نظام العسكر ينخرط في تفكيك الأواصر المغاربية بقلم: عمر الطيبي(*) حول الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره التونسي قيس سعيد الدعوة التي وجهها رئيس البرلمان التونسي المخلوع راشد الغنوشي مطلع السنة الماضية، بإيعاز من نظام العسكر، لإقامة اتحاد مغاربي بدون المغرب وموريتانيا، إلى مشروع للتحالف بينهما، لا أحد يدري كيف سيوفران له أسباب النجاح في ظل الأزمات الطاحنة والشاملة التي تمر منها كل من الجزائر وتونس، وفي ظل عزلتهما الإقليمية والدولية، وخاصة في ظل فساد وإفلاس القيادة في البلدين.. وإنما هي الطيور على أشكالها تقع. في هذا الإطار، أكد تبون وسعيد في بيان أصدراه في ختام الزيارة التي قام بها الرئيس الجزائري لتونس يومي 15 و16 دجنبر الماضي على "أهمية اعتماد نظرة طموحة نحو إرساء فضاء إقليمي جديد جامع ومندمج ومتكامل يقوم على القيم والمثل والمبادئ المشتركة"، حسب ما جاء في البيان "اعتبارا للدروس المستخلصة من التجارب السابقة، وبالنظر للانجازات التي حققتها العلاقات بين البلدين". للحقيقة والتاريخ لابد من تسجيل أن تبون وسعيد سيظلان مدينين في خطوتهما هذه لشيخ حركة النهضة، بعدما أفتى بضرورة إقامة اتحاد مغاربي يستثنى منه المغرب وموريتانيا، لكن وجبت الإشارة من جهة أخرى إلى أن الغنوشي إنما تزود بمادة فتواه "الأخوية" هذه من مطابخ نظام العسكر المتخصصة في تحضير وجبات العداء للمغرب، مع العلم أن شيخ "النهضة" دخل في خدمة الجنرالات منذ 2011 على الأقل، وواضب من ثم على التردد على جزائر بني مزغنة، حيث كان يسعد كثيرا بلقاء الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ويطيب له بالخصوص أن يلعب دور شاهد الزور الذي يؤكد بدون كلل ولا ملل، أن الرجل، المقعد والمشلول، كان يتمتع أيامها بكامل قواه العقلية والجسدية، وغايته من ذلك بطبيعة الحال هو الإيحاء للجزائريين بأن بوتفليقة كان متمكنا من ممارسة مهامه الرئاسية على الوجه المطلوب. كان يحلو للغنوشي أيضا التغني بما أنجزه بوتفليقة لبلاده من وفاق ومصالحة، بل تحدث في أحد تصريحاته حتى عن "الدور الكبير الذي لعبه بوتفليقة في تحقيق التوافق.. بين الحزبين التونسيين الرئيسيين، النهضة ونداء تونس"، لكن رغم كل هذه الخدمات وغيرها كثير، فإن نظام العسكر لم يحفظ للغنوشي أي ود، وتنكر له تماما بمجرد ما ألقى به المحتال الشعبوي قيس سعيد في هامش الحياة السياسية للبلاد، فرفض العسكر طلبه بزيارة عاجلة للجزائر، غداة الانقلاب الذي أطاح به من على رأس المؤسسة التشريعية التونسية، ثم أغلق الباب في وجهه نهائيا بأن رفض منحه حق اللجوء السياسي، حسب ما راج أخيرا من أخبار. المشكلة في تونس، كما في الجزائر، وفي كامل البلدان المغاربية، هي في فساد النخب الحاكمة وإفلاسها. إن المرء ليحار كيف يتحول بلد كتونس، بلد النهضة الإصلاحية المبكرة والمثقفين الحداثيين و"ثورة الياسمين"، بلد خير الدين باشا والشيخ الثعالبي وابو قاسم الشابي وفرحات حشاد والحبيب بورقيبة.. وجاري يا حمودة.. من دولة تتطلع للحداثة والتنمية والحياة الديمقراطية الى مجرد دويلة تقبل بأن تنخرط مع جزائر العسكر في لعبة "الشقيقات الصغيرات وشقيقتهن الكبرى"، ولا كيف تقبل نخبتها الفاسدة بأن تؤدي دور الأخت الصغرى لنظامها الإرهابي، تتلقى إكرامياته ووعوده الكاذبة بسعادة غامرة، ترضى لرضاه وتزعل لزعله .. وإذا استمر الأمر على هذا الحال، فإنها ستقبل في نهاية المطاف بأن يضع الجنرالات الجمهورية التونسية في المرتبة "الجمهورية التندوفية العربية الديمقراطية" نفسها، وبأن يضعوا بالتالي قيس سعيد، إن بقي في السلطة، في مستوى ابن بطوش أو أدنى قليلا. إعلان تبون وسعيد لمشروع وحدتهما الإقليمية المبتورة يذكر من بعض الوجوه بما وقع قبل نحو نصف قرن من الآن، حينما طلب بومدين من بورقيبة سنة 1973، إقامة وحدة بين بلديهما، لكن المجاهد الأكبر رد عليه بكل ما عرف عنه من صراحة ووضوح في التعبير وحزم في الموقف بان قال له.. "ان الجزائر بلد ضخم بصحرائه ونفطه وغازه وشعبه وأنا أخشى على تونس أن تبتلعها معدة الجزائر"، وقد ظل هاجس بورقيبة بعد ذلك، والى حين عجزه عن ممارسة السلطة، هو كيف يحافظ على حالة توازن استراتيجي مع نظام العسكر وكيف يحمي بلده من شر نزعته الهيمنية. كان بورقيبة يعرف طبيعة هذه النزعة كما يعرف أساليب مؤسس النظام العسكري الوظيفي الديكتاتور بومدين، في الضغط على الجيران وابتزازهم بشتى الأساليب، على غرار طرده لنحو 45 ألف أسرة مغربية مقيمة في الجزائر، ومصادرة ممتلكاتها والتفريق بين أفرادها يوم عيد الأضحى، وكان بورقيبة يذكر شخصيا كيف قام رأس نظام العسكر ذات مرة بقطع التيار الكهربائي عن ولاية الكاف التونسية الحدودية، التي ظلت تتزود بالكهرباء من مدينة سوق هراس من أيام السيطرة الاستعمارية على البلدين، بمجرد ما بلغه أن الرئيس التونسي أخذ يثير في مجالسه الخاصة قضية ضم هذه المدينة التونسية أصلا، أي سوق هراس، للأراضي الجزائرية.. كان بورقيبة يعرف ذلك ويعي أن التوازن بين البلدان المغاربية وانجاز مشروع وحدتها لا يتحقق إلا بوجود المغرب، لذلك حرص دائما على ربط أقوى العلاقات مع الملك الراحل الحسن الثاني. لم يجد بومدين الذي كان يعد العدة "لوضع الحصى في حذاء المغرب" مطلع السبعينات، من خلال افتعال مشكل الصحراء، ضالته لدى بورقيبة لذلك وجه البوصلة نحو ليبيا القذافي، فوجد فيها السند وزيادة المال والسلاح والإعلام، وما يخطر وما لا يخطر على بال، وكل ذلك من أجل عرقلة استعادة المغرب لصحرائه، واستنبات كيان وهمي فيها، والإطاحة بالنظام الملكي، وقد ظل هذا التحالف غير الكاثوليكي بين النظامين العسكريين الجزائري والليبي قائما متواصلا إلى أن سمحت التطورات اللاحقة بتحييد المغرب لنظام القذافي بفعل إبرام معاهدة وجدة في 1984 وإنشاء "الاتحاد العربي الإفريقي"؟ وقد جاءت هذه الاتفاقية، كرد فعل على "معاهدة الإخاء والوفاق" التي فرضها نظام العسكر على تونس سنة 1983 في أواخر عهد بورقيبة اي في ايام عجزه عن ممارسة مهامه القيادية، والتي انضمت اليها بعد ذلك موريتانيا الديكتاتور محمد خونا ولد هيدالة. لقد ظلت سياسة المحاور والتحالفات المرحلية احد الخيارات المعتمدة في السياسة المغاربية لنظام العسكر منذ ستينات القرن الماضي وحتى الآن، وظل يلجأ اليها كلما زادت عزلته وتفاقمت أزماته الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، وأيضا كلما ازدادت حاجته لشغل الشعب الجزائري بعدو خارجي وهمي متمثلا في المغرب باعتباره "العدو الكلاسيكي والابدي للجزائر"، وحتى عندما اضطر للانخراط في معاهدة مراكش المؤسسة للاتحاد المغاربي، تحت ضغط انتفاضة الشعب الجزائري في أكتوبر 1988 لم يتعامل معها إلا كمحور سياسي عابر، وظل يتحين الفرصة للتخلص منها إلى أن تأتى له ذلك بفعل العملية الإرهابية، التي عرفتها مراكش سنة 1994، فقام بإغلاق المعبر الحدودي بين البلدين، وأغرق الحلم المغاربي الوحدوي في دماء الجزائريين التي أهدرها بدون وجه حق خلال "العشرية السوداء". هكذا وعندما يتفق تبون وسعيد اليوم على تشكيل محور سياسي ويدعوان كلا من موريتانيا وليبيا للالتحاق بهما في إطار تكتل سياسي مشترك في مواجهة المغرب، فإنما يعيدان تكرار التجارب البئيسة التي مثلت إحدى أدوات نظام العسكر، للحيلولة دون تحقيق التقارب المطلوب بين الدول المغاربية، وصولا لتحقيق الوحدة المنشودة بينها جميعا. هكذا إذن تصبح دعوة تبون-سعيد لإقامة تكتل مغاربي مبتور عبارة عن صيحة في واد لا تعني إلا من أطلقها، ويتأكد أنه لا خوف على المكانة المحفوظة للمغرب ضمن الصرح المغاربي المنشود من لصوص التاريخ وقطاع طرق الجغرافيا... (*) كاتب صحافي مختص في القضايا العربية والمغاربية