المخرج الموريتاني قال إن المغرب يعيش دينامية أعادته بقوة إلى إفريقيا بهدوء رجل الصحراء يتأمل البيد تحت خيمة في قلب الكثبان الرملية، اعتدل المخرج العالمي الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، في جلسته، بأحد أركان فندق "المامونية" الشهير، وهو يتحدث إلى "الصباح" في هذا الحوار، على هامش المهرجان الدولي للفيلم بمراكش عن تجربته السينمائية. كان صوته ينساب هامسا، وهو يبسط وجهة نظره حول قضايا عديدة تهم اختياراته في الحياة والسينما وارتباطه وجدانيا بالقارة الإفريقية، وانتقاله الجغرافي والذهني بين موريتانيا ومالي وموسكو وفرنسا، وأشياء أخرى تجدونها في الحوار التالي: أجرى الحوار: عزيز المجدوب ـ تصوير (عبد المجيد بزيوات) (موفدا "الصباح" إلى مراكش) كيف ساهم تدرجك، منذ الطفولة، بين ثلاث ثقافات بمرجعيات مختلفة (موريتانيا ومالي وموسكو) في تشكيل رؤيتك الفنية والسينمائية؟ صراحة هو سؤال مهم لكنه في الوقت نفسه مركب وصعب، وأهميته تكمن في أنه ينصب على الجانب المؤسس في شخصية الإنسان، وصياغة رؤيته الخاصة للوجود والعالم، كل ما يمكن أن أقول في هذا الصدد هو أن كل فرد فينا لديه أساس ينطلق بدءا من الأسرة والتربية، وهذه التربية مبنية على مجموعة من الأشياء، سواء الأشياء التي قُدمت لنا أو لم تقدم، والأشياء التي منحناها أو لم نمنحها، وأيضا من الأشياء التي تنقصنا ونحتاجها. لم أعش طفولة بئيسة أو مؤلمة، لكنها في المقابل لم تكن مريحة أو مرفهة، التقطت عيناي منذ مراحل مبكرة من عمري مشاهد وصورا لعالم غير عادل، وعندما قررت اختيار مساري المهني في مجال السينما، ظلت هاته المشاهد والصور التي كبرت وسطها حاضرة في ذهني، وملازمة لي في كل مراحل حياتي. أن تغادر بلدك الأم وأنت في مقتبل العمر، نحو موسكو، كان معناه رغبة عارمة في تحقيق الذات، لأن الهجرة كانت الوسيلة الوحيدة أمامي لمواصلة التعليم وتحقيق النجاح، وتطلب ذلك مواجهة ثقافة مختلفة وأجواء ومناخ مغايرين. كان الأمر بالنسبة إلي صدمة كبرى، لكن في الوقت نفسه صدمة محفزة استفدت فيها كثيرا على المستوى الشخصي، إذ لم أكتف حينها بدراسة السينما، بل كنت أتردد على المسارح ومشاهدة عروض "البالي" والرقص الكلاسيكي، وانفتحت على مجالات إبداعية مختلفة أغنت مخيلتي وغذّتها. لكن قبل ذلك يجب أن يكون هناك لديك استعداد لتلقي كل هذا، حتى يؤثر فيك ويساهم في تشكيل رؤيتك للفن والحياة، حتى بعد انتقالي إلى فرنسا، كنت أشعر أن هناك أشياء كثيرة تغيرت بداخلي خلال تنقلي الجغرافي والذهني بين ثقافات مختلفة، لكن هناك أشياء أخرى ظلت ثابتة لم تتغير جعلت مني الشخص نفسه، لقد كنت مسلحا بمبدأ، لازمني وما زال، تلقيته عن والدتي هو ثقافة البذل والمنح أن أمنح لكل أحد ما أستطيع، وهو الأمر الذي انعكس على رؤيتي السينمائية. منذ بداياتك الفنية وجّهك طموح نحو تقديم سينما عالمية أو كونية من منظور إفريقي، هل تعتقد أن إمكانية تحقيق هذا الطموح ما زالت قائمة؟ بطبيعة الحال ما زالت قائمة ومشروعة وممكنة، فما الذي تعنيه السينما أصلا، إذا لم تكن تحكي ما يجري ويدور حولنا؟ ما يمسنا ويستفز حاسة السؤال فينا. من البديهي أن تكون إفريقيا هي ما يمسني ويسائلني لأنني في النهاية إنسان وفنان إفريقي، لدي مسؤولية ثقيلة أشعر بها تجاه المجال والقارة التي أنتمي إليها. لا يمكن، من خلال السينما التي أقدمها، أن أحكي حكاية بسيطة تدور أحداثها في شقة، فهناك كثيرون ممن يجيدون هذا النوع من الأفلام ويبدع فيها، لكنني أرى المسألة من جانب آخر، أطمح لتقديم سينما تنحو منحى واقعيا، لا تحكمها لغة محددة، بل تنسجم مع المفهوم الكوني للغة السينمائية، التي تخاطب البشر جميعا، بل تكاد السينما أن تكون هي اللغة الكونية الوحيدة التي يفهمها الجميع، لأنها تمثل ثقافة الصورة، وكل العالم يتلقاها بطريقته، فالسينما التي تقدمها تشبهك، وهذا ما تأخذه بعين الاعتبار حين تقدمها، سواء حين تحرص على البحث عن عناصر الإتقان وتجويد العمل، أو من خلال الاكتفاء بتقديم أشياء متواضعة ومحتشمة، أحاول أن أقدم سينما تشبهني، بلغة كونية بها أصالة محلية. أسلوبك السينمائي مبني، في الغالب، على التقاط مظاهر قساوة الحياة في إفريقيا، ألا ترى أن هذا التوجه قد يساهم في الحد من انتشار أفلامك؟ أم هو اختيار مقصود؟ أفضل دائما أن تكون السينما شاهدة على شيء ما، فعندما تقدم كشهادة، فالفيلم السينمائي لا ينتهي أثره، والاشتغال على مظاهر قساوة الحياة الإفريقية هو اختيار شخصي، فالفقر ليس لعنة، بل هو حقيقة وواقع، وهو يتضمن في جوهره، أخلاق الكرامة، لذا أصنع سينما لأشخاص وأبطال ذوي كرامة. تعكس هاته السينما التي أشتغل عليها أيضا مظاهر أخرى في إفريقيا، والتحولات التي تعيشها، فهناك لحظات العبور الكبرى، والعالم في تطور مستمر، والأمس هو الأمس واليوم هو اليوم. كيف ترى المغرب وسط هذه الدينامية؟ عندما نأخذ حالة المغرب، فهو جزء من هذه التحولات، فهو بلد نموذجي تمكن من بناء أشياء مهمة، وحقق أشياء كثيرة، ليس فقط في مجال السينما، بل أيضا في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة. المغرب يعيش دينامية قوية من مظاهرها هذا الانفتاح والعودة القوية إلى إفريقيا، التي أدار لها البلد وجهه، وصارت هاته القارة موجودة بالنسبة إليه وخيارا إستراتيجيا، والمغرب في حاجة لهذا، في سياق المصالح المتبادلة، وكل هذا مبني على رؤية خاصة، ليست فقط في السينما، بل أيضا في الأدب والثقافة، وهو ما يتجلى من خلال التظاهرات والمؤتمرات والندوات واللقاءات الكبرى التي تحضر فيها إفريقيا والفن الإفريقي المعاصر. كل هاته الجهود تسير في اتجاه إثبات أن القارة الإفريقية موجودة وحاضرة، وتتغير من تلقاء ذاتها، ولا تنتظر الآخر ليساهم في تغييرها أو تتغير من أجله، فهذا العالم لا يجب أن يتمركز حول أوربا فقط، فليست وحدها الموجودة فيها، بل هناك قارات أخرى وشعوب أخرى وثقافات أخرى، يجب الانفتاح عليها واكتشافها عوض التمركز حول الذات. منذ شريط "تومبوكتو" الذي فتح لك باب التتويجات والعالمية، إلى شريط "شاي أسود"، كيف تستشعر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقك وأنت تحاول أن تمثل حضارة بكاملها في المهرجانات والمحافل الدولية؟ عندما أصنع فيلما سينمائيا، لا أضع نصب عيني الأثر الذي يمكن أن يخلفه في المهرجانات بشكل مسبق، بل لا أتوقع ما يمكن ان يصير إليه، يبدو الأمر أشبه برؤية طفل يكبر ويترعرع أمامك، ويشبّ على الطوق ليقرر مصيره في ما بعد لوحده. هل تعتقد أن بإمكان السينما أن تصحح صورة إفريقيا لدى المتلقي الغربي؟ نعم من الممكن، لكن مع ذلك أنا أعي بأن السينما ليست فقط وحدها الكفيلة بتصحيح هاته الصورة، بل هي تساهم في ذلك، إلى جانب أشياء أخرى يمكن أن يكون لها دور حاسم في ذلك، فالقارة الإفريقية لكي تتطور وتتغير تحتاج إلى نفسها أولا وقبل كل شيء، أي إلى أبنائها ومواردها وخيراتها، القارة تعيش حركية دائمة، وهو الأمر الذي يجب أن ينعكس في أعمالنا، لرفع الكليشيهات الملتصقة بنا. حضورك للمغرب ضمن المهرجان الدولي للفيلم بمراكش ضمن لقاء مفتوح لتقديم خلاصة تجربتك السينمائية، كيف يمكن أن تلخصها لنا؟ ولو أنه من الصعب أن تلخص فلسفتك حول السينما بهذه السهولة، لأن هذه المهمة تظل موكولة للآخرين هم من بإمكانهم استخلاصها، لكن ما يمكن أن أقول هو أنني أحاول أن أسير منذ البداية في طريق واضح ومستقيم وباحترام وبما يحفظ الكرامة، وأفعل ما أريد أن أفعله وما أنا مقتنع به، لا أريد أن أصنع فيلما من أجل إرضاء الآخرين. في سطور: < ولد سنة 1961 بمدينة كيفة بموريتانيا، وقضى طفولته في مالي. < في 1983، درس السينما في موسكو في المعهد الفدرالي السوفياتي الشهير غيراسيموف. هناك أخرج فيلميه القصيرين: "اللعبة" و"أكتوبر"، اللذين عرضا سنة 1993 في قسم "نظرة ما" بمهرجان "كان". < أخرج فيلم "الجمل والعصا المترنحة" (1995)، أتبعه بفيلم قصير من سلسلة أحلام إفريقيا "صبرية". في 1998، قام بإخراج فيلم "الحياة على الأرض"، وهو عودة إلى موطنه الأصلي يحاكي من خلاله كتابات إيمي سيزار. < في 2002، أخرج فيلم "في انتظار السعادة"، الذي نال عنه جائزة النقاد الدولية في مهرجان "كان"، وجائزة حصان "ينينغا" الذهبي بمهرجان إفريقيا للسينما والتلفزيون بواغادوغو "فيسباكو"، والجائزة الكبرى في بينالي السينما العربية بباريس. < في 2006 قام في البيت العائلي بمالي بتصوير فيلم "باماكو"، الذي عرض خارج المسابقة بمهرجان "كان". < في 2015 شارك بفيلم "تومبوكتو" في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، كما أثار حماسة كبرى عندما أصبح أول فيلم موريتاني يتنافس على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وفاز في فرنسا بسبع جوائز "سيزار"، من بينها جائزة أفضل مخرج وجائزة أفضل فيلم.