معابد يهودية بالبيضاء… حضور ديني يعكس التعايش

"ابن هاروس" أكثر المعابد قدسية تحول إلى مزار لليهود المغاربة من داخل المملكة وخارجها لطالما وفرت الدارالبيضاء سبل الاستقرار، والعيش المريح للطائفة اليهودية، التي بلغ تعدادها في المدينة، وفق آخر الإحصائيات، ما يناهز 3 آلاف مواطن يستفيدون من مدارس ومجازر ومطاعم ونواد خاصة بهم. مجتمع يهودي صغير يعيش في تناغم تام مع صخب المدينة الكبيرة، ويقتطع من وقتها ما يلزمه لإقامة شعائره الدينية . الدارالبيضاء لم تنس، في فورة نموها، سكانها اليهود، واحتفظت لهم في ذاكرتها الأمينة بصور مقابر ومعابد، كانت تصدح بالترانيم والصلوات، قبل أن تؤول على قلتها اليوم، إلى شواهد حياة يستدل بها على ما تبقى من اليهود البيضاويين. منطقة سيدي بليوط وسط الدار البيضاء التي تضم خمسة معابد يهودية، أبرزها معابد، "ابن هاروس" و"إيم هابانيم" و"دفيد" و"بيث إيل"، مكان خاص لممارسة الشعائر الدينية ونقطة تجمع سكاني لعدد كبير من اليهود البيضاويين. معابد أغلبها كانت في الأصل منازل لحاخامات ورجال دين، قبل أن تتحول إلى مزارات، يحج إليها اليوم اليهود المغاربة من داخل المملكة وخارجها. وفي طريقنا لاستكشاف أحد أكثر هذه المعابد قداسة، معبد "ابن هاروس"، أقدم معابد المنطقة وأكثرها حظوة، تملكنا الفضول والرهبة في الآن نفسه ونحن نحاول المرور وسط أزقة سيدي بليوط الضيقة. نوافذ المنازل المفتوحة على بعضها البعض تجعل المنطقة أشبه بمنزل واحد كبير نحاول التسلل بين ردهاته دون أن يدري ملاكه.نظرات سكان المنطقة والصبية لم تفارقنا منذ دخولنا. للوهلة الأولى أحسسنا أننا أغراب في مدينتنا قبل أن تتدخل امرأة في بداية الخمسينات من عمرها وتوقفنا للاستفسار. حاصرتنا المرأة بأسئلة صارمة من قبيل ماذا تريدون؟ لماذا أنتم واقفون هنا أمام المعبد؟ ما هي غايتكم؟هلع المرأة وإصرارها على معرفة هويتنا وغايتنا من الزيارة، يحكي أسبابه الجزء المظلم من تاريخ المدينة، الذي سجل تعرض مجموعة من المزارات اليهودية لهجمات إرهابية في أحداث 16 ماي الأليمة سنة 2003.بعد تأكدها من هويتنا، خف توتر المرأة وطالبتنا بتصريح من السلطات الأمنية، إلا أن الأمر لم يكن يستدعي كل هذا التعقيد، فقد حاولنا إقناعها أننا مجرد زوار عاديين نريد معاينة المعبد وأخذ فكرة عن خلفيته التاريخية. أقدس المعابدواجهته المشيدة بالحجر الأسود وشكل بوابته المقوس يوحي بطابع المبنى المعماري الذي يعود إلى الفترة الكولونيالية، وهو معطى ينطبق على مجموعة المباني في زنقة ابن رشد، "لوزيتانيا" سابقا، المحتضنة للمعبد. تقول أمينة، مدبرة المعبد بنبرة واثقة: "أنا أول امرأة تتكلف بتدبير المعبد منذ تسع سنوات حيث كنت قبل ذلك أسكن بجواره".أمينة ابنة المنطقة وأحد جيران معبد "ابن هاروس" القدامى تحكي كيف أنها لم تتخيل يوما الإطلاع بمهمة تدبير المعبد والإشراف عليه رغم احتكاكها وتعايشها مع اليهود المغاربة منذ طفولتها.حديثنا القصير مع أمينة، شجعنا لأن نطلب منها الإذن بزيارة داخلية للمعبد. صدمت المرأة من طلبنا وأقنعتنا بأن الأمر يتعلق بأوامر أمنية تمنع غير اليهود من الاقتراب من المعبد. وفي هذا الشأن تحكي كيف أنها اشتبهت قبل يومين في أحد الأشخاص لتبلغ عنه السلطات الأمنية التي ألقت عليه القبض على الفور وباشرت التحري عن هويته.وقع الحكاية السلبي على النفس لم يؤثر في عزمنا على اكتشاف المعبد، وأمام إلحاحنا وما عرضناه من ضمانات شملت الامتناع عن تصوير المعبد من الداخل، استجابت أمينة بتحفظ، وطلبت منا العودة بعد الظهيرة حتى يتسنى لها إدخالنا "خفية"، حسب قولها.كان اليوم جمعة والإقبال على المعبد لم يكن كبيرا غير أن وجودنا في المكان صادف توافد مجموعة من الزوار خلال الظهيرة من أجل الصلاة كما هي العادة كل يوم. رجال مسنون متحفظون لا يكلم أحدهم الآخر، ينتظرون قرب باب المعبد في صمت من أجل الدخول لأداء شعائر الصلاة.بادرنا إلى سؤال أحدهم لكننا لم نقابل بأي استجابة، حتى صادفنا في الطريق أحد الزوار من الشباب يرافقه ابنه. سألناه عن سبب زيارته لهذا المعبد بالذات. انفرجت أسارير "سامي. ب" فأجابنا قائلا: "هذا المعبد يعتبر الأقدم، لأنه بني على أنقاض معبد قديم بخلاف المعابد الأربعة الأخرى التي كانت منازل يهود ماتوا قبل سنين".هذا المعطى أكدته شهادات السكان من جيران المعبد الذين ألفوا المناسبات الدينية اليهودية، وصاروا يحفظون مواعيدها عن ظهر قلب. تقول لطيفة، من سكان المنطقة ومقيمة بجوار المعبد "إن الإقبال يكون كبيرا على المعبد خلال أيام الاثنين والخميس والسبت من كل أسبوع، بالإضافة إلى الأعياد الدينية والمناسبات الخاصة وعلى رأس كل شهر".مرت ساعات الظهيرة بسرعة وأخذ الهدوء يخيم على أزقة المنطقة. اقتربنا من المعبد ثانية والطموح يحدونا بأن تفي أمينة بوعدها وتسمح لنا بزيارة داخلية للمعبد. قرعنا الباب الحديدي ببطء شديد كما هو متفق عليه لتفتح لنا الباب وتدخلنا بسرعة. اللوحة التذكارية لم يكن المعبد بتلك المساحة الكبيرة التي يوحي بها مدخله. بناء من طابقين، الأرضي يضم مطبخا وحجرة صغيرة، ثم درج رخامي مسيج بالخشب يحيل على الطابق العلوي الذي يضم قاعة العبادة الرئيسية وغرفة صغيرة مجاورة لها.قاعة العبادة الرئيسية تخلق في نفس الزائر للوهلة الأولى إحساسا بالرهبة، السبب في ذلك يمكن ربطه بعلو سقفها البيضاوي الذي يتجاوز خمسة أمتار، أو باللون الأحمر القاني الذي يغطي كراسي القاعة الكثيرة المتراصة بشكل متقابل.يتوسط القاعة محراب مخصص للحاخام أو رجل الدين يلقي من عليه عظته خلال المناسبات الدينية، وفي أطراف القاعة تتموقع أسطوانتان مغطتان بثوب حريري. قالت أمينة إنهما "السفر" أو الكتاب المقدس "الثوراة" يجري إخراجهما وتلاوتهما خلال الأعياد والمناسبات الدينية.الضوء الذي يدخل إلى القاعة تتولى توزيعه بشكل متناسق، القناديل الزجاجية المعلقة إلى السقف، وبين قطع الزجاج التي تملأ السقف، تظهر بصعوبة وسط الجدار الرئيسي في القاعة، لوحة رخامية صغيرة تحمل تاريخ تأسيس المعبد واسم مؤسسه.سنة 5709 عبرية الموافق لسنة 1949 ميلادية كانت تاريخ بناء المعبد من قبل الحاخام سام إلياس ابن هاروس، وفق ما هو مدون باللوحة التي تقابلها لوحة أخرى أكبر حجما، سوداء اللون، تتخللها كتابات ذهبية بالعبرية واللاتينية، ووميض أضواء حمراء متراصة على شكل خطوط عمودية.استبد بنا الفضول واستفسرنا أمينة عن حقيقة اللوحة، التي أكدت أنها عبارة عن "لوحة تذكارية" تخلد أسماء المتوفين من رعايا المعبد من الجالية اليهودية وتواريخ وفاتهم. استرسلنا في المشاهدة ومعاينة المكان والزيارة التي كان من المتفق عليه أن لا تتعدى خمس دقائق، استمرت عشرين دقيقة.زمن كان كافيا بأن يستنفر أمينة ويدفعها لطردنا بلطف مصطنع مخافة أن يباغتها صاحب المعبد الحالي بزيارة، فـ (ب. ترجمان) هو المالك الثاني للمعبد بعد أن اقتناه من ورثة الحاخام (ابن هاروس) قبل سنوات بمبلغ تراوح بين 100 و130 مليون سنتيم، حسب رواية أمينة.خرجنا من المعبد كما دخلناه بهدوء ودون أن نلفت إلينا انتباه الجيران. إحساس بالنشوة غمرنا ونحن عند الباب كأننا بلغنا منتهى مغامرة ما، ربما بسبب غموض المكان والإثارة التي رافقت دخولنا إليه. في جميع الأحوال شكلنا فكرة أكثر وضوحا عن المجتمع اليهودي في مدينة الدار البيضاء بزيارة أحد مواقع عبادته. خلــيــط متــجــانــس مــن الأعـــراق والثــقــافــات أمام معبد "ابن هاروس"، استوقفنا مشهد أحد رجال الدين اليهود، وهو يتثبت من إغلاق باب فيلا بيضاء صغيرة بإحكام، يدير المفتاح تارة ويتكئ بقوة على الباب تارة أخرى. تسمرنا أمام المشهد، وأثرنا انتباه حارس السيارات العجوز المرابط في الشارع المحاذي للزقاق، واقترب منا ببطء يدفعه الفضول. لم يستطع مقاومة حسه "البوليسي" وبادرنا بالسؤال. هل من خطب ما؟ نظرنا إليه ورسمنا على محيانا نظرة من الاستغراب والتعجب، ثم أجبناه بالاستفسار عن مالك الفيلا عند زاوية الزقاق."إنها معبد إيم هابانيم وليست فيلا"، أجابنا بنبرة الواثق، إلا أننا زدنا من حدة استغرابنا على أمل استخلاص معلومات أخرى منه، قبل أن يسترسل في الحديث بعد اطمئنانه لهويتنا، عن تاريخ هذا المعبد الذي كان منزلا لأحد أعيان الجالية اليهودية في الدار البيضاء، ليتحول بعد مماته إلى مزار أكثر منه معبدا، إذ أن زواره يعدون على رؤوس الأصابع، ولا ينفك رجل الدين الذي يديره حاليا عن مغادرته ودخوله خلال ساعات النهار والليل عشرات المرات، وكل مرة يحكم فيها الإغلاق، فالخوف من سرقة محتويات المعابد هاجس رجال الدين هنا في سيدي بليوط.حال المعبد المزار تشير إلى استفادته من صيانة منتظمة وعناية، على عكس المعابد الأخرى في المنطقة، التي تعاني تهالك مرافقها، إذ يشرف على تدبيرها ويمول صائرها اليومي بالاعتماد على المساهمات والمبادرات الفردية لزوار هاته المعابد، في انتظار تنفيذ وعود بترميم المعابد اليهودية في كافة أنحاء المملكة، أطلقها جلالة الملك محمد السادس ضمن رسالة كان رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، تلاها خلال حفل لترميم كنيس يهودي في فاس خلال السنة الماضية. الترميم وإعادة إحياء هذا التراث الروحي والثقافي الذي يمثل مكونا مهما في هوية المدينة، مطلب البيضاويين باختلاف دياناتهم. وفي هذا الشأن يروي لنا الحاج أحمد، الأستاذ المتقاعد، والذي يقطن بجوار معبد "إيم هابانيم"، توافد أفواج من السياح اليهود من الخارج على المعبد بشكل منتظم طيلة السنة، إذ يساهمون في شكل تبرعات وهبات، في الحفاظ على ديمومة واستمرار نشاط المعبد، رغم تراجع الإقبال عليه من قبل القلة المتبقية من اليهود البيضاويين، بسبب الهجرة، خصوصا في صفوف الشباب.تركنا زنقة "لوزيتانيا" واخترقنا الأزقة المجاورة بحثا عن معبد آخر لكن دون جدوى، فكلها موصودة لا تفتح إلا للصلاة أو الصيانة اليومية. صورة توحي بالعزلة والاندثار، فالمباني مهما تعاظمت مكانتها مرتبطة بالإنسان الذي يبعث فيها الروح عبر نشاطه، إذ تحولت معابد سيدي بليوط إلى جسد بلا روح، تنتظر تدخلا بشريا لانتشالها من واقعها الحالي، إذ الحاجة إلى الترميم وزيادة الوعي بأهمية هذه المزارات الروحية كتراث ثقافي يستحوذ على جزء مهم من تاريخ المدينة، التي أثراها على مر السنين خليط متجانس من الأعراق والثقافات والاتنيات.هذه الزيارة شكلت بالنسبة إلينا رحلة ذاتية لاستكشاف مدى تقبلنا للآخر الذي كان وما زال مكونا هاما من مكونات هويتنا وثقافتنا، الشيء الذي أكده المؤرخ اليهودي المغربي حاييم الزعفراني من خلال إقراره بتمتع المجموعات اليهودية المغربية عبر التاريخ باستقلال ذاتي كامل إداري وثقافي من خلال نظام خاص، كانت له محاكمه وماليته، وكان يضمن لتابعيه حقهم في التدين والرعاية والتعليم وتطبيق قانون الأحوال الشخصية. إنجاز: بدر الدين عتيقي

معابد يهودية بالبيضاء… حضور ديني يعكس التعايش

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

احتجاجات بدار بوعزة بسبب تردي الوضع الصحي

أطفال ومسنون فرنسيون في أحضان مغربيات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات