مسرح مفتوح لاستعباد ممنهج لعاملات زراعيات حملن لقب «المعذبات في الأرض» تبعد جماعة أيت عميرة نحو أربعين كيلومترا عن أكادير، وتتبع إداريا لإقليم شتوكة أيت باها. هذه الجماعة، التي كانت يوما ما رقعة صغيرة تسكنها بضعة آلاف، تحولت، خلال العقد الأخير، إلى ما يشبه المدينة الفلاحية التي تضج بالحركة والنشاط. أيت عميرة ليست مجرد نقطة جغرافية على خريطة المغرب، بل هي الخزان الفلاحي الذي يغذي بطون الملايين، ويساهم في تعزيز الأمن الغذائي الوطني، بفضل استثمارات زراعية ضخمة جعلتها قبلة لليد العاملة من مختلف ربوع المملكة.شهدت أيت عميرة، بين 2014 و2024، قفزة ديموغرافية هائلة، إذ انتقل تعداد سكانها من 47 ألف نسمة إلى أكثر من 113 ألفا. هذا التحول، الذي قد يبدو للوهلة الأولى مؤشرا على نمو اقتصادي واجتماعي، يخفي وراءه ظلالا ثقيلة من المعاناة والظواهر الاجتماعية المقلقة. "الصباح" استقت شهادات من قلب المأساة، إذ تروي العاملات قصصا تفيض بالألم والمعاناة، وترسم صورة قاتمة لواقع يحتاج إلى تدخل عاجل، والتحرر من قبضة هذه الظواهر التي تهدد بتحويل ما يفترض أن يكون قصة نجاح تنموي إلى مأساة اجتماعية وإنسانية. إنجاز: عبد الجليل شاهي (أكادير) تقف الضيعات الزراعية في أيت عميرة كالشريان الرئيسي، الذي يمد الاقتصاد المغربي بالحياة، وكمغناطيس يجذب الأسر الفقيرة، الباحثة عن فرصة للهروب من شبح الفقر. لكن خلف هذا المشهد المشرق، تسطع حقيقة مرة، قوامها ظروف عمل قاسية وممارسات استغلالية تطول العمال الزراعيين، وعلى وجه الخصوص النساء، ممن يتحملن العبء الأكبر في هذا القطاع. إن "الرقيق الأبيض" في أيت عميرة ليس مجرد عنوان، بل وصف دقيق لواقع أليم تعيشه العاملات الزراعيات، حيث تستغل أجسادهن وأوقاتهن مقابل أجور زهيدة، وسط بيئة خالية من أدنى شروط الكرامة الإنسانية. ومع غياب الرقابة والقوانين الفاعلة، تتحول الضيعات الزراعية إلى ساحات يستباح فيها كل شيء، من حقوق الإنسان إلى كرامته. الاسترقاق تبدأ حنان (39 عاما)، يومها الشاق في دوار العرب بأيت عميرة، عند الرابعة صباحا. في حديثها لـ"الصباح"، تسرد تفاصيل حياتها عاملة في الضيعات الفلاحية، قائلة: "انتقلت إلى أيت عميرة مع زوجي وبناتي الثلاث، بحثا عن تحسين ظروف المعيشة، لكن بعد ستة أشهر فقط، قرر زوجي العودة إلى قلعة السراغنة، بسبب قلة فرص العمل للرجال، إذ تفضل معظم الضيعات تشغيل النساء. ترك لي مسؤولية رعاية بناتي الثلاث، وأكبرهن لم تكن تتجاوز 13 عاما آنذاك، الآن، هي من تعتني بهما أثناء غيابي للعمل". تصف حنان ظروف عملها القاسية، "الحاجة والرغبة في تحسين وضعنا دفعتاني للبقاء والعمل رغم كل الصعوبات، أستيقظ يوميا مبكرا وأتوجه إلى "الموقف"، حيث نقف لساعات بانتظار اختيارنا من قبل أصحاب الضيعات، بعدها، ننقل في سيارات أو شاحنات مكتظة، ونتعرض خلال اليوم لمعاملة سيئة مقابل أجور زهيدة تتراوح بين 70 درهما و90، حسب نوع الضيعة والشركة، كل هذا مقابل عمل شاق يبدأ من السادسة صباحا حتى الرابعة عصرا". تشارك رشيدة (28 عاما)، من خنيفرة، تجربتها المؤلمة في الضيعات الفلاحية مع "الصباح"، وتقول إن وسطاء متخصصين يقومون باختيار عدد محدود من النساء من بين الحشود في الصباح الباكر بـ "الموقف"، لينقلوهن في شاحنات مكشوفة إلى الضيعات، وتضيف "الطريق إلى العمل محفوف بالمخاطر، حيث تحدث حوادث سير مأساوية تودي بحياة العديد وتخلف آخرين يعانون إعاقات دائمة"، تقول رشيدة بغصة، مؤكدة: "نتعرض للمعاملة كالمواشي، لا أنسى حادثا مروعا تسبب في وفاة العديد وإصابة آخرين بفقدان الذاكرة أو العجز الدائم، ترك هؤلاء خلفهم حياة بلا أمل." تتابع رشيدة: "كل المغرب هنا في أيت عميرة، من طنجة إلى الكويرة. بدل التسول، تقبل النساء أجورا زهيدة رغم قسوة الظروف وغياب الحماية القانونية، نتقاضى 70 درهما أو 80 في اليوم، وهذا ما أسميه "ثمن المعاناة""، وتضيف: "نعيش في ظل استغلال ممنهج أشبه بأشكال العبودية الحديثة، بلا حماية ولا ضمانات، مقابل العمل في بيئات قاسية وخطيرة." "نشتغل من السادسة صباحا حتى غروب الشمس مقابل أجر زهيد لا يكفي لتغطية مصاريف الحياة الأساسية"، تقول حليمة (33 سنة)، من آسفي، إحدى العاملات اللواتي التقت بهن "الصباح" في أيت عميرة، وتضيف بحسرة: "تعرضت أنا وزميلاتي لتحرشات متكررة من أحد المشرفين على ضيعة، لكن لم تجرؤ واحدة منا على التبليغ خوفا من فقدان العمل. أغلب العاملات هنا ينتمين إلى فئات اجتماعية هشة، ما يجعلهن يقبلن برواتب متدنية وظروف عمل غير إنسانية." تشير حليمة إلى أن أرباب الضيعات الزراعية يستغلون الحاجة الماسة لهؤلاء النساء، ما يفتح الباب أمام مظاهر متعددة للاستغلال، تشمل ساعات عمل طويلة دون حماية اجتماعية، فضلا عن الابتزاز المادي والمعنوي. وتضيف بحزن: "للأسف، أكثر من 70 في المائة من العاملات الزراعيات لا يتوفرن على عقود عمل قانونية، ولا يستفدن من الضمان الاجتماعي أو التأمين الصحي، ويعاملن عاملات موسميات بلا أي حقوق تضمن كرامتهن." معاناة متعددة الأوجه يكشف بحث ميداني أجرته جمعية التضامن النسائي عن معاناة شديدة تواجهها العاملات الزراعيات في المغرب، تبدأ من هضم حقوقهن الأساسية، وصولا إلى ظروف عمل قاسية وغير إنسانية. وأظهر البحث أن أغلب العاملات لا يعرفن شيئا عن حقهن في التأمين ضد حوادث الشغل. في المقابل، يتملص معظم أرباب الضيعات الفلاحية من واجب تأمين العاملات، رغم المخاطر اليومية التي يواجهنها. وحين تقع الحوادث، غالبا ما يكتفى بتعويضات زهيدة يقدمها رب الضيعة لتجنب المطالبة بالتأمين، دون أي التزام قانوني بتعبئة الوثائق اللازمة لتمكين العاملة من حقوقها. وكشف البحث أن معظم العاملات من أسر فقيرة في قرى ومدن صغيرة مثل الجديدة وبني ملال ومراكش وآسفي والصويرة، وغيرها، هاجرن نحو أيت عميرة، بحثا عن أي فرصة عمل تعينهن على إعالة أنفسهن أو أسرهن، ويسكن غالبا في غرف مستأجرة أو منازل متواضعة في الأحياء الهامشية، وتتراوح أعمارهن بين 15 عاما و60. وأبرز البحث أن أغلب العاملات أميات (53 في المائة) أو يحملن شهادات دراسية محدودة لا تتجاوز المستوى الإعدادي، ما يجعلهن غير مؤهلات لسوق عمل يتطلب مهارات معينة. هذه الظروف تجعل منهن فريسة سهلة للاستغلال الاقتصادي والجسدي في قطاع يهيمن عليه غياب الرقابة. كما وصفت دراسة أخرى أعدتها جمعية محلية بأيت ملول (جنوب إنزكان) ظروف اختيار العاملات في الضيعات الزراعية بأنها أشبه بممارسات سوق النخاسة، إذ تخضع النساء لمعايير مهينة ويواجهن التحرش الجنسي والاستغلال المستمر. ورغم بشاعة هذا الواقع، فإن الصورة الحقيقية أكثر قتامة. نساء يكدحن من أجل لقمة عيش، محرومات من أدنى حقوقهن، في ظل غياب حماية قانونية ومجتمعية. ورغم جهود بعض المنظمات النسائية، فإن شعارات المساواة والكرامة لم تصل بعد إلى هؤلاء النسوة، ما يجعل من الضروري وضع خطة عاجلة لإنقاذهن. هذه الخطة يجب أن تتضمن تشديد الرقابة على أرباب الضيعات الزراعية، وتطبيق القوانين المتعلقة بالتأمين والحماية الاجتماعية، وزيادة التوعية بحقوق العاملات. التلوث بالمبيدات تعاني العاملات الزراعيات آثارا سلبية مباشرة، جراء التعرض المستمر للمبيدات والمواد الكيماوية المستخدمة في الضيعات الفلاحية، خاصة داخل البيوت البلاستيكية. ليلى، وهي إحدى العاملات المصابات بالربو والحساسية، تصف الوضع قائلة: "أثناء العمل، يقوم أصحاب الضيعات برش المحاصيل بالمبيدات، دون أي تدابير لحمايتنا، لقد اختنقت في إحدى المرات بسبب الرائحة القوية، وكانت جميع النساء حولي يسعلن بشدة، كما شاهدت امرأة تفقد وعيها، فأخرجوها من البيت البلاستيكي وألقوا بها على الأرض". يشكل الاستخدام المفرط للمبيدات تهديدا مزدوجا، إذ لا يقتصر الضرر على العاملات اللواتي يعملن في بيئة ملوثة، تفتقر إلى شروط السلامة، بل يمتد أيضا إلى المستهلكين الذين قد يتعرضون لبقايا هذه المواد الكيماوية في المنتجات الزراعية. حبيبة، عاملة أخرى، تحدثت عن الغياب التام لمعدات الوقاية: "عندما نشتري قفازات لحماية أيدينا، يجبرنا "الكابران" (رئيس العمال) على خلعها، بحجة أنها تفسد جودة الطماطم والخضروات. ولكن عندما تأتي لجان التفتيش، يقومون بتوزيع القفازات والمآزر والأقنعة، وحتى الصابون، وبمجرد مغادرة اللجنة، تختفي كل وسائل الحماية، ويعود الوضع إلى ما كان عليه". ورغم الأضرار الصحية الواضحة التي تشمل أمراضا تنفسية وحساسية متزايدة بين العاملات، ما زال هذا الملف بعيدا عن الاهتمام اللازم، والرقابة الفعالة على الضيعات الفلاحية، ما يجعل العاملات عرضة لانتهاكات صارخة، في ظل تجاهل أصحاب الضيعات الفلاحية لمخاطر هذه الممارسات على صحة العاملات والمستهلكين على حد سواء. ويستدعي هذا الأمر تدخلا عاجلا لوضع حد لهذه التجاوزات، عبر تعزيز الرقابة على استخدام المبيدات، وإلزام أرباب المزارع بتوفير وسائل الحماية للعاملات، وإطلاق حملات توعية للمستهلكين حول مخاطر هذه المواد الكيماوية على الصحة العامة. استغلال جنسي تعيش العاملات الزراعيات في الضيعات الفلاحية واقعا قاسيا يتجاوز صعوبات العمل البدني الشاق إلى معاناة اجتماعية ونفسية، إذ يتعرضن، بشكل متكرر، للتحرش والاستغلال الجنسي من قبل "الكابرانات" والمشرفين وبعض المسؤولين، تقول فتيحة، وهي إحدى العاملات: "عندما يعجب "الكابران" بفتاة، يختارها ويطلب منها البقاء معه، واعدا إياها بدفع أجرها كاملا، دون أن تشتغل ذلك اليوم". تتكرر هذه الانتهاكات في صمت وخوف، كما في حالة قريبة فتيحة، التي تعرضت للاغتصاب أثناء عملها، وتضيف فتيحة بحزن: "اليوم، لديها طفلة تبلغ من العمر سنتين، وكانت ضحية لظروف قاسية منذ طفولتها"، وكشفت أن العديد من العاملات يمتنعن عن تقديم شكاوى ضد المعتدين خوفا من فقدان مصدر دخلهن الوحيد، وبسبب جهلهن بالإجراءات القانونية. أصبحت جماعة أيت عميرة، حيث تتركز الضيعات الفلاحية الكبرى، نقطة جذب لليد العاملة من مختلف المدن المغربية. وتخضع العاملات في هذه المنطقة لاختيارات قائمة على معايير محددة من قبل "الكابران" والمسؤولين، في تواطؤ مباشر مع بعض العاملين والمشغلين. يتم التركيز على اختيار عاملات بمواصفات معينة، ما يفتح الباب أمام انتهاكات جسدية ولفظية، ومع تزايد تدفق العاملات والعاملين، ظهرت أحياء هامشية جديدة، حيث يعيش الوافدون في ظروف غير إنسانية، في مساكن عشوائية بعيدة عن رقابة السلطات، ما أدى إلى تفشي الأمراض وتصاعد معدلات السرقة والإجرام.