محمد المساري يترجم كتاب المستعرب الإسباني "دي مورغا" صدرت حديثا الترجمة العربية لكتاب "مذكرات مغربية" للمستعرب الإسباني خوسي ماريا دي مورغا، الشهير ب"الحاج محمد البغدادي"، أنجزها الباحث والمترجم المغربي محمد المساري المتخصص في اللغة والآداب الإسبانية، ونشرها مركز جسور للدراسات التاريخية والاجتماعية بطنجة ضمن سلسلة ترجمات. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" إلى أجواء هذا الكتاب الذي لم يكن مجرد رواية استشراقية لرحلاتٍ تقليدية، بل يقدم تصويرا حيويا ومعمقا للواقع المغربي في القرن التاسع عشر. اضطر فيها المؤلف دي مورغا إلى تبني هوية مزيفة، لاختراق طبقات المجتمع المغربي، مُقدما رؤية أنثروبولوجية تتداخل فيها التأملات الفلسفية ذات الأبعاد الوجودية بالتاريخ والذهنيات. إعداد: عزيز المجدوب في منتصف القرن التاسع عشر قام خوسيه ماريا دي مورغا، المعروف باسمه المستعرب "محمد البغدادي"، أوكما يناديه الإسبان "الموري بيثكاينو" وهو كاتب وعسكري إسباني، بإنجاز دراسات عديدة عن المغرب جُمعت في كتابه ذكريات مغربية. ومن المعروف أن دي مورغا هو أشهر رحالة إسباني بالمغرب وتتكامل دراساته مع دومينغو باديا عن المغرب، بل وتتفوق عليها في جوانب عديدة. حل الحاج محمد البغدادي بالمغرب، مباشرة بعد حرب تطوان سنة 1830، وخلالها قام برحلة استكشافية عبر المغرب الإمبراطوري بهدف معرفة تنظيمه السياسي وعادات سكانه الاجتماعية من 1863 إلى 1866. ولدى عودته إلى إسبانيا، نشر في بلباو خلال 1868 كتابه ذكريات مغربية، وهو خلاصة وافية للبيانات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن التجارب الشخصية، وهو بحق يعد دليلا إثنوغرافيا ذا طابع رومانسي مميز عن مغرب القرن التاسع عشر. كان دي مورغا ضابطا في الجيش الإسباني ضمن فرسان بافيا ومونتيسا. ولاحقا شارك متطوعا في حرب القرم 1854-1856 مع الحلفاء. وتزامن ذلك مع جندي من الباسك كان يقاتل مع الروس. تم تعيين مورغا قائدا عسكريا لسلاح الفرسان. وهناك في أراضي الدولة العثمانية تعرف على العادات الشرقية، لدرجة أنه بمجرد عودته إلى إسبانيا بدأ تعلم اللغة العربية في باريس. ذهب بعد ذلك إلى مدريد وحصل على دبلوم في الجراحة البسيطة من جامعة سان كارلوس في مدريد، مما سمح له، لاحقا خلال مغامرته الإفريقية، بالعمل معالجا وطبيب أسنان. لم يتمكن من المشاركة في الحرب الأفريقية 1859-1860، بعد أن استعد لهذه المناسبة، مما سبب له إحباطا ثم بدأ التحضير لما ستكون عليه رحلة حياته: رحلة استكشافية عبر الإمبراطورية المغربية، قام بها بهدف معرفة وتعلم ونشر تنظيمها السياسي وعاداتها الاجتماعية. هوية مزيفة للاختراق في 27 فبراير 1863، وصل دي مورغا إلى طنجة. وهناك تخلى عن ملابسه الإسبانية، ولبس زي الحاج، وغطى جسده بجلابة قصيرة وعمامة واسعة، متكئا على عصا، وبرفقته حمار، وكأنه يتماهى مع شخصية الدون كيشوت دي لامنتشا. وبعد مكوثه في طنجة لأيام توجه إلى العرائش، ومن هناك بدأ انغماسه المثير في المغرب العميق والمخفي، متفاعلا مع عامة الناس. وفي تلك اللحظة قرر أيضا إخفاء هويته الحقيقية، والتظاهر بأنه منشق، والتعريف عن نفسه باسم محمد البغدادي، وادعى أنه مرتد مسيحي اعتنق الإسلام. خلال إقامته في المدن المغربية عايش المرتدين الإسبان ونقل بشكل مستفيض أوضاعهم ببلاد المغرب، وعمل خلالها مسواكا، وقابلة توليد للنساء اليهوديات، وطارد الأرواح الشريرة، وبائعا متجولا، وتاجرًا، وراويًا، وحاجًا، ومتسولا، وحتى قديسا. ومن خلال استغلال مهاراته العلاجية، تعلم عن الحياة اليومية للمغاربيين ومساجدهم، وقام بتدوين الملاحظات، دائما سرًا حتى لا يتم الاعتراف به كأوربي ومسيحي، لأنه وفقا للمؤرخ فيديريكو فيراستيغي: "كان سيعرض حياته للخطر". استغرقت رحلته عبر المغرب ثلاث سنوات، من 1863 إلى 1866. وخلال تلك السنوات من التجوال والمغامرات، اعترف بأنه أصبح مغربيًا حقيقيًا، مما أدى إلى تسميته بـ " الموري بيسكايو". في رحلته الأولى، قطع المسافة بين طنجة وتطوان ثم واصل طريقه إلى العرائش ثم إلى القصر الكبير ومكناس وفاس وسلا والرباط وفضالة. عند وفاة والدته في 1865، عاد إلى إسبانيا وبعد ثلاث سنوات، أي في 1868، نشر كتابه الممتع ذكريات مغربية للموري فيسكاينو، وضمن كتابه خلاصة وافية للانطباعات والبيانات الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والملاحظات الإثنوغرافية. وهو نص ذو طابع رومانسي مميز، نتيجة العصر الذي عاش فيه. واشتاقت نفسه مجددا لزيارة المغرب، فقرر فــــــي 1873، القيام برحلة استكشافية ثانية إلى المغرب. غادر في أبريل وعاد في غشت. ومكث هذه المرة لفترة قصيرة، حيث أجبرته الحمى على العودة إلى طنجة بعد أشهر قليلة من وصوله. إلا أنه زار أماكن مجهولة له، فمر بأزمور ومراكش وموكادور ومازاغان والدار البيضاء والرباط وطنجة، حتى وصل إلى جزر الكناري. أثناء وجوده في طنجة، شهد مورغا اندلاع الحرب الكارلية الثالثة 1873-1876. وقد دفعته مثله الليبرالية إلى العودة إلى إسبانيا للتجنيد متطوعا في الجيش الليبرالي، مدافعا عن مسقط رأسه، بلباو، وشارك في كسر حصار الكارليين. وفي 1876، حاول العودة للمرة الثالثة إلى المغرب من قادس هذه المرة. ودرس تقنية التصوير الفوتوغرافي واشترى آلة مستوردة من باريس لأجل توثيق رحلته المقبلة. وعندما استعد لبدء مغامرته الثالثة، أدت مشكلة خطيرة في الكبد مع مضاعفات غير متوقعة إلى وفاته في 30 نونبر1876. صورة المغرب الذي كان ألف خوسي ماريا دي مورغا كتابه "مذكرات مغربية"، بعد أن عاد إلى بلده الأصلي بعد أن تحرر من القناع الذي تخفى تحته ما يقارب الثلاث سنوات وهو يطوف بأزقة مدن المغرب ويعاشر الناس في البوادي، ويشاركهم نمط عيشهم. عبر فصول الكتاب تنبسط صورة المغرب الذي رآه دي مورغا، خلال منتصف القرن التاسع عشر، إذ كان البلد يئن تحت وطأة تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية جراء ثلاثة عقود من حكم جائر وحروب أهلية ما تنطفئ نيرانها حتى تشتعل من جديد. ورغم الوضع لدي مورغا الاعتباري داخل النخبة الاجتماعية لموطنه الصغير يجعله مرغما على تبني موقف المتجاهل لما يجري حوله شكلا والانغماس فيه مضمونا. فكانت الحصيلة أن عج مؤلفه بالمفارقات والإسقاطات. إنه قناع آخر يرتديه، فيجعله يتخذ من ذكرياته عن المغرب وسيلة تستبطن التعبير عن مواقف تدخل في مواجهة مع بعض الأفكار والمعتقدات السائدة في مجتمعه. في أحد مقاطع الكتاب يخاطب دي مورغا القارئ في شبه مونولوغ مرتديا عباءة المسيحي الكاثوليكي المتشبع بما تتضمنه الكتب المدرسية الكنسية من معتقدات راسخة وتوجهات دينية مقدسة، إلا أنه لا يتردد، مثلا، في إبداء إعجابه بالإسلام وخاصة بالنبي محمد (ص)، فيؤكد في أحد فصول الكتاب: "إن محمدا، وبكل المعايير، أعظم عبقري أنتجته الإنسانية إلى الآن". وهو وإن كان ينتقد دونية المرأة في المغرب إلا أنه يطري تكريم القرآن الكريم لها. تنبؤ استعماري ويبدو دي مورغا، من جانب آخر، مؤمنا بمركزية الحضارة الغربية، وهي إحدى ركائز الفكر الاستعماري، بل يُستشف من أقواله المتفرقة في الكتاب أنه يتنبأ بتوزيع إفريقيا بين الدول الاستعمارية ويتطلع إلى أن يكون المغرب من نصيب إسبانيا. غير أن مفهومه للاستعمار الاستيطاني يكتسي عنده بعدا مثاليا لا نجد له تطبيقا في أي مكان في العالم. كما نجد في بعض تعابيره غير قليل من احتقار لليهود وللمور. ورغم الصورة القاتمة التي يقدمها عن المغرب، وهي كانت كذلك إلى حد كبير، إلا أنه في الوقت ذاته تأسره الحياة في هذا البلد، ففي أحد فصول الكتاب يعبِّر قائلا: "لقد قضيت أجمل أيام حياتي بين العرب. ولو قدر لي، لأسباب سياسية أو لانتكاسات الحظ، أن أختار منفى خارج وطني، فلا شك ستجدونني بينهم. لأنني لن أجد صعوبة في التأقلم مع نمط عيشهم الذي أعرفه جيدا، لأنني اليوم، وأنا أحيا مستريحا وسط ما توفره الحضارة، تنتابني حرقة ويستولي علي الحنين إلى سكون بوادي أرض البربر وكرم حصير الدواوير". لم يكن دي مورغا كاتبا متمرسا في حياته. فلا يُعرف عنه أنه كتب شيئا قبل تأليف هذا الكتاب ولا بعده. لذا جاء أسلوبه مطبوعا بنوع من السجية، إلى درجة أنه يقارب في بعض جوانبه السرد الشفوي. وإذا كانت تلك ميزة إيجابية ومستحبة في بعض الأحيان، إلا أنها تطرح صعوبة جمة أمام المترجم. فالكثير من التعابير الجاهزة والألفاظ والمفاهيم والصور البلاغية التي اعتمدها الكاتب، وهي حتما كانت عادية ومفهومة لمعاصريه، لم تعد كذلك اليوم لأنها أصبحت متجاوزة بفعل الزمن؛ مما يفرض على المترجم بذل جهد مضاعف حتى يتمكن من تقريب المعنى الذي توخاه المؤلف، ولا يكون النجاح حليفا له في كل الأحوال. اهتمام أكاديمي بـ "دي مورغا" لقي دي مورغا بعد وفاته اهتماما واسعا، فقد صدر مؤلف جماعي عام 1969 اهتم بمسار حياة هذا الرحالة الاستثنائي، وهو بعنوان "المورو بيسكاينو: الأصل، الموطن. والعمل" في الأصل ثلاث محاضرات قدّمها في بيلباو كل من خابيير دي إيبارّا وتوماس غارسيا فيغيراس وغييرْمو غواسطابينو غالِنت. المحاضرة الأولى عن أسرة دي مورغا، والمحاضرة الثانية عن خدمته العسكرية، والمحاضرة الثالثة عن وضعية المغرب في فترة رحلاته (1863-1876) اعتمادا على خبر راسخ حاول المحاضرون الثلاثة توضيح أن دي مورغا ليس فكاهيا حربائيا، وإنما رحالة متميز، ذو ذهنية غريبة وطابع صارم وشجاع.