بورتري

آخر رسالة عثرت عليها والدته، كانت مخبأة في جيب سري لـ"سروال جين" موضوع وسط ركام ملابس في دولاب خشبي مهترئ، وتتضمن ثلاث كلمات موغلة في القسوة" "سمحي ليا الواليدة". قبل هذا اليوم، مرت ثلاث سنوات تقريبا على وصول ما تبقى من جثة عبثت بها أسنان السمك ونخرتها ملوحة البحر، جمعت في صندوق خشبي، بعد التعرف على هوية صاحبها، ونقلت إلى مسقط رأسه في سيارة إسعاف من أجل الدفن. لم تعد والدته تعد الأيام والشهور، ابنتها من كانت تتكلف بذلك، وتذكرها بالسنوات التي غادر فيها منير ( 17سنة) إلى غير رجعة، بعد أربع محاولات سابقة، استطاع في واحدة منها أن تطأ قدماه التراب الإسباني، لكن لم تسعفه هيأته و"صحته على قد الحال" في مجاراة رجلي أمن ركضا خلفه في أزقة ضيقة، وألقيا عليه القبض وأرسلاه إلى المغرب. كان منير يجد متعة في سرد أطوار تلك المطاردة وسط أصدقائه، الذين كانوا ينصتون لمغامرته باهتمام شديد، خصوصا حين يصل إلى النقطة التي يقول لهم فيها إن دراجة نارية وسيارتين شاركت في المطاردة التي انتهت بإسقاطه ورفع مسدس في وجهه، قبل أن يبادر شرطي إلى وضع شريط بلاستيكي لاصق في معصميه. في زاوية تطل على سكن أسرته (براكة في حي صفيحي)، كان دماغ منير يشتغل بوتيرة سريعة لرسم خطة جديدة للهروب، وهو يركز عينيه في نقطة واحدة في الاسفلت المتسخ، دون أن تبرح لفافة حشيش طرف فمه، وحين يتعب من التفكير، يتناول أوراقا صغيرة ويكتب أشياء، لا يعرفها إلا هو ويخبئها بعناية في الجيب السري لسروال "جين". لم تفارق فكرة المرور إلى الضفة الأخرى مخيلة منير منذ أن كان طفلا لم يتجاوز 12 سنة، معجبا لابن جيرانهم "عمر" الذي عاد ذات يوم من إيطاليا بسيارة "غولف" سوداء، ويرتدي (وهذا هو الأهم)، آخر تقليعة في عالم الأحذية الرياضية. لم يعد منير يفعل أي شيء في حياته، غير إيجاد طريقة للهروب، حتى محل الحلاق الذي كان يشتغل لديه (بعد طرده من الدراسة)، هجره، متذرعا بأن صاحبه "يحرث عليه" بلا فائدة. لم يكن منير يحدث أحدا في الأمر، كما كان يعرف كيف يتفادى، بذكاء، نظرات والدته التي تشع أسئلة، حين يباغتها بقبلة على الرأس وأخرى فوق الكف ويقول لها "نتي غير دعي معايا، وما يكون غير الخير". في الصباح الباكر، ومع انتهاء أذان الفجر، كان منير يضع آخر خطوة خارج الحي الصفيحي، وعينه على ميناء طنجة هذه المرة، وليس التسلل من سبتة ومليلية. من مقهى قرب الميناء، وضع منير اللمسات الأخيرة لخطة التسلل إلى حاوية، ومنها إلى باخرة تعبر المسافة القصيرة في اتجاه الخزيرات، لكن لم يعلم أن كلب حراسة، كان ينتظره في زاوية ضيقة، تعقبه. ارتعب "منير"، وانزلقت قدماه من حافة الباخرة إلى عمق بلا قرار. طفا، ثم اختفى من جديد، ثم طفا، وحاول التعلق بأي شيء قريب، اختنق، ثم عاد إلى الاختفاء الذي طال هذه المرة، ولم يعثر عليه إلا بعد أيام، وفي جيبه بقايا رسائل (لم تقرأ). يوسف الساكت

بورتري

"حرَّاك"... الرسالة الأخيرة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

رسالة ريـاضـيـة: برمجة

"الناس لملاح" على "دوزيم"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات