قدسية المال العام جوهر المتابعة رغم الحضور الوازن للدولة في مؤسسات تجارية غالبا ما يتم الخلط بين جريمتي خيانة الأمانة والاختلاس، رغم الفرق الشاسع بينهما، إذ تطول الأولى مال الخواص، وتكيف جنحة مهما كانت قيمة الأموال المستولى عليها، فيما يعد الاختلاس جناية لأن الأمر يتعلق بالمال العام، ويعود الاختصاص لمحاكم جرائم الأموال. إلا أن الأمور تزداد تعقيدا عندما يكون للدولة حضور وازن في مؤسسات تجارية من قبيل البنوك أو شركات التأمين، إذ يحدث لبس في طبيعة المتابعة القضائية للمتورطين، هل نكون أمام جنحة أو جناية؟ إنجاز : مصطفى لطفي سبب طرح هذا الموضوع، إدانة المحكمة الزجرية بالبيضاء، الجمعة الماضي، لمحمد أوزال، الرئيس الأسبق للرجاء البيضاوي، بثلاث سنوات حبسا ونصف السنة، بناء على شكاية تقدمت بها شركة للتأمين، إذ رغم حضور الدولة الوازن في جهاز مراقبة مثل هذه المؤسسات، تم تكييف التهمة جنحة خيانة الأمانة، في حين وجد مستخدمون، سيما ببنوك شبه عمومية، أنفسهم متابعين بجناية اختلاس الأموال العمومية ومهددين بعقوبات مشددة، رغم وحدة الفعل الجرمي، ما يطرح السؤال ما هي حدود الجريمتين معا؟ قضية أوزال قبل طرح الإشكالية وجب التوقف عند طبيعة الخلاف بين أوزال وشركة التأمين، فبالعودة إلى وقائع القضية يملك أوزال شركة للسمسرة في التأمين، وحسب القانون يحق لها أخذ بوليصات التأمين من الشركات الأم وبيعها للزبناء مقابل نسبة من الأرباح. ما حدث هو وجود تراخ في تسديد مستحقات الشركة الأم، وهي مؤسسة رائدة في مجال التأمين لسنوات إلى أن بلغت قيمة الدين ثلاثة ملايير و800 مليون. سارعت شركة التأمين إلى رفع دعوى قضائية أمام القضاء التجاري لإلزام شركة المسير الأسبق للرجاء بالأداء، فعلا تم عقد اتفاق من أجل تسديد مستحقات الشركة الأم، وبعد فترة طرقت باب المحكمة الجنحية تتهم فيها أوزال وابنه بخيانة الأمانة في مبلغ يصل إلى ثلاثة ملايير و800 مليون، لتتم متابعته في حالة اعتقال. وخلال المحاكمة، التي وصفت بالسريعة، أدين بعقوبة حبسية نافذة، في حين ما زال البحث جاريا عن ابنه الذي اختفى عن الأنظار. جنحة أم جناية؟ أثار ملف أوزال نقاشا جانبيا، مرده سؤال حول إذا ما تم سلب شركة للتأمين أموالها، هل نحن أمام جنحة خيانة الأمانة أم اختلاس أموال عمومية؟، جوهر هذا السؤال أن الدولة يكون لها حضور وازن في هيأة الرقابة على جميع شركات التأمين بالمغرب، بحكم أنها هي التي تمنح رخص هذا النشاط الاقتصادي وتخضعه لمراقبة مشددة بسبب حساسيته وأهميته بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، وبالتالي هل حضور الدولة يضفي على أموال شركات التأمين، صفة المال العام، قياسا على مؤسسات وبنوك تصنف في خانة المؤسسات شبه العمومية، التي يتابع مستخدموها بشكل آلي بجناية اختلاس أموال عمومية. يرى مختصون في القانون أن شركات التأمين تبقى تابعة للقطاع الخاص، رغم أن الجهاز المكلف بمراقبتها تابع للدولة، وبالتالي فنحن أمام مال الخواص، وأي سطو عليه سواء من قبل مستخدميها أو من قبل مسيري شركات السمسرة في التأمين أو الغير، تكيف المتابعة جنحة خيانة الأمانة مهما كانت قيمة المبلغ المالي، وبالتالي حضور الدولة في مؤسسة تجارية ما ليس معيارا لتصنيف أموالها في خانة المال العام كما هو محدد من قبل القانون. شبح غسل الأموال استفادة المتابعين بجنحة خيانة الأمانة من عقوبات مخففة مقارنة بالمتابعين باختلاس أموال عمومية، لا يعني تصنيفهم في خانة "المحظوظين"، بل في أي لحظة مهددون بجرهم أمام جرائم الأموال من خلال متابعتهم أمام قسم غسل الأموال. وتبقى إمكانية جر المتورط أمام قسم غسل الأموال، في حال كانت قيمة المبالغ مالية، التي يطالب الطرف المدني باستعادتها كبيرة جدا، وكشفت الأبحاث والتحقيقات المنجزة، بناء على أدلة ووثائق أن المتورطين استغلوها في عمليات تبييض الأموال باستثمارها في مشاريع تجارية أو تفويتها إلى زوجاتهم والأبناء والأقارب. مستخدمو البنوك…قسمة ضيزى في الوقت الذي كان أوزال ودفاعه يخوضون معارك قانونية، الجمعة الماضي، لتبرئته أو على الأقل ضمان حكم مخفف، كانت مستخدمة ببنك تعاني الأمرين بقسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالبيضاء، بعد أن تابعتها مؤسستها باختلاس مبالغ مالية مهمة، سيما أن شبح العقوبة المشددة يهددها في حال ثبت تورطها في الجريمة. تثير متابعة مستخدمي البنوك المتورطين في السطو على أموال مؤسساتهم المالية وزبنائها سوء فهم كبير في طبيعة المتابعات القضائية، إذ تقتصر متابعة البعض بجنحة خيانة الأمانة، ومهما كانت قيمة المبلغ المختلس، في حين يتابع آخرون أمام محكمة جرائم الأموال ولو تعلق الأمر بمبلغ زهيد. هذا الأمر كان يثير حيرة عائلات المتابعين بجناية الاختلاس، بحكم أنهم غالبا ما يدانون بعقوبات مشددة، في حين يحظى البنكيون المتابعون بخيانة الأمانة بعقوبات مخففة، مقارنة مع زملائهم السابقين، رغم أن الفعل الجرمي واحد وتم بالطريقة نفسها. بالنسبة إلى متخصصين في القانون، فرغم وحدة الفعل الجرمي والطريقة في السطو، بل تجمعهم عبارة قانونية و"هي السطو على أموال تحت تصرفهم عند مزاولة مهامهم"، تبقى صفة المال العام الفارق بينهما، فالعاملون في البنوك الخاصة، طالت جرائمهم أموالا في ملكية الخواص، في حين العاملون في مؤسسات بنكية شبه عمومية أو تابعة للدولة، فنحن أمام أموال "الشعب"، ولو كانت قيمة المبلغ زهيدة، بل الأكثر من ذلك، فإن المال العام يضفي على مستخدمي هذه المؤسسات البنكية صفة الموظفين العموميين، رغم أنهم في الأصل مستخدمون، لأنه ليس لديهم رقم تأجير كما هو الحال لباقي موظفي القطاع العام، كما أنهم يتلقون أجرهم من البنك وليس الدولة، ومن أجل حماية أموال "الشعب" تشدد القانون في متابعة المتورطين واعتبر جريمتهم جناية يعود الاختصاص فيها إلى محاكم جرائم الأموال. ثلاثة أسئلة: تشدد لحماية المال العام يحدث لبس كبير في التمييز بين جريمتي خيانة الأمانة واختلاس أموال عمومية، ما الفرق بينهما؟ عندما تطرق القانون الجنائي لجريمة خيانة الأمانة، شدد في ركنها المادي على صفة مستخدم، الذي يشتغل داخل مؤسسة محسوبة على القطاع الخاص، ولو كانت خاضعة لجهاز مراقبة تابع للدولة أو ممثلة من قبلها بموظف بمجلسها الإداري، على أساس أن الدولة منحت الرخص لهذه المؤسسة لمزاولة نشاطها التجاري، فالصفة حسب القانون هي مستخدم وليس موظفا له رقم تأجير، وبالتالي يتابع جنائيا بخيانة الأمانة. وعلى النقيض، بخصوص المؤسسات شبه العمومية، فإن العاملين فيها رغم وصفهم بالمستخدمين، بحكم أنه ليس لهم رقم تأجير ويتحصلون على رواتبهم من البنك وليس من خزينة الدولة، في حال تورطهم في السطو على أموالها، يتابعون بجناية اختلاس المال العام، لأنهم ما داموا يشتغلون داخل مؤسسة شبه عمومية هم في نظر القانون الجنائي في حكم موظفين عموميين. هل يمكن اعتبار حضور الدولة في مؤسسة ما أن أموالها عمومية؟ ليس صحيحا، لأن هناك مؤسسات تجارية تخضع لمراقبة الدولة ومع ذلك تصنف في خانة القطاع الخاص وأموالها أموال خاصة، على نقيض مؤسسات شبه عمومية من قبيل البنوك مثلا، حيث نجد حضورا وازنا للدولة ومراقبة مشددة، لدرجة أن الدولة لها حق التدخل والتصرف في حساباتها المالية والمشاريع التي تشرف عليها، بل استشارتها في كل صغيرة وكبيرة، من خلال آلية مراقبة آنية وقبلية، والأمر نفسه يطول مكاتب وطنية، وبالتالي نحن هنا أمام أموال عمومية، رغم أن هذه المؤسسات تتصرف كالخواص، والدليل أنه في حال دخلت في نزاعات قضائية لا يعود الاختصاص هناك للقضاء الإداري، بل تعرض قضاياها على القضاء التجاري والمدني وحتى الجنحي، وبالتالي نستشف أن القانون الجنائي وحده الذي يعتبرها مؤسسات شبه عمومية، والهدف حماية المال العام من السرقة. ألا ترى أن هناك حيفا بين المستخدم والموظف في العقوبة رغم وحدة الفعل الجرمي؟ ربما، لهذا على المشرع إعادة النظر في الأمر، ما دام أن العملية واحدة، وهي اختلاس أموال المؤسسة، مع فارق إن كانت شبه عمومية يتابع المتورط بجناية الاختلاس، وإذا كانت في القطاع الخاص تكيف خيانة الأمانة. وبالتالي نشعر بنوع من الحيف، الذي يعانيه العاملون بالمؤسسات العمومية، سيما أنهم مهددون بعقوبات قد تصل إلى 10 سنوات سجنا، في حين أن المتابعين في خيانة الأمانة أقصى عقوبة قد تصدر في حقهم خمس سنوات سجنا، لكن هذا يدفعنا إلى التنبيه إلى أن تشدد القانون الجنائي يعود إلى أن الأموال المختلسة في مؤسسات عمومية وشبه عمومية هي في ملكية الدولة و"الشعب"، وبالتالي يجب الضرب بيد من حديد لتفادي السطو عليها. رضوان رامي ( محام بهيأة البيضاء)