من يكتب التاريخ اليوم وبأي مداد يُكتب؟
في عالمنا المعاصر، يبدو أن التاريخ يُعاد كتابته كل يوم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من يكتب هذا التاريخ؟ وبأي مداد يُكتب؟ خلف الكواليس، تدير قوى خفية الأحداث، محركة خيوط اللعبة العالمية لتخدم مصالحها الاقتصادية والدينية والأخلاقية. هذه القوى ليست مجرد حكومات أو دول، بل تشمل مؤسسات مالية كبرى، شركات متعددة الجنسيات، ومنظمات ذات تأثير عالمي تعمل في الخفاء لتوجيه مسار الأحداث بما يخدم مصالحها طويلة الأمد. على مر التاريخ، تم تحريف الروايات التاريخية لتناسب احتياجات من يسيطر على مقاليد السلطة. اليوم، القوى الكبرى التي تهيمن على الإعلام والتكنولوجيا العالمية لها دور محوري في توجيه الرأي العام وتشكيل سردية الأحداث التاريخية. هذا ليس جديدًا؛ فالقدرة على التحكم في التاريخ كانت دائمًا أداة قوة في يد من يملك النفوذ، سواء كان ذلك في الإمبراطوريات السابقة أو القوى العظمى الحديثة.
واهم من ظن أنهم قتلوا القذافي لأنه كان يقتل شعبه
منذ سقوط معمر القذافي، يُروج لفكرة أن قتله كان نتيجة قمعه لشعبه. ولكن خلف هذا التفسير البسيط، تختبئ حقائق أكثر تعقيدًا. القذافي لم يكن مجرد زعيم استبدادي؛ بل كان يمثل تهديدًا للنظام الاقتصادي العالمي. حاول القذافي تنويع الاقتصاد الليبي وتحرير موارده الطبيعية من السيطرة الغربية، وخصوصًا النفط. وكان يسعى إلى إنشاء “الدينار الذهبي” كعملة موحدة لدول إفريقيا، وهو ما كان سيضعف الدولار واليورو، مما جعل القوى الكبرى ترى في القذافي خطرًا اقتصاديًا. القوى التي تُحرك المشهد الدولي قررت إسقاطه، ليس فقط لأنه حكم بلاده بقبضة من حديد، بل لأنه كان يسعى لاستقلال ليبيا عن التبعية الاقتصادية. وكانت النتيجة حملة عسكرية واسعة النطاق تحت غطاء حقوق الإنسان. لكن القذافي ليس الوحيد؛ نفس السيناريو تكرر مع صدام حسين في العراق، الذي قرر تحويل مبيعات النفط العراقي من الدولار إلى اليورو، مما أثار غضب الولايات المتحدة. هذه الخطوات الجريئة جعلت صدام والقذافي على قائمة الأهداف للقوى الكبرى التي لا يمكنها السماح لأي نظام بإضعاف نفوذها المالي. وما يقال عن القذافي وصدام يقال أيضًا عن حكام آخرين في إفريقيا مثل روبرت موغابي، الذي تعرض لضغوط مستمرة بسبب سياساته الاقتصادية التي تحدت الهيمنة الغربية، وكذلك عمر البشير في السودان. هؤلاء الحكام رغم استبدادهم في الداخل، كانوا يشكلون تحديًا جيوسياسيًا للقوى العالمية، مما أدى إلى مواجهتهم لمصائر مشابهة.
داعش: التنظيم الإرهابي كأداة لإعادة تشكيل المنطقة
تنظيم “داعش” لم يكن مجرد نتيجة فراغ سياسي، بل تم استغلاله كأداة لإعادة تشكيل المنطقة. داعش، الذي ظهر بشكل فجائي وحقق توسعًا كبيرًا في فترة وجيزة، لم يستهدف الاحتلال الإسرائيلي، ولم يتعرض للقضايا الكبرى التي تهم العالم الإسلامي. بل على العكس، ركز على تفكيك الدول العربية والإسلامية وإثارة النزاعات الطائفية، مما أتاح للقوى الدولية فرصة التدخل. السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم تتحرك “داعش” لدعم القضية الفلسطينية؟ الجواب يكمن في أن التنظيم كان جزءًا من مخطط جيوسياسي لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى. تركيا، على سبيل المثال، سمحت للمقاتلين الأجانب بالعبور عبر حدودها إلى سوريا، مما ساهم في إشعال الحرب الأهلية. هذه التحركات كانت تهدف إلى إضعاف الدول العربية المركزية مثل سوريا، وتقوية النفوذ الإقليمي لقوى خارجية. داعش أصبح أداة تم استغلالها لتحقيق مصالح أكبر، حيث تم استغلال وجوده كذريعة لتدخلات عسكرية دولية في العراق وسوريا، تحت غطاء محاربة الإرهاب. في النهاية، الهدف كان السيطرة على النفط والموارد الطبيعية، وإعادة ترتيب التحالفات الإقليمية بما يخدم المصالح الغربية.
مالي: تكرار السيناريو لكن بأبعاد اقتصادية
بعد انتهاء الدور الذي لعبته “داعش” في سوريا والعراق، انتقلت الفوضى إلى منطقة الساحل الإفريقي، حيث بدأت نفس القوى في تكرار السيناريو هناك. مالي، الغنية بالذهب واليورانيوم، أصبحت بؤرة للتدخلات الدولية، وخاصة الفرنسية. فرنسا، التي تدخلت عسكريًا في مالي تحت ذريعة محاربة الإرهاب، كانت تهدف في الواقع إلى حماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة. القوى العالمية تدرك أهمية هذه الموارد الاستراتيجية، ولهذا السبب تم استخدام الإرهاب كذريعة للتدخل العسكري والسيطرة على المنطقة. مالي ليست استثناءً، بل جزء من نمط عالمي من الاستغلال، حيث تُستخدم الفوضى والإرهاب كغطاء للسيطرة على الموارد الطبيعية. السيناريو تكرر في عدة دول إفريقية أخرى، مثل النيجر وتشاد. هذه الدول تُستغل لتأمين الموارد الخام التي تُعتبر ضرورية لتكنولوجيا المستقبل. وهكذا، يُكتب التاريخ بمداد استغلالي يخدم القوى الاستعمارية القديمة والجديدة، تحت ستار محاربة الإرهاب.
الحرب الأخلاقية: صراع القيم وتدمير الهوية
الحرب الأخلاقية التي نشهدها اليوم ليست مجرد صراع ثقافي عابر، بل هي جزء من مخطط أوسع وأعمق يستهدف تفكيك النسيج الاجتماعي وتدمير الهوية الثقافية للأمم والشعوب. القوى التي تكتب التاريخ لا تكتفي بالصراعات العسكرية والاقتصادية، بل تخوض حربًا على القيم والمبادئ الأساسية التي تشكل هوية المجتمعات. الهدف من هذه الحرب ليس فقط تدمير القيم التقليدية، بل خلق مجتمعات ضعيفة بلا هوية أو مرجعية أخلاقية، يمكن التحكم فيها بسهولة. ولا يمكن أن تكون صدفة أن الإعلام، السينما والمنصات الكبرى مثل منصات التواصل الاجتماعي، تجتمع في نفس الوقت لترويج نفس الرسائل. هذه الوسائل أصبحت أدوات رئيسية في نشر قيم جديدة تتعارض مع القيم الأخلاقية التقليدية، وتحاول فرض أنماط حياة جديدة على المجتمعات. من خلال الأفلام، البرامج التلفزيونية، والمحتوى الرقمي الموجه، تُبث رسائل خفية تشجع على الانحلال الأخلاقي والتفكك الاجتماعي. حتى أصبح المحتوى المخالف هو المطلوب لتمويل أي عمل. فالأفلام والمحتويات التي تعارض القيم الأخلاقية التقليدية هي التي تجد دعمًا ماليًا وترويجًا واسعًا، بينما الأعمال التي تحترم القيم المجتمعية تواجه صعوبة في التمويل والنشر. الأكثر من ذلك أن رجال السياسة وكأنهم اتفقوا على كلمة رجل واحد في هذا الأمر، فمن يعارض هذه الأجندة يتعرض للتهميش والحصار. ومن يخالف هذه التوجهات تشن عليه الحروب الإعلامية والسياسية، مما يثير السؤال الميتافيزيقي: من المستفيد ولماذا؟ لا يمكن التكهن بأي جواب سوى أن المستفيد الحقيقي هو مصلحة الشيطان شخصيًا، لأنه هو الكاتب الحالي، وبمعية أعوانه يسعى إلى إنهاء أي قيمة جيدة في المجتمع. هذه القوى الخفية تعمل على إضعاف المجتمعات من الداخل عبر تدمير القيم الأخلاقية، مما يفتح الباب على مصراعيه للفوضى والانحلال. الحرب الأخلاقية ليست إلا جزءًا من المخطط الأكبر الذي يهدف إلى تدمير البنية الأخلاقية والروحية للشعوب، وجعلها تابعة بالكامل لقوى تسعى للسيطرة التامة.
وختامًا: التاريخ المكتوب بمداد الاستغلال
في النهاية، يتضح أن التاريخ الذي نعيشه اليوم ليس سلسلة من الأحداث العشوائية، بل هو مخطط مدروس بعناية من قِبل القوى الكبرى التي تسعى للسيطرة على العالم. هذه القوى، سواء كانت دولًا أو شركات كبرى أو منظمات دولية، تستغل كل أدوات القوة المتاحة لها، من الدين إلى الأخلاق، لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية. التاريخ يُكتب بمداد الاستغلال، والضحية الدائمة هي الشعوب التي تُستغل وتُدمر في هذه اللعبة القذرة. لا يمكن لأي أمة أن تستمر في الاستقرار إذا لم تدرك حجم المخططات التي تُحاك ضدها. الشعوب التي لا تفهم ما يحدث حولها ستظل دومًا ضحية، تُستخدم في صراعات لا تخدم مصالحها، بل مصالح القوى التي تكتب التاريخ.
الأستاذ كفيل محمد