها الأصليين، إذ حلوا من فرنسا للدفاع عن حقوقهم. أما باقي البنايات فهي لأبناء المدينة، أنفقوا الكثير لاقتناء الأرض وتمويل عملية البناء، لكن توقف حلمهم لأسباب عديدة منها الموت، وبعد أن كانت هذه البنايات تستعد لاحتضان جميع أفراد الأسرة، صارت سببا في فرقتهم وخلافهم، بسبب نصيب كل طرف من الإرث، وما زالت قضايا بعضها معروضة على القضاء. قلاع المشردين تحولت عشرات المساكن المهجورة إلى "بؤر سوداء" تهدد الوضع الأمني بالعاصمة الإسماعيلية، وتؤرق بال السكان المجاورين لها. صارت هذه البنايات مقرا للمتشردين ومهاجرين سريين من دول جنوب الصحراء، ما حولها إلى بؤر للجريمة من ترويج واستهلاك المخدرات، والسرقات والاستغلال الجنسي، بل وصل الأمر إلى حد سقوط أرواح بين جدرانها في جرائم قتل أو في حوادث عرضية. قصص عديدة يرويها السكان المتذمرون من هذه البنايات، إذ صار يرتادها أيضا المراهقون لتدخين المخدرات واحتساء الخمور بعيدا عن أنظار المارة، وقبل أن يغادروا المكان، يخلدون ذكراهم عبر عبارات ورسومات على جدرانها تخل بالحياء ما تسبب لهم إحراجا كبيرا. كما يتخذها البعض، حسب قولهم، إلى أوكار يتوارون فيها عن الأنظار لإشباع نزواتهم الجنسية وممارسة علاقات شاذة مع مثليين وقاصرات وغيرهن ممن لفظتهن ظروفهن القاسية إلى الشارع، دون إغفال أنها تحولت إلى إقامات دائمة وآمنة للمبحوث عنهم، يحتمون داخلها بعد أن يروعوا شوارع المدينة بسرقات تحت التهديد أو الخطف. ورطة الأمن رغم نجاح مسؤولي أمن مكناس في فرض الأمن بالمدينة، ومحاربة الجريمة بكل أنواعها، عبر نشر فرق أمنية بأهم الشوارع الرئيسية للمدينة والمناطق الإستراتيجية بها، إلا أن البنايات المهجورة تظل تؤرق بالهم بحكم انها غير خاضعة للسيطرة وتصعب مراقبتها ومن فيها بشكل دائم، إلى أن يفاجؤوا بحدوث جريمة فيها، فالأمر يتطلب مجهودات بشرية ولوجيستيكية لتجاوز هذه المعضلة، إلا أن الحصة الأكبر من هذا الجهد تخصص لفرض الأمن في المدينة. بعد أن تصدر قرارات أمنية بتنسيق مع النيابة العامة ومسؤولي المدينة لمداهمة هذه المنازل المهجورة لتحريرها من المتشردين والجانحين، يعود الوضع إلى ما كان عليه بعد أيام فقط، إذ يتم استوطانها من قبل أشخاص جدد، فتذهب هذه التضحيات مع أدراج الرياح، ويعم نوع من الإحباط بين مسؤولي الأمن، الذين يجدون أنفسهم من جديد أمام بؤر جديدة للجريمة، مادام أن المسؤولين عن الشأن المحلي للمدينة، عاجزون عن إيجاد لحل لها، سواء بهدمها بشكل نهائي أو إعادة ترميمها، بحكم أن أغلبها ملكيات خاصة ومسجلة في المحافظة العقارية، وبالتالي لا يجوز العبث فيها. معضلة لا حل لها الجميع يحمل المشرفين على الشأن المحلي مسؤولية انتشار البنايات المهجورة، ويعتبرون صمتهم حول هذه الظاهرة تقصيرا متعمدا عن عدم تفعيل القانون، وكلما شهدت إحدى البنايات جريمة ما، تزيد حدة الانتقادات وتوجه لهم أصابع التشكيك والاتهام بالتخاذل. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمعالجة ظاهرة البنايات المهجورة تتطلب نص تشريع واضح، لأن الأمر يتعلق بأقدس الحقوق على وجه البسيطة، وهو حق الملكية، فأي اعتداء عليه قد يجر صاحبه إلى القضاء ولو كانت الدولة نفسها. بهذا الخصوص، طرح السؤال نفسه على مسؤول في المجلس الجماعي بمكناس، رفض الكشف عن اسمه، فكان الجواب مقتضبا لخص فيه كل شيء، بالقول إن السلطات تتحرك في نطاق اختصاصاتها بسبب غياب قانون تشريعي لمحاربة المنازل المهجورة، ما يعرقل مهام الجماعة. وتابع المتحدث بأن المجالس الترابية تتعاون مع وزارة الداخلية لمعالجة هذه المعضلة، لافتا الانتباه إلى غياب إحصائيات رسمية حول عدد هذه المنازل بالمدينة، وأسباب تركها بدون صيانة. غضب الشارع إذا كان المسؤول الجماعي قدم تفسيرا منطقيا حول سبب عجزهم عن مواجهة البنايات المهجورة، فإن سكان المدينة يبدون تذمرهم يوما بعد يوم، مرددين عبارة تفيد أن المسؤولين بإمكانهم التصدي للظاهرة، أو على الاقل القيام بمبادرات من قبيل إغلاق أبوابها ونوافذها لمنع الغرباء من التسلل إليها. في هذ الإطار، أعرب محمد، فاعل جمعوي، عن استيائه لعدم تدخل السلطات المحلية لمعالجة المشاكل الناجمة عن تلك البنايات المهجورة، مؤكدا أن بعضها تخلى عنه أصحابه، وتوفي آخرون، ما يستدعي ضرورة تدخل السلطات لمعرفة وضعيتها القانونية، قبل مباشرة الإجراءات الإدارية اللازمة على الأقل. وبحسرة دعا الفاعل الجمعوي إلى إيجاد حلول عملية وناجعة للقضاء على هذه الظاهرة المقيتة التي تشوه جمالية المدينة من جهة، وتسهم في تفشي الجريمة من جهة أخرى. وواصل المتحدث بأن الجماعة ينبغي أن تلزم أصحاب تلك البنايات المهجورة بأداء الضريبة السنوية المتعلقة بالصيانة الخارجية، ما سيدفع المالكين إلى بيع المنازل المهملة لتفادي الضريبة. وبعد صمت، اعترف محمد بالصعوبات القانونية التي تواجهها الجماعة، بالقول إن غياب التشريع القانوني يجعل المقاربة الإدارية غامضة، خاصة أن ملكيتها تلك المنازل لا تعود للدولة، ما يطرح تحديات قانونية كثيرة، منبها وزارة الداخلية إلى ضرورة البحث عن بدائل لهذه المشكلة التي لا تقتصر على مكناس فقط، بل تشمل كل مدن المملكة. إجراءات قانونية في حال تلقي شكايات من قبل مواطنين أو في حال وقوع جريمة من الجرائم الخطيرة في إحدى الدور المهجورة، تقوم السلطات الإدارية المحلية بالتدخل من خلال لجنة مختلطة تتولى عملية المعاينة للدور المستهدفة وإعداد محضر رسمي في الموضوع مع التقاط صور للحالة التي توجد عليها البناية المعنية "مسرح الجريمة" في مرحلة أولى. بعد ذلك يتم اجراء بحث دقيق لمعرفة أدق التفاصيل حول الدور المعنية ومن هم أصحابها وغيرها من المعلومات الأخرى التي تتعلق أساسا بملكيتها هل هي مسجلة في المحافظة العقارية وباسم من؟ أو غير ذلك؟، من أجل تحديد إتمام إجراءات التدخل وفق ما يسمح به القانون. عملية التدخل من قبل السلطات تتم عبر إغلاق كل المنافذ وأبواب البناية المهجورة المستهدفة "مسرح الجريمة"، حلا مؤقتا في حال ما تبين أنها بناية محفظة، كما يتم تحديد هوية أحد الأطراف التي يمكن إخبارها بتدخل السلطات وأسباب ذلك قصد اتخاذ المتعين. وفي حال وجود بناية مهجورة غير محفظة فإن مسطرة الإجراءات تختلف عن الحالة السابقة، حيث تقوم السلطات بنشر إعلانات بالهدم ببعض المصالح الإدارية قصد الاطلاع من قبل العموم مع تحديد الآجال التي سيتم فيها تنفيذ عملية الهدم في حال عدم وجود متعرض. أغلب البنايات بالمدينة محفظة وملاكها أشهر من نار على علم، لهذا يتم استبعاد عملية الهدم، ومع غياب أي تدخل من ملاكها تبقى وصمة عار عمرانية بالمدينة، حتى إشعار آخر.

المنازل المهجورة بمكناس… قنابل موقوتة

شوهت جمال وعمران المدينة وصارت مسارح لجرائم المتشردين و"الحراكة"

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الوكالات الرقمية... أسفار بأقل الأسعار

العبودي: صرامة القضاء

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات