الطبقات الوسطى … عوامل “التعرية”
ارتفاع الأسعار وإلغاء الدعم وتراجع الدولة في تأمين بعض الخدمات أسباب أسقطتها في وضعية الهشاشة
تعتبر الطبقات الوسطى صمام الأمان للحفاظ على الأمن الاجتماعي والاستقرار داخل كل المجتمعات، كما أنها تلعب دور المحرك في مسلسل التنمية الذي تعرفه مختلف البلدان. وتركز مختلف السياسات العمومية على توسيع قاعدة هذه الفئات، باعتماد إجراءات تمكن فئات أخرى من الالتحاق بهذه الطبقات الاجتماعية. كما أن طبيعة هذه الفئات ومميزاتها تجعلها، في البلدان المتقدمة، محط اهتمام من مختلف الأحزاب السياسية، بسبب منسوب الوعي السياسي العالي لديها، مقارنة بالطبقات الاجتماعية الأخرى. لكن ما يلاحظ في المغرب أن أهمية هذه الشرائح الاجتماعية حاضرة بقوة في الخطاب السياسي والرسمي، وغائبة عن مستوى السياسة العمومية، ما جعل هذه الطبقات تعاني ظاهرة «التعرية».
إعداد: عبد الواحد كنفاوي
احتياجات خاصة
اعتمدت المندوبية السامية للتخطيط في تحديدها للطبقات الوسطى بالمغرب على مقاربتين، تعتمد الأولى على الانتماء عن طريق التقييم الذاتي، التي تعكس نظرة السكان أنفسهم لوضعهم الاجتماعي، في حين تستند المقاربة الثانية إلى المعايير الموضوعية للدخل ومستوى المعيشة. وخلصت المندوبية إلى أن الطبقات الوسطى، تمثل 55.8 % من المجتمع، وفق المقاربة الأولى، و 53 في المائة من إجمالي السكان، بإدراجها ضمن هذه الفئات الأشخاص الذين يتراوح دخلهم بين 2800 درهم و6736 درهما. وأثارت المقاربة المعتمدة من قبل المندوبية انتقادات واسعة، إذ يرى منتقدوها أن دخل الطبقات الوسطى يجب أن يحدد بناء على احتياجاتها الخاصة.
بالمقابل، يستند بعض الاقتصاديين في تحديد الطبقات المتوسطة على تقييم الاحتياجات الخاصة بها، إذ أن أسرة متوسطة ستتطلب سكنا يليق بتطلعاتها، ما يجعلها تدفع قسطا شهريا لا يمكن أن يقل عن 3 آلاف درهم، كما سيكون عليها أداء حوالي ألفي درهم في الشهر، تضاف إليها تكاليف التمدرس في حدود 2000 درهم بالنسبة إلى أسرة لديها طفلان، وهناك تكاليف أخرى بقيمة 3 آلاف درهم. وهكذا يخلصون إلى تحديد سقف أدنى لدخل الطبقات الوسطى في حدود 10 آلاف درهم وسقف أعلى يصل إلى غاية 40 ألف درهم. وبناء على هذه المقاربة، فإن الطبقات المتوسطة لا تمثل سوى 15 % من المجتمع.
التعليم… تكاليف متزايدة
أشارت دراسة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط حول نفقات الأسر على التعليم إلى أن رسوم التمدرس تعرف ارتفاعا متواصلا بمعدل نمو يصل، في المتوسط، إلى 3.4 في المائة.
وتضاعفت نفقات الأسر على التعليم بصنفيه الخاص والعام، إثر هذه الزيادات، مرتين في ظرف ثماني سنوات، إذ انتقلت من 8.9 ملايير درهم (890 مليار سنتيم) إلى 19.7 مليار درهم (1970 مليار سنتيم)، مسجلة معدل نمو سنوي في حدود 12.1 في المائة في المتوسط.
وتؤدي الأسر في المتوسط ما يناهز 8 آلاف درهم سنويا على تمدرس أطفالها، علما أن الكلفة ببعض مؤسسات التعليم الخاص، يمكن أن تصل إلى ضعف المبلغ، علما أن الكلفة الإجمالية، بما في ذلك نفقات الأدوات المدرسية والنقل إضافة إلى رسوم التسجيل والتمدرس، لا يمكن أن تقل عن 10 آلاف درهم في السنة، بمعدل ألف درهم في الشهر. وتعتبر الفئات متوسطة الدخل من أكثر الشرائح الاجتماعية إقبالا على التعليم الخاص، لضمان الحد الأدنى من جودة التعليم لأبنائها، خاصة مع تردي الأوضاع في مؤسسات التعليم بالقطاع العمومي.
وأصبحت التكاليف المالية للتمدرس تلتهم ما بين 20 % و 50 من دخل الأسر متوسطة الدخل، ما يتسبب في عجز دائم في ميزانيتها، ولا تجد مصادر تمويل لتغطية تمدرس أبنائها، خاصة بالنسبة إلى مستويات التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، إذ لا توجد عروض تمويلية، من قبل مؤسسات بنكية مخصصة لهذا الغرض.
إلغاء الدعم
قررت الحكومة، خلال 2015، إلغاء الدعم عن الغازوال والبنزين، وتحرير السوق، في ظل هيمنة قلة من الشركات عليه، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار، الذي انعكس على أثمنة عدد من المنتوجات الأخرى.
وتضررت الفئات متوسطة الدخل، بشكل خاص ومباشر، بعملية التحرير، بالنظر إلى أن نسبة كبيرة منها تمتلك سيارات وتتحمل تبعات تقلبات الأسعار في الأسواق الدولية، التي عرفت زيادات قياسية، لم يسبق تسجيلها، منذ التحرير، إذ تجاوز سعر لتر الغازوال 14 درهما للتر، والبنزين 15 درهما.
وكانت تقلبات الأسعار أكثر وقعا على هذه الفئات من المجتمع، بالنظر إلى نمط استهلاكها، إذ إضافة إلى تأثرها بالزيادات التي عرفها عدد من المواد، على غرار باقي الفئات الأخرى، فإنها تأثرت أيضا، ببعض الإجراءات التي اعتمدتها الحكومة، مثل الزيادة في الحقوق الجمركية على عدد من المنتوجات ذات الاستهلاك الواسع من قبل هذه الفئة.
ويختلف وقع الزيادة في الأسعار على الفئات حسب نمط استهلاكها، إذ أن الفئات الوسطى تستهلك أكثر من الفئات المعوزة، كما أنها تقتني مواد مستوردة عرفت أسعارها زيادات فاقت 40 في المائة، ما أثر بشكل كبير على القدرة الشرائية لهذه الفئات.
الصحة… عبء المرض
تشير إحصائيات وزارة الصحة إلى أن هناك سبعة أطباء و9 ممرضين لكل عشرة آلاف شخص، ما يجعل المغرب بعيدا عن المعايير المعتمدة، من قبل منظمة الصحة العالمية، التي تفرض توفير طبيب لكل 650 مواطنا، أي سبعة أطباء لكل 4550، بدل عشرة آلاف المسجلة بالمغرب.
ويؤدي الخصاص وغيابات بعض الأطر الطبية في تردي الخدمات المقدمة داخل المستشفيات العمومية، إذ يضطر المرضى إلى الانتظار لساعات وربما لأيام من أجل الاستفادة من التشخيص والعلاجات. وتقف وزارة الصحة عاجزة أمام تغيب الأطر الطبية الذي ينتشر في عدد من المستشفيات بالمغرب.
ويعاني العرض الحالي عجزا كبيرا، بالمقارنة مع المعايير المعتمدة، من قبل منظمة الصحة العالمية، التي تشير إلى أن نفقات وزارة الصحة يجب أن تمثل 9 في المائة من النفقات العامة للميزانية العامة للدولة.
وفي ظل الخصاص الكبير في المستشفيات العمومية، سواء في ما يتعلق بالتجهيزات، أو الموارد البشرية، تضطر عدد من الأسر، خاصة متوسطة الدخل، إلى اللجوء للقطاع الخاص، ما يجعل الطلب يتجاوز بكثير العرض المتوفر، فيفرض الفاعلون في القطاع أسعارا مرتفعة جدا في استغلال فاضح لوضعية المريض، الذي يكون على استعداد لأداء أي مبلغ للعلاج. وتتجاوز الحصة التي تتحملها الأسر المعدل الدولي، الذي حددته المنظمة العالمية للصحة في 25 في المائة، مقابل أزيد من 48 في المائة بالمغرب، ما يعني أن القسط الأكبر من تكاليف العلاج تتحملها الأسر.
مفهوم غامض
تعددت الدراسات والأبحاث حول هذه الفئات، واختلفت معها المفاهيم، إذ لا يوجد تعريف موحد لمفهوم الطبقات الوسطى، فهناك من حدده بناء على الدخل، في حين ذهب آخرون إلى وضع معايير متعلقة بنمط العيش والاحتياجات، و اعتبر البعض الآخر أن الطبقات الوسطى هي التي توجد بين الطبقات الفقيرة والغنية.
وبغض النظر عن المفهوم الدقيق بالمغرب، فإن الشيء المؤكد أن الفئات الوسطى بالمغرب، تتعرض، على غرار الطبقات الجيولوجية، لعوامل التعرية، وإن اختلفت الأسباب. فإذا كانت التعرية في مفهومها الجغرافي ظاهرة طبيعية ناتجة عن التغيرات المناخية، فإنها تعتبر في ما يتعلق بالطبقات الوسطى نتيجة لتداعيات سياسات عمومية خاطئة.
آلية للارتقاء الاجتماعي
اعتبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن السياسات العمومية يجب أن تهدف إلى إعادة إرساء آلية دائمة للارتقاء الاجتماعي لتمكين الأفراد الموجودين في أدنى السلم الاجتماعي من الحركية والاستمرار في الارتقاء وتحسين أوضاعهم.
وأكد معدو الدراسة ضعف التدابير التي تستهدف الطبقة الوسطى، رغم مختلف التدابير التي تم اعتمادها لمحاولة إرساء منظومة جبائية عصرية ومنسجمة وناجعة ومنصفة.
وضعية هشاشة
أبان بحث للمندوبية السامية للتخطيط حول انشغالات الطبقة الوسطى، أن 86 في المائة من الأسر المتوسطة صرحت أن غلاء المعيشة وتقلب الحياة لا يزالان يشكلان انشغالها الرئيسي، ما يمثل مؤشرا على الهشاشة التي تسم الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهذه الفئات الاجتماعية المحسوبة على الطبقة الوسطى، الذي يتعين أن يسمح لها وضعها المادي بالمساهمة بفعالية في النمو والتنمية. كما تنصب الانشغالات الرئيسية لـ 75 في المائة من الأسر المنتمية للطبقة الوسطى في المغرب على الوضعية الصحية والتكاليف المرتبطة بالعلاجات الطبية، فيما تهم انشغالات 70 في المائة من هذه الأسر بطالة الشباب ونقص الموارد المالية. واعتبرت دراسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي أن أهم معيار لتحديد انتماء شخص أو مجموعة ما إلى الطبقة الوسطى يتمثل في مدى مساهمة الفرد أو الأسرة أو الفئة المعنية في التقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية للبلاد ومدى سعيهم لتحسين ظروف عيشهم.
وعمد الباحثون، بداية، إلى وضع حد أدنى لدخل الطبقة الوسطى على أساس العتبة المعتمدة من قبل الحكومة، ويتعلق الأمر بمؤشر مأخوذ من برامج السكن الموجهة إلى الطبقة الوسطى، وهو وارد بشكل صريح في وثائق قطاع الإسكان، ويبلغ 8880 درهما شهريا، وتم تعديل هذا الحد الأدنى على أساس سبعة أوجه إنفاق اعتيادية للطبقة الوسطى، تتمثل في السكن، والتنقل، والتغذية، والاستهلاك غير الغذائي، والصحة والتعليم، والترفيه والادخار. ووضع الباحثون، وفق هذه المقاربة، عتبة دنيا للدخل في حدود 11 ألفا و110 دراهم في الشهر. وقسم الباحثون، بعد ذلك، الطبقة الوسطى إلى أربع فئات متمايزة، مع مراعاة عدم التجانس الكبير، الذي يسم مكونات هذه الطبقة الاجتماعية، إذ قسموا النفقات، وفق سيناريوهات ديموغرافية ومجتمعية قريبة إلى واقع الحال. ويتراوح دخل الفئة الأولى ما بين 11100 درهم و 14450، والثانية بين 14451 و 16650، والثالثة بين 16651 درهما و 20 ألفا، والرابعة بين 20001 درهم و 25 ألفا.