تتبعت خيوط شبكة تستنزف الثروة المائية وتتاجر فيها وصمت السلطات يثير تساؤلات يواجه المغرب، على غرار عدد من الدول، نقصا حادا في الثروة المائية، ينذر بأزمة في توفير هذه المادة الحيوية، فاقمت حدتها سنوات الجفاف المتتالية والاستغلال المفرط والعشوائي للمياه، ما جعل عددا من المناطق مهددة بالعطش، ودفع السلطات المعنية إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات، للحفاظ على هذه الثروة وضمان الأمن المائي للمغرب. ووجه عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، رسالة إلى الولاة والعمال، بهذا الصدد، من أجل ضمان الاستعمال المعقلن للماء، وحثهم على عقد اجتماعات عاجلة للجن الإقليمية المنشأة بمقتضى القانون رقم 15-36، المتعلق بالماء، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي الإفراط في استغلال الثروة المائية. لكن الواقع في بعض المناطق، مثل جماعة امزورة بإقليم سطات، لا يوحي بأي أزمة، حيث عاينت "الصباح" وجود محركات ضخمة تجذب مياه نهر أم الربيع دون توقف، وتشتغل بقنينات الغاز المدعم وتعيد بيعها بمقابل مالي وعيني. فكيف تسنى لهؤلاء الاستغلال المفرط للمياه في ظل الأزمة الحادة التي يعرفها المغرب، وكيف تتجاهل السلطات المعنية المحلية والمركزية الأمر، وماهي الجهات المستفيدة من هذا الاستغلال؟ مجموعة من الأسئلة حاولت "الصباح"، من خلال زيارة للمنطقة، الإجابة عنها. إنجاز: عبد الواحد كنفاوي - تصوير: (عبد اللطيف مفيق) تقع جماعة امزورة، التي أحدثت خلال 1981، على بعد 25 كيلومترا جنوب سطات، يتعاطى جل سكانها الأنشطة الفلاحية، ويعتمدون على نهر أم الربيع لسقي زراعاتهم، لكن عددا منهم يعتمدون على الفلاحة البورية لبعدهم عن مصب النهر، أو لعدم توفرهم على الإمكانيات لجلب المياه إلى حقولهم. واستغل بعض الأعيان والنافذين بالمنطقة الوضع وأقاموا خراطيم ومحركات ضخمة لشفط المياه وإيصالها إلى من يرغب فيها بمقابل مالي أو عيني على مرأى ومسمع من السلطات، إذ أن هدير المحركات يسمع على بعد مئات الأمتار من ضفاف النهر، حيث أقيمت التجهيزات لجلب المياه والمتاجرة فيها. هدير المحركات لا يتوقف يسمع هدير محركات جذب المياه من النهر على بعد مئات الأمتار، ومع الاقتراب من ضفاف النهر، حيث توجد هذه التجهيزات تكتشف عشرات المحركات المنصوبة على ضفاف النهر والتي تعمل بقنينات الغاز، بدل مادة الغازوال، إذ أن أصحاب هذه المحركات يفضلونها لتدني كلفتها، بالنظر إلى أنها مدعمة من قبل الدولة، علما أن المحرك يستعمل قنينة غاز على رأس كل ساعتين، ما يعني أن اشتغاله طيلة اليوم يتطلب 12 قنينة، وهي كمية كافية لاستهلاك أربع أسر طيلة شهر، أي أن محركا واحدا يحرق 960 درهما من الدعم المخصص لهذه المادة، في يوم واحد، بالنظر إلى أن الدعم المخصص لهذه المادة ارتفع إلى 80 درهما للقنينة، مع الزيادة الملحوظة التي عرفتها أسعارها في الأسواق الدولية. وهكذا، فإن أصحاب هذه المحركات لا يستنزفون مياه النهر والمتاجرة فيها، فقط، بل يلتهمون أموال الدعم المخصصة للأسر. 5 آلاف درهم لموضع محرك أوضح ميلود أسمين، منسق المرصد الوطني لمحاربة الرشوة وحماية المال العام بجهة الدار البيضاء سطات وعضو بالمكتب المركزي، في تصريح لـ"الصباح" أن وضع المحركات على ضفاف نهر أم الربيع ليس متاحا للجميع، بل يقتصر على بعض الأعيان والنافذين، الذين يتحكمون في عمليات الاستغلال، إذ لابد من المرور عبرهم والحصول على موافقتهم لاستغلال المياه. وأكدت مصادر أخرى بالمنطقة أنه يتعين، بداية، أداء إتاوة لا تقل عن 5 آلاف درهم لمن يهمهم الأمر للحصول على مكان بضفاف نهر أم الربيع والشروع في جلب المياه، سواء لاستعمالها في الري العشوائي أو للمتاجرة في المياه، بعرضها على صغار الفلاحين، الذين لا يتوفرون على الإمكانيات المطلوبة لتوفير التجهيزات الضرورية، مقابل حصة من المحصول تختلف نسبتها حسب موقع الأرض، إذ يمكن أن تصل إلى نصف الغلة. لكن من الضروري المرور عبر بعض الأعيان والنافذين في المنطقة، من أجل الوساطة والسماح لصغار الفلاحين بالاستغلال، مقابل نصيب بما سيدره هذا النشاط من مداخيل على ممارسيه. كما أن هناك نصيبا من المداخيل يتم توزيعه، كما أكد ذلك عدد من سكان المنطقة، لغض الطرف عن الاستغلال غير القانوني للثروة المائية. شبكة أخطبوطية تحت قنطرة "البابور"، التي كان يمر منها قطار الفحم الحجري في بداية القرن العشرين، كما أخبرنا بذلك سكان المنطقة، تنتصب منصات مرتفعة على سطح الأرض وضعت عليها أحواض استحمام مستعملة مملوءة بالمياه وتحتضن أربع قنينات غاز، يتم ربطها بالمحرك، وتتدلى منها خراطيم كبيرة تخترق سطح النهر، لجذب المياه دون توقف. تنص المادة 23 من القانون 36.15، المتعلق بالماء، أنه يجب أن يحترم كل استعمال أو استغلال للملك العمومي المائي للشروط والشكليات التي يحددها القانون والنصوص المتخذة لتطبيقه، ولا يمكن الترخيص بهذا الاستعمال أو الاستغلال إذا كان من شأنه إلحاق الضرر بالملك العمومي المائي، سيما بالمنشآت المائية وبثبات حافات مجاري المياه وبحرية سيلان الماء بالوسط المائي. لكن الواقع الذي عاينته "الصباح" بجماعة امزورة بإقليم سطات والمناطق المجاورة لقصبة بلعوان، يوحي بأنه لا وجود لأي قوانين في ما يتعلق باستغلال المياه، إذ أن هناك إفراطا في الاستعمال، كما أنه لا يمكن الترخيص لأصحاب هذه المحركات بجلب المياه دون سقف محدد ودون أداء أي مقابل مالي، علما أن المادة 27 من القانون ذاته تؤكد أن كل استغلال أو استعمال للملك العمومي المائي يخضع لأداء إتاوة، ما يطرح السؤال، كيف تسنى لهم نصب هذه المحركات واستغلال الثروة المائية بشكل متواصل دون انقطاع منذ سنوات. تتبعت "الصباح" خيوط الشبكة التي تنهب الثروة المائية وحولتها إلى مصدر للإثراء غير الشرعي بالمتاجرة في مياه نهر أم الربيع. لجأنا، بداية، إلى بعض فعاليات المجتمع المدني التي ظلت لسنوات تندد بهذا الاستغلال المفرط، لكنها لم تجد الآذان الصاغية، ما يطرح أكثر من علامات استفهام، لدى فعاليات المجتمع المدني بالمنطقة، حول تجاهل شكاياتها واستمرار المعنيين بالاستغلال المفرط للمياه والمتاجرة فيها. نفوذ يغيب المراقبة من الصعب التسليم بأن السلطات المحلية ومسؤولي الحوض المائي التابعة له المنطقة لا يعلمون بهذا النشاط، إذ أن نفوذ المتحكمين في هذه المنطقة يجعلهم أحرارا في ما يصنعون، وكأننا في دولة داخل دولة، إذ إضافة إلى نصب منصات جذب المياه التي لا تتوقف محركاتها عن الدوران، مع الضجيج الذي تحدثه ولا يمكن تجاهله، فإنه يتم حفر خزانات تسع لأزيد من 4 آلاف لتر من الماء، تجلب إليها، في مرحلة أولى، المياه من النهر، قبل توزيعها على الراغبين فيها بمقابل، ولكي يتم ربط هذه الخزانات بالمحركات، يتم مد أنابيب إليها، وإن اقتضى الحال يتم حفر الإسفلت بالطريق الوطني، ليلا، وإعادة ترميمها، لتمرير أنابيب المياه، علما أن آثار هذه الأشغال الليلية تبدو ظاهرة للعيان، كما لاحظت "الصباح" ذلك خلال تتبعها لمسارات المياه. فأين هي السلطات المحلية والمصالح الخارجية لوزارة التجهيز والماء؟ وكالة الحوض المائي... اليد قصيرة من بين المهام المنوطة بوكالات الأحواض المائية، التدبير المندمج للموارد المائية ومراقبة استعمالها، لكن يبدو أن يد وكالة الحوض المائي لبني ملال، التي تتوفر على ملحقة بالجديدة، قصيرة لا تتمكن من الوصول إلى مستنزفي الثروة المائية بجماعة امزورن، التابعة لها، والمناطق المجاورة لمسار نهر أم الربيع، إذ رغم الزيارات المتكررة التي قام بها منسق المرصد الوطني لمحاربة الرشوة وحماية المال العام بجهة الدار البيضاء سطات إلى المسؤول عن الوكالة، من أجل وقف الاستنزاف المفرط للثروة المائية بالمنطقة، فإن ذلك لم يمنع من استمرار هذا النشاط غير القانوني، ما يعكس قوة نفوذ أصحاب محركات شفط المياه. ويتضح أن الوكالة على علم بالاستنزاف، الذي تتعرض لها مياه أم الربيع والمتاجرة غير الشرعية فيها والاستعمال المفرط لها، لكنه ينطبق عليها المثل القائل "العين بصيرة واليد قصيرة". وأوضح ميلود أسمين أن خرق القوانين واضح ولا لبس فيه، إذ رغم فرضية وجود تراخيص للاستعمال الفلاحي، فإن القانون لا يسمح بالطريقة التي يتم بها الاستغلال، إذ ينص القانون على أن الترخيص يمنح بجلب المياه للاستعمال الفلاحي لفائدة عقار معين، ولا يمكن للمستفيد من الترخيص استعمال المياه في عقارات أخرى دون ترخيص جديد، والحال أن أصحاب المحركات لا يستعملون المياه المجلوبة من النهر في سقي حقولهم، بل يبيعونها بمقابل مالي أو عيني إلى الراغبين في ري أراضيهم، ما يشكل خرقا سافرا لمقتضيات القانون المتعلق بالمياه. الكرة في ملعب رئاسة النيابة العامة أمام التجاهل الذي لاقته العديد من الشكايات الموجهة إلى السلطات المعنية بالمراقبة والزجر، قرر المرصد الوطني لمحاربة الرشوة وحماية المال العام توجيه مراسلة في 20 يونيو الماضي إلى رئيس النيابة العامة لإثارة انتباهه حول الاستغلال غير القانوني لمياه أم الربيع بجماعة امزورة، من أجل فتح تحقيق في هذه الأنشطة غير القانونية، وتم إرفاق الشكاية بعدد من الصور التي تؤكد ما جاء فيها من معطيات. ويراهن المرصد على أن تأمر رئاسة النيابة العامة بفتح تحقيق قضائي في الموضوع وتحديد المسؤوليات واتخاذ التدابير الزجرية في حق كل الجهات، التي سيثبت تورطها في الاتجار والإثراء غير المشروع من مياه أم الربيع.