رحيل «عود الورد» الذي صالحنا مع الجسد والرقص والفن غيب الموت، الثلاثاء الماضي، الفنان والمخرج لحسن زينون عن سن ناهز الثمانين. في مسار هذا الفنان تتقاطع الطرق والمسالك، وتتجمع عند نقطة التقاء مجالات فنية متعددة، تتراوح بين الرقص والكوريغرافيا والرسم والنحت والسينما والمسرح، عبر هذا الخاص تضعكم "الصباح" في أهم محطات حياة مبدع "الوشم". إعداد: عزيز المجدوب في حي "سوسيكا" التابع للحي المحمدي كانت صرخة البداية، والحركة الأولى لأطراف لحسن زينون سنة 1944، وسط مجال عمالي، لم يكن فيه شيء يوحي أنه من الممكن أن يفرز اسما مرهفا، سيصير له شأن في مجال الفنون الجميلة بشتى فروعها. كان والد زينون، المتحدر من منطقة إيمينتانوت، يشتغل عاملا بالسكك الحديدية، ومكنه عمله من الحصول على سكن وظيفي في تلك المنطقة السكنية الواقعة في قلب درب مولاي الشريف، الذي يشكل امتدادا للحي المحمدي الذي ستطبع روحه شخصية لحسن زينون، وتتحكم في اختياراته في الفن والحياة. المحاولات الأولى للتحريض على الرقص يقول المصطفى شباك في كتابه "لحسن زينون أو الجسد الحر" عن هذه المرحلة قائلا "... بين أروقة الحي السكني سيعرف لحسن زينون أول أسفاره، فهناك تحديدا، وما إن بلغ الرابعة من عمره، حتى بدأ يترك نفسه ينقاد وأقرانه في ما وراء أسوار الحي، مستسلما للحكايا، التي كانت كلها أشد غرابة وجمالا، من بعضها البعض، والتي كان يحكيها لهم شيوخ الحي وأحيانا المتسولون الذين كانوا حكائين مهرة". ويضيف شباك "كانت والدة زينون تحب استضافة صديقاتها وعائلتها وحتى جيرانها. كانت النساء يغنين على إيقاعات ترتجلها الطعاريج وآلات إيقاعية وأوان نحاسية، ويشرعن في الرقص، وكان زينون يستطيع، بفضل حداثة سنه، أن يتسلل إلى تلك اللحظات الحميمية، المشحونة بالانفعالات، والتي كانت تبلغ أحيانا درجة من "الحال" تنتهي إلى تشنجات خطيرة، وبإمكاننا أن نتخيل أن أولى محاولات تحريضه على الرقص قد وشمت لا وعيه عميقا بالألحان والإيقاعات". ظل الحلم الدفين قابعا في باطن الفتى زينون وهو يتدرج في أقسام الدراسة، إذ درس الكهرباء التقنية في إحدى المدارس المهنية، قبل أن يلتحق بثانوية الخوارزمي. كانت للصدفة دورها في نسج خيوط "تورط" زينون في مجال الفن، حين قادته قدماه ذات يوم من أيام 1958، وهو يتسكع في وسط المدينة إلى شارع باريس، قبل أن تتناهى إلى سمعه صوت موسيقى هادئة لعزف على البيانو قادمة من خلف جدران بناية المعهد البلدي للموسيقى، استوقفته وجعلته يعيش لحظة مميزة خدرت مشاعره، إلى درجة أنه لم يتمالك نفسه ليجتاز عتبة البناية، ويحاول اكتشاف ما بها. كانت لحظة الالتحاق بالمعهد البلدي للموسيقى نقطة تحول في مسار الفتى القادم من الحي المحمدي الشعبي، في الوقت الذي لم يكن أبناء الفئات الشعبية يفكرون في الالتحاق بهذه البناية رغم أنها كانت مفتوحة بالمجان في وجه الجميع، لكن أغلب الملتحقين بها في تلك الفترة، كانوا من نخبة أبناء السكان البيضاويين أو من تبقى من أبناء الجالية الفرنسية. ساهمت الدروس الأولى التي تلقاها زينون في الصولفيج والعزف على آلة البيانو، في شعوره بأنه تخطى حاجزا اجتماعيا ونفسيا، لكنه اصطدم بحواجز أخرى أسرية تتمثل في رفض والده هذا التوجه، كما وجد الفتى صعوبات أخرى لإدخال أول آلة بيانو إلى حي "سوسيكا"، كما أن منسوب الاعتراض بلغ أقصاه حين اكتشفت الأسرة أن ابنها يتلقى دروس الرقص، متحديا نظرة المجتمع الاحتقارية إلى هذا النوع من الفن. لم يأبه زينون بكل العراقيل والأحكام التي واجهته، فتدرج في دراسته للموسيقى والرقص، لدرجة أنه حصل سنة 1964 على الجائزة الأولى بالمعهد، التي تسلمها من يد والي المدينة، قبل أن يصطدم برفض ملتمسه، بطريقة فظة، في الحصول على منحة لإتمام تكوينه بالخارج. تألق أوربي لم يستسلم لحسن زينون لعوامل الإحباط التي حاصرته من كل جانب، بل أصر على البحث عن طريقة لإتمام دراسته بالخارج، وهو ما تأتى له عندما توجه إلى بلجيكا، حيث انخرط في تجربة "باليه القرن العشرين" ومدرسة "مودرا" اللتين أحدثهما "موريس بيجار" وحاول من خلالهما إعادة الاعتبار للأدوار الرجالية حينها. في بروكسيل، انتقل زينون إلى مرحلة تشرّب تعابير الرقص والانفتاح على اتجاهاته العابرة للحدود، إذ سينخرط لأول مرة ضمن فرقة محترفة سنة 1965 بتوجيه من موريس بيجار، بعد أن يتم انتقاؤه ضمن مباراة "باليه والوني" تحت إشراف "آنا فوس" التي ظل زينون يعتبرها بمثابة "أمه البلجيكية". تألق زينون في عروض الفرقة وسار على خطى كبار الراقصين المنفردين مثل جانين الشرات وميغيل نافارو وغوستاف موياجيلي ومينيا مارتنيز وغيرهم، كما أتيحت له فرصة مجاورة نجمة الرقص العالمية "كلير موت" التي أسرَّت له بحقيقة اهتمام الملك الحسن الثاني بالرقص الكلاسيكي، إذ سبق أن قدمت له عروضا خاصة بالقصر الملكي، اكتشفت من خلالها إلمام الملك بتفاصيل عن اتجاهات الرقص العالمي لا يدركها إلا المتخصصون. كانت هاته الإشارة عاملا مشجعا لزينون للتفكير في العودة إلى المغرب رفقة زوجته ميشيل باريت، الراقصة بالفرقة ذاتها، مطلع السبعينات والأمل يحدوه من أجل تأسيس فرقة رقص وطنية تقوم على أسس أكاديمية وتحقيق المصالحة مع فن الرقص. مقاومة سوء الفهم حين حل زينون رفقة زوجته بالمغرب، كان نجمه قد سطع، فتم تعيينهما أستاذين للرقص بالمعهد الوطني للموسيقى والرقص بالرباط، كما قدما عروضا فنية للرقص، ووجه أحدها بصافرات الاستهجان بمسرح محمد الخامس، الأمر الذي أصاب زينون بإحباط آخر جعله يدرك أن الوقت لم يحن بعد لفهم أبعاد تجربته الفنية، فقضى ثلاث سنوات في مقاومة سوء الفهم ليقرر مجددا العودة إلى بلجيكا. ظل حلم توطين الممارسة الجمالية للرقص بأبعاد أكاديمية بتربة المغرب، يداعب زينون وهو في المهجر، فقرر مواصلة تحقيقه بالعودة إلى الدار البيضاء، نهاية السبعينات، حيث أحدث رفقة زوجته "مدرسة زينون للباليه والمسرح" وهي مؤسسة خاصة تهدف إلى تلقين مبادئ الكوريغرافيا والخصائص الجمالية للرقص الكلاسيكي. حاول زينون من خلال هذه التجربة الاشتغال على إيجاد توليفة ما بين الطابع الأكاديمي وإدماج الإيقاعات والأغاني المغربية والموسيقى، مدركا في العمق أهمية الرقصات التقليدية وجذورها المتفرقة في مختلف أنحاء المغرب. أسس زينون فرقة استقر فيها على ستين فردا، شبابا وشابات، ليقدموا عرضا فنيا مكونا من سبع رقصات تعكس غنى الموروث العريق للمغرب، ليتم تقديم العرض التاريخي الذي عَرف نجاحا منقطع النظير بمسرح محمد الخامس في الرباط احتفاء بعيد العرش لسنة 1986. وأتيح لزينون تقديم العرض نفسه أمام الملك الراحل الحسن الثاني الذي استشاط غضبا عندما لاحظ ما أدخله زينون على الرقصات الشعبية المغربية من تعديلات، فوبخه بشدة لدرجة أن هذا الحادث عرض الفنان لما يشبه انهيارا عصبيا. وكتب زينون في مذكراته التي أصدرها تحت عنوان "الحلم المحظور" معلقا على هذا الحادث قائلا "كان الحسن الثاني مرتبطا ارتباطا عميقا بالبعد التاريخي للمغرب، البلد الوحيد بشمال إفريقيا الذي استطاع المحافظة، بفخر، على خصوصيته الثقافية؛ إذ كان الملك مرتبطا، على الخصوص بالمحافظة على الإرث التراثي كما هو دون تحوير أو تغيير أو تجديد، أما في منظوري، فإن الاختيار الجمالي، الذي سعيت إلى توطينه منذ عقود، يكمن في البحث عن تحديث إرث الأجداد الثقافي لمُواءَمَته مع عصرنا"، ويضيف في السياق ذاته "يبدو أن كل شيء يشير، في الوقت الراهن، إلى أن الاختيارين يتقاطعان في تعايش متناغم بين أصالة وحداثة". زينون السينمائي أشرف زينون على العديد من التظاهرات التي تحتفي بالرقص المعاصر. وامتدادا لشغفه بتصميم رقصات الأفلام، جذبته الشاشة الكبيرة إليها، ليدخل عالم الإخراج، فكان فيلمه الأول نتاجا للخبرة التي راكمها في عمله مع مخرجين عالميين. وانتظر إلى حدود 1991 ليقدم للجمهور فيلمه الأول "هذيان صارخ"، وتم عرضه في الدار البيضاء، ثم روتردام وبريدا وباريس. أخرج لحسن زينون بعد فيلمه الأول عدة أعمال سينمائية، من بينها أشرطة قصيرة وهي "الصمت"، و"البيانو"، و"عثرة"، وفيلمان روائيان طويلان هما "عود الورد"، و"موشومة". وحظيت تلك الأعمال بتقدير النقاد والجمهور، فقد حصل فيلمه "عود الورد" على جائزة التحكيم في المهرجان الدولي "بالم بيتش" بالولايات المتحدة الأمريكية في 2008، وقبلها بعام حاز الفيلم ذاته جائزة أفضل دور نسائي في الدورة التاسعة للمهرجان الوطني للفيلم في طنجة. أما عمله السينمائي "موشومة" فقد نال جائزة أحسن سيناريو في الدورة الثالثة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم في 2012. كما شارك في تصميم موسيقى ورقصات لعدد كبير من الأفلام السينمائية العالمية، منها "الإغواء الأخير للمسيح" للمخرج مارتن سكورسيزي، و"شاي في الصحراء" لبرناردو برتولوتشي.