صناعة الموت

الإرهاب المقيت يضرب من جديد، وهذه المرة في عمق كاتالونيا الإسباني ورمزه برشلونة على وجه الدقة، حيث تعمد "داعش " استعمال التقنية الدموية نفسها للفتك بأكبر عدد من الأرواح وإسقاط عشرات المعطوبين، وتحويل فضاءات الاستراحة والسياحة، في عز الصيف، إلى "سلخانة " تتطاير منها الدماء والأشلاء. إنه الرعب في أخس صوره كما تناقلته شاشات العالم وفيديوهات الناجين منذ الساعات الأولى من مساء أول أمس (الخميس)، وهو الرعب نفسه الذي حول ملايين الإسبانيين إلى أصنام مشدوهين، لساعات طويلة، أمام هول الفاجعة، يستعيدون مشهد سائق مجنون "يعجن " أطفالا ونساء وحوامل وشبابا ويسوي جلودهم بالإسفلت، وكان يمكن أن تتواصل مجزرته إلى ما لا نهاية، لولا "كشك " أوقف آلة الموت. حادث دموي آخر، وليس أخيرا، يؤكد أن الإرهاب لا يستكين ولا يقهر ولا ملة ولا دين ولا لون له، كما يقدم دليلا إضافيا على أن الحرب على الإرهاب مصيرية، ليس فقط بالنسبة إلى الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، لكن بالنسبة إلى جميع سكان العالم الذين يعيشون وسط أعداد غير معروفة من "الذئاب المنفردة " المستعدة للافتراس والنهش في أي لحظة. فلم يكن يخطر ببال أكثر المتشائمين أن يكون هذا الإقليم الهادئ المنشغل بمشروع حكمه الذاتي المستقل والبعيد، نسبيا، عن الأجندة الإسبانية الخارجية بمنطقة الشرق الأوسط، هدفا لواحد من أكبر العمليات الإرهابية التي كان يخطط لها، منذ أشهر، على نار هادئة، وكان متوقعا أن يضغط الإرهابيون على أزرار تفجيرات متزامنة في مواقع مختلفة تسقط العشرات من الضحايا الإسبانيين وزوارهم الأجانب. ولولا يقظة السلطات الأمنية، في اللحظات الأخيرة، وتحركها السريع لإحباط عدد من المحاولات وسط المدينة وضواحيها البعيدة، لكانت الفاجعة أكبر. لكن هل تسلم الجرة في كل مرة؟ إن أحد دروس الحادث الإرهابي المدان في برشلونة هو أن مجرد الإحساس بوجود خطر داهم قادم من الشرق غير كاف لمواجهة عشرات مشاريع الانتحاريين ومئات الخلايا النائمة المنتشرة في بقاع العالم، ما لم تواز ذلك يقظة دولية وتنسيق أمني واستخباراتي بأعلى مستويات النجاعة والحكامة والجودة. فما تواجهه دول المعمور اليوم، ليس فقط مجرد شباب يائسين ومجموعات متطرفة عادية بأهداف محدودة في المكان والزمان، بل مخطط إستراتيجي وراءه جيوش وضباط ورجال مخابرات ومراكز للرصد وجمع المعلومات ووضع الخطط والعمليات على نحو ذكي وموجه، لإحداث أقصى أنواع الدمار والفوضى في العالم، والتهييء للسيطرة عليه. وبالتالي، سيكون من العبث، في هذه اللحظة الفارقة، الانشغال بهويات وجنسيات الأشخاص المنفذين وبناء تأويلات وتحليلات، بل التركيز على هوية التنظيم في حد ذاته واستباق مخططاته وإحباطها في المهد، عبر نموذج للشراكة الأمنية والاستخباراتية الدولية التي أثبتت نجاعتها في عدد من الدول. قد يوجعنا الإرهاب مرة، ويرعبنا ويشتت أفكارنا مرات (وهذه واحدة من غاياته)، لكن لا ينبغي أن يزعزع إيماننا وقدرتنا على مواجهته ومنازلته في جميع ساحاته الدينية والتربوية والأمنية. إنه قدر العالم ومصيره..الآن على الأقل.

صناعة الموت

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ترامب يصيح غاضبا: لقد هزمنا لقجع

صانع ثورة نجم الشباب يستقيل

مقالات ذات صلة