“إل إس دي” … مخدر الأوهام
فقدان السيطرة على تأثيره يصيب بالجنون ويضع متعاطيه أمام تحدي الموازنة بين الوعي واللاوعي
“لاسيد”، “التنابر”، “لوسي”، “تريبس”…. هي تسميات عديدة لمخدر هلوسة ينقل متعاطيه إلى عالم من الأوهام، ويفصله عن الواقع لساعات عدة، قد تنتهي به على شفا حفرة من الجنون، أو بوضع حد لحياته بسبب القيام بسلوك خارج عن إرادته. إنه عقار الـ”إل إس دي”، الاسم الشائع لحمض “الليسيرجيك”، الذي يصنف ضمن أقوى مخدرات “النخبة”، ويروج في الغالب، بحذر شديد، في صفوف “مثقفين” يسعون لـ”الوصول
بعقولهم إلى الكمال”، حسب ما يدعونه، بناء على دراسات حول تأثيرات العقار على الدماغ. اخترقت “الصباح” طائفة متعاطي “الأسيد” بغرض تسليط الضوء على واقع هذا المخدر الخطير، وإطلاعكم،
من خلال شهادات بعضهم وخبراء، على فلسفة تعاطيهم وكيفية الإقلاع عنه.
إنجاز: يسرى عويفي
هي بضع ساعات من الانتشاء قد تأخذك من شرفات الحياة الوردية إلى أروقة المستشفيات أو ظلمات القبور. إن قدرة مخدر الـ”إل إس دي” على فصل متعاطيه عن الواقع، وتعطيل إدراكه لما يقع حوله من تغييرات في الأشكال والأصوات والمشاعر الجامحة، تجعله أمام تحدي تحقيق التوازن بين اللاوعي والوعي، أو فقدان السيطرة والإصابة بالجنون بعد وصوله لنقطة “اللاعودة”.
ورغم خطورة تعاطي هذا العقار، الذي قد يتسبب في اضطرابات نفسية كانفصام الشخصية والإحباط، أو جسدية كزيادة معدل ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم، حتى بعد استخدامه لمرة واحدة فقط، فإن متعاطيه يؤكدون اختبارهم حالة فريدة من الشعور الذي يدفعهم لتكرار التجربة، وزيادة الجرعة مرة بعد أخرى، للحصول على التأثير ذاته الذي اختبروه في أول مرة.
لقاء مع “البزناس”
كانت الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال، حينما تسلمت صوفيا (اسم مستعار)، جرعتها الدورية من”الأسيد” بمنطقة بوركون، وهي تدس في يد المروج، عبر مصافحة سريعة لا توحي بتاتا بأنها عملية اقتناء مخدر أو ما شابه، 180 درهما، مقابل وريقة صغيرة مربعة الشكل ومزينة بتصاميم ملونة، تكاد ترى بالعين المجردة، تسمى “التنبر” (طابع بريدي).
أخبرتنا أنها تقتنيها مسبقا، لأن مخزون “البزناز” قد يعرف انقطاعا بين الفينة والأخرى، بسبب الطلب المتزايد وقلة المروجين الذين يتعاملون بها ويشتغلون بشكل متكتم مع دائرة محدودة من الزبناء، ثم دستها بعناية في محفظة صغيرة خبأتها بدرج سيارتها إلى وقت لاحق، غالبا ما يتم تحديده بالاتفاق مع أصحابها من أجل تعاطي المخدر بشكل جماعي في إحدى الفيلات، مؤكدة أن فعاليته تستمر لسنوات طويلة إذا ما تم تخزينه بعيدا عن الضوء والرطوبة ودرجة الحرارة المرتفعة، ولا “يبرد” (يفقد تأثيره)، عكس باقي أنواع المخدرات كالإكستازي والحشيش مثلا.
التجربة الأولى
تقول صوفيا، التي تبلغ من العمر 27 سنة، وتشتغل موظفة في إحدى المؤسسات العمومية، أن تجربة تعاطي الأسيد تكون محفوفة بالمخاطر، وتستلزم حضور شخص غير متعاط لإنقاذ الموقف إذا قرر أحدهم القيام بسلوك متهور، كالقفز من شرفة أو إلحاق الأذى بنفسه نتيجة الهلوسات البصرية والسمعية التي يختبرها، مشيرة إلى أن تأثير المخدر يغير الإحساس بالزمن ويحول الأبعاد الثلاثية للعالم المحيط بالمرء إلى أبعاد لا نهائية، بشكل غريب، تعجز خلاياه العصبية على ترجمتها وفقا لأنماط الذاكرة واللغة.
وعن أول مرة تعاطت فيها الـ”إل إس دي”، تحكي لنا محدثتنا بحماس “كنت أشرب الخمر رفقة أصدقائي في أحد “الكابانوات” بطاماريس، حينما ناولني أحدهم وريقة صغيرة، علي أن أمتصها حتى تذوب. عرفت أنه الأسيد، قرأت عنه كثيرا وكنت أرغب بتجربته لكنني لم أجد مروجا يبيعه. في البداية تخوفت منه فجربت نصف قطعة فقط، لم يكن تأثيرها قويا كما هو الحال بالنسبة إلى “الطلعة” التي اختبرها رفاقي، إذ جعلتني أشعر بإحساس لذيذ وأرى الألوان مشعة وزاهية، لا غير، بينما كانوا يغوصون في عالم آخر، يرون أنفسهم فيه بأشكال مختلفة، ويضحكون بهستيرية عن بعضهم البعض”، وتستدرك كلامها وهي تقهقه بصوت عال “لقد أقسم أحدهم بأنه رأى قطارا يمر أمامه بسرعة ثم فيلا يتجول قرب مسبح الفيلا، فيما سألني آخر إذا ما كنت أرى الشعر وهو ينمو على وجه أحد رفقائنا إلى أن صار رأسه ككرة شعر متحركة… كان منظرهم مضحكا وممتعا في الآن ذاته… من الجيد الانفصال عن الواقع في بعض الأحيان، لتكسير روتين الحياة الخانق، شريطة الاحتفاظ بالقدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وخيالي”.
تحرر وفقدان للسيطرة
“في المرة التالية التي تعاطيت فيها العقار، أخذت “تنبرا” بأكمله كي أتمكن من الوصول لحالة الانتشاء الكاملة، فصرت أفكر بعمق مرعب، واكتشفت أنني منفتحة على احتمالات لم أكن أتوقعها، وهو شعور خطير وحيوي في آن واحد”، تقول صوفيا مضيفة “أحسست بنفسي طفلة تتنفس للمرة الأولى، بداخلي طاقة فرح وحب عجيبين تجاه أي شيء، وكأنني أعيش اللحظة دون ذاكرة أو قيود.
كنت مستعدة لتقبيل أي إنسان رجلا كان أو امرأة، دون أن أعرفه، وقتل طفل في الوقت ذاته، دون الإحساس بالذنب أو الشفقة. شعرت لأول مرة في حياتي بانسجام وإشباع وتحرر، في مقابل ازدراء وكراهية شديدين لنمط عيشي وروتين الحياة التافهة الذي يحول البشر لكائنات شبيهة بالإنسان الآلي. تمكنت من سماع صوت الطيور وهي تحلق في السماء، وحفيف الأشجار الموجودة على قارعة الطريق المجاور للفيلا التي كنت أوجد بداخلها، فضلا عن ضجيج السيارات والبشر الذي يعكر صفاء أصوات الطبيعة. تمنيت أن يمدني أحد بمسدس أردي به كل من أصادفه من البشر، كي لا يشوشوا على صفاء ذهني في تلك اللحظة”.
وتستطرد الشابة الرقيقة حديثها بعد وهلة، قائلة “لقد فقدت سيطرتي على الزمن والمكان.، رأيت انعكاسي على المرآة فظهر لي شكلي طفلة في الرابعة من عمرها، وشعرت بأنني سأفقد عقلي، ثم تساءلت لحظتها : هل أهلوس؟ هل أصبت بالفصام أم أنني اكتسبت بصيرة خارقة للعادة؟ لكنني تغلبت على خوفي وتذكرت أن الفزع مما يراه المرء ويسمعه عند التعاطي هو السبب في إصابته بالجنون. الجزء الأسوأ من الأمر هو وعيي بعجزي عن إيقافه. شعرت أني خارج جسدي. اعتقدت أني مت وأن روحي انسلخت عن جسدي كما تنسلخ الحية من جلدها، ثم تعلقت في مكان ما في الفضاء جعلني أرى جسدي ممددا على الأريكة، بينما مرت الثواني وكأنها دقائق طويلة وبطيئة”، مشيرة إلى أن حلقات الأوهام السريعة والمتداخلة التي عاشتها، بدأت بعد حوالي 40 دقيقة من تعاطي العقار، واستمرت حوالي 4 ساعات.
ذاكرة العقل الباطن
تختلف الآثار الناتجة عن تعاطي حمض “الليسرجيك” من شخص لآخر، حسب مزاجه وشخصيته والجرعة التي تناولها، فضلا عن طبيعة حلقات الأوهام المتتابعة التي يختبرها عند بلوغ الانتشاء، والتي تسمى بالرحلات (“تريبس”)، حسب ما تؤكد صوفيا، مشيرة إلى أنها ليست “خبيرة في الأسيد” وحديثة العهد بتعاطيه، عكس حبيبها الذي يتعاطاه منذ ثلاث سنوات.
سألناها عما إذا كان بإمكاننا التواصل معه للحصول على مزيد من المعلومات حول تأثير العقار، فطلبته عبر الهاتف ووافق على الحديث مع “الصباح” شريطة عدم الكشف عن هويته، ثم قال “حينما جربت المخدر لأول مرة، شعرت باسترخاء وميل للإغماء، مع حركة فائقة للدم في جسدي، وإحساس غريب كاد قلبي أن يتوقف إثره. أغلقت عيني للحظة ثم فتحتهما لأجد نفسي جالسا فوق أرجوحة بجزيرة كل ما عليها لونه أخضر. نظرت إلى يدي فوجدتها شفافة تظهر وتختفي. رأيتني ممددا على الرمال رفقة صديقة سابقة في فترة الجامعة، واسترجعت ذاكرتي حينها طعم شفتيها في أول قبلة لنا معا، وملمس بشرتها الناعم» واستدرك حديثه بسرعة مازحا “لا تقلقي يا صوفيا، أعلم أنك وضعت الهاتف على وضع مكبر الصوت كي تسمعيني أيضا. لم أخبرك عن لقطة القبلة لأنها مجرد هلوسات قديمة من عقلي الباطن، كما أنني لم أكن أعرفك حينها، وهي لا تعني لي اليوم شيئا. نتي هي الحب راكي عارفة”، وضحكنا جميعا.
حلقات متتابعة
وعن مراحل “الطلعة” يقول صديق محدثتنا الحميم، الذي اخترنا له فؤاد اسما مستعارا، “حسب معرفتي المتواضعة بعقار الـ”إل إس دي»، الذي كان موضوع دراسات وكتب عدة لكيميائيين وباحثين أمريكيين، فإن المرء يعيش تحت تأثير المخدر في حلقات متتابعة من المشاهد والتخيلات والأحاسيس، يمكن تقسيمها لمراحل ثابتة يختلف ترتيبها أو وجودها، وأخرى قابلة للتغيير».
ويتابع فؤاد كلامه قائلا “في المرحلة الأولى تصبح الألوان زاهية ومشعة، ويرى الشخص الأشياء المسطحة والمناظر المرسومة في لوحة مثلا، بأبعاد ثلاثية (طول وعرض وارتفاع)، كما يحس بشعور لذيذ ويرى جدران المكان الذي يجلس فيه وهي تتراقص وتتحرك، ثم تتداخل عواطفه ومشاعره وأحاسيسه في انتقالات وتداخلات سريعة وعجيبة (رعب شديد فجائي ثم سرور ونشوة)، يشعر خلالها ببعد نظر وعبقرية. بعد ذلك قد ينتقل الشخص إلى المرحلة التالية التي تسيطر عليه فيها حالة اكتئاب شديد، خاصة إذا ما تعاطى «الأسيد» وهو في مزاج سيء وكان متخوفا منه، فيرى مناظر مرعبة (يرى نفسه وسط عواصف وبرق ورعد وحرائق مثلا)، ويسمع أصواتا مزعجة ويشم روائح مختلفة، ثم تسيطر عليه حالة من التوتر الشديد والقلق والخوف والجبن، التي يجب أن يحرص على عدم الاستسلام لها، وإلا يقدر يتسطى فديك اللحظة”.
ويضيف محدثنا البالغ من العمر 32 سنة، «تأتي بعد ذلك المرحلة الحاسمة لدي، وهي مرحلة الخروج من الجسد، وفيها يشعر الشخص أنه قد خرج من جسده وأن عقله أو روحه قد انخلعت من رأسه وأصبحت بعيدة عنه، كما قد يختبر البعض، تجربة انعدام الوزن والتحليق في الفضاء، وفيها يشعر الشخص بأنه يسبح في الفضاء وحول الكواكب، أو أنه قادر على التحليق، فيلقي بنفسه من نافذة في دور مرتفع، أو يقوم بعمل أشياء قد تؤدي إلى موته أو سجنه، وهو الأمر الخطير الذي يحتم على أي متعاط أن يكون رفقة شخص غير متعاط لمنعه من الانسياق وراء تهيؤاته».
“لاسيد” يصل بالعقل إلى الكمال
أوردت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية على لسان روبن كارهارتهاريس، أول عالم يختبر عقار الهلوسة الأسيد على البشر، أن “الدماغ يتكون من شبكات مستقلة، كل منها تقوم بأداء وظيفة مستقلة متخصصة معينة كالرؤية والسمع والحركة، بالتالي فعند تعاطي عقار الهلوسة، تنهار حالة الجدران الفاصلة بين مراكز هذه الوظائف، ويصبح الدماغ أكثر تكاملا واتحادا ونقاء من ذي قبل”.
وأوضحت نتائج البحث الذي قاده كارهارتهاريس، ونشرته مجلة “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية”، أن “هذا التأثير الفسيولوجي يكمن وراء الحالة العميقة المتغيرة للوعي، التي يصفها متعاطو هذا العقار. ويرتبط أيضا بما يطلق عليه الناس اسم : انحلال الأنا، والتي تشير إلى أن الإحساس الطبيعي بالنفس، يتكسر ويستبدل به شعور يتعلق بإعادة الاتصال مع النفس ومع الآخرين، ومع العالم الطبيعي حولهم”، مشيرة إلى أن الأشخاص الذين يتناولون عقاقير الهلوسة، “يتمكنون من الرؤية بواسطة أجزاء أخرى في الدماغ، وليس من خلال القشرة البصرية فقط، والتي تكون نشطة في حالة الرؤية الطبيعية”.
لا يسبب الإدمان بل التعود
الـ”إل إ سدي” (ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك)، هو مركب صنع لأول مرة على يدي الكيميائي السويسري “ألبرت هوفمان”، في 1938، من خلاصة فطر “الإرغوت” (الجويدار)، وهو عقار محظور، ليست له رائحة ولا لون، لكن طعمه مر بعض الشيء، كما أنه يحضر لدى بعض التجار للمخدرات بطريقة بدائية خطيرة، يتم خلالها تعبئته في زجاجات صغيرة كتلك الخاصة بحقن البنسلين (سائلا شفافا)، ثم نقع ورق نشاف مقسم إلى مربعات فيه (يمثل كل مربع جرعة واحدة يتم لعقها).
ورغم أنه لا يتسبب في الإدمان أو ظهور أعراض الانسحاب مع توقف الاستعمال (كتلك التي تظهر على الذين يتعاطون الأدوية المخدرة الأخرى)، فإن تعاطي “الأسيد” يؤدي إلى التعود أو التحمل، بمعنى أن الأشخاص الذين يتعاطونه بشكل مستمر عليهم أن يتناولوا جرعة أكبر في كل مرة يرغبون بالحصول على نفس التأثير الذي حصلوا عليه في المرة السابقة من التعاطي، وهو أمر خطير، بالنظر إلى قوة العقار وتأثيره السلبي على الصحة، ولو بكميات ضئيلة.
حركات: العلاج يرتبط بالمحيط
اعتبر أبو بكر حركات، الاختصاصي في علم النفس والجنس، في لقاء مع “الصباح”، أن العلاج من جميع أنواع المخدرات الصلبة يتطلب من المدمن مجهودا كبيرا وإرادة قوية.
وقال حركات، إن علاج مدمن المخدرات يتطلب الإجابة عن الكثير من الأسئلة، على رأسها نوعية المحيط الذي يعيش فيه أو يختلط معه، من عائلة وأصدقاء، فكلما كان المحيط بعيدا عن عالم المخدرات، كلما كان حظ المدمن في العلاج أكبر، مؤكدا أن “العلاج ممكن إذا انعزل المدمن عن محيطه الذي يتعاطى المخدرات، لفترة معينة، حتى تصبح لديه مناعة ذاتية تسمح له بتحصين نفسه وقول لا لكل من يناوله جرعة مخدرات”.
وعن إمكانية علاج المدمن نفسه بنفسه من خلال قوة العزيمة والإرادة، دون اللجوء إلى مختص أو طبيب، يقول حركات إن “المخدرات لها تأثير كبير على دماغ الإنسان، خاصة حين يتحول الأمر إلى إدمان يسيطر على حياة الشخص. حينها يجب أن يخضع للعلاج، لأن الأمر يؤدي إلى أمراض نفسية مثل القلق الداخلي والهلوسة والاكتئاب التي لا يمكن أن يعالجها لوحده”.