بدأ مساره من الحركة الوطنية وسجل الأغاني المغربية الأولى بالقاهرة ينتمي الفنان محمد المزكلدي، إلى الرعيل الأول من المطربين المغاربة الذين أسسوا لبدايات الأغنية المغربية العصرية، ومن أوائل الفنانين الذين عرفوا بالأغنية المغربية بالشرق العربي خلال مرحلة الخمسينات، عندما قضى بأرض الكنانة أزيد من 6 سنوات، مكنته من الاحتكاك عن قرب بفطاحل الطرب العربي أمثال محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وزكريا أحمد. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الذي تحل ذكرى رحيله السادسة نهاية يناير الجاري. إعداد: عزيز المجدوب ولد الفنان محمد المزكلدي سنة 1932 بمدينة فاس، وقضى طفولة مليئة بالأحداث والمواقف، خلال تلك الفترة التي كان فيها المغرب يعيش تحت نير الاستعمار الفرنسي، قبل أن يجد نفسه منجرفا وراء الحماس الوطني، بحكم أن العديد من أفراد عائلته كانوا ينتمون إلى الحركة الوطنية بفاس. تابع المزكلدي دراسته الابتدائية أولا بمدرسة "النجاح" التي كان يديرها المرحوم الهاشمي الفيلالي، أحد رموز الحركة الوطنية بالعاصمة العلمية، ثم درس بمدرسة أخرى يديرها أحد أفراد عائلة "أكومي"، قبل أن يلتحق بجامع القرويين الذي قضى فيه أزيد من أربع سنوات، إلى أن دفعه ولعه الزائد بالموسيقى والغناء إلى ترك الدراسة. وكان ولع المزكلدي بالطرب قد بدأ منذ نعومة أظافره عندما تشبع بأغاني عمالقة الطرب الشرقي، الذين أتيح له سماعهم من خلال "غراموفون" الجيران، إلى أن وجد نفسه حافظا العديد منها، في الوقت الذي كان فيه الغناء المغربي مقتصرا على الطرب الأندلسي والملحون والأهازيج الشعبية. وأول فرصة أتيحت لمحمد المزكلدي للغناء، كانت لمناسبة زفاف شقيقته وكان حينها في الرابعة عشرة من عمره، وصادف أن أحيا حفل الزفاف الفنان الراحل محمد فويتح، وبطلب من الأخير غنى المزكلدي ليلتها أغنية "يا شراعا" لمحمد عبد الوهاب فأعجب فويتح بأداء المزكلدي وتنبأ له بمستقبل واعد في مجال الغناء. وهكذا التحق المزكلدي بجوق "الشعاع الفني" الذي كان من مؤسسيه فويتح ومن أعضائه الراحل عبد الرحيم السقاط والمرحوم أحمد الشجعي، وذاع صيت ذلك الجوق، لدرجة أن أفراده تلقوا الدعوة للالتحاق بجوق "راديو ماروك" التابع للإذاعة المركزية الرباط وكان تحت إشراف الحماية الفرنسية، كما كان يضم خيرة العازفين المغاربة، وتردد المزكلدي كثيرا في الالتحاق بهذا الجوق، قبل أن يستشير قريبا له معروفا بنشاطه الوطني، فسمح له الأخير بذلك. كان ذلك سنة 1952 التي تزامنت مع أحداث التضامن مع النقابي التونسي فرحات حشاد، وصادف أن كان المزكلدي يراسل قريبه من الرباط ويضمّن تلك الرسائل انطباعاته حول الحيف والظلم الذي يلقاه المغاربة من قبل الفرنسيين داخل الإذاعة وخارجها. وحدث ذات مرة أن داهم رجال الشرطة الفرنسية منزل القريب ولدى تفتيشه عثروا على رسائل المزكلدي، فأشعروا الإقامة العامة بالرباط بالأمر، وأشعرت بدورها الإذاعة، فتعرض المزكلدي لمضايقات كثيرة، انتهت بفصله سنة 1953، خلال الأحداث التي أعقبت نفي محمد الخامس، كما تعرض رفقة صديقه عبد الرحيم السقاط إلى الاعتقال. طائر حلق إلى الشرق بعد مدة علم أن صديقه السقاط التحق بمصر، فقرر اللحاق به بعد أن شعر أنه مضايق بسبب مواقفه الوطنية، فالتحق في البداية بباريس، حيث التقى محمد فويتح الذي سبقه بضع سنوات قبل ذلك، وقابل هناك أيضا مولاي أحمد العلوي وحمل إليه رسالة توصية من حزب الاستقلال لمساعدة المزكلدي على السفر إلى مصر، ويذكر أنه عندما زار العلوي بشقته بباريس وجد عنده كلا من عمر بن عبد الجليل وامبارك البكاي. ومن فرنسا التحق المزكلدي بالقاهرة سنة 1954، والتقى بصديقه عبد الرحيم السقاط، كما التحق بمعهد الموسيقى العربية بالعاصمة المصرية، وأتيحت لهما فرصة اللقاء بالعديد من الأسماء الفنية المشهورة آنذاك بمصر، أمثال زكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب، وأسمعاهم بعض محاولاتهما الغنائية الأولى التي لحنها السقاط وأداها المزكلدي، إلا أنها كانت متأثرة باللون الشرقي، الشيء الذي جعل المصريين يطالبونهم بتقديم أغان مغربية خالصة تميزهما عن الآخرين، وهي المسألة التي حاول المزكلدي نفسه إقناع السقاط بها خلال مقامهما بمصر. و1956، سيعود عبد الرحيم السقاط إلى المغرب بينما سيظل المزكلدي بمصر، وسيلتقي الشاعر الغنائي حسن المفتي الذي التحق بدوره بأرض الكنانة لدراسة السينما، وسيكتب قطعا زجلية مغربية سيلحنها المزكلدي ويتقدم بها إلى الإذاعة المصرية، وحظيت بموافقة لجنتها، بعد تعديلات بسيطة على الكلمات، قبل أن يسجل الكثير منها رفقة الفرقة الماسية واحدة من أعظم الفرق الموسيقية بالعالم العربي. سفير فوق العادة يرجع الفضل في دخول المزكلدي إلى إذاعة القاهرة إلى الإذاعي المصري فاروق شوشة، الذي توسط له لدى لجنة الإذاعة حيث وضع المزكلدي نصوصا لمجموعة من الأغاني التي كتبها أحمد الطيب العلج، وأجازتها لجنة الكلمات التي كان يرأسها الشاعر المصري الراحل أحمد رامي، قبل أن ينتقل إلى مرحلة اعتماد الألحان ثم تسجيل الأغاني. كانت أغاني المزكلدي، تقريبا، أولى الأغاني المغربية التي تدخل خزانة الإذاعة المصرية، رغم أنه سبق لفنان مغربي آخر أن وطأت قدماه أرض مصر قبل ذلك بسنوات، هو الفنان الراحل عبد الوهاب أكومي، لكنه لم يقدم أغاني مغربية بالشكل الذي عرفت به في ما بعد، بل كان متأثرا بالأسلوب الغربي في الأداء لدرجة أن بعض الفنانين المصريين كانوا يلقبونه بـ "الخواجة". وبعد أن سجل المزكلدي أولى أغنياته مع الفرقة الماسية، وكانت تحمل عنوان "مالك قل لي مالك"، توالت الأغاني التي سجلها المطرب المغربي بإذاعة "صوت العرب"، وكان يعتمد في تلقين أغانيه للفرقة الموسيقية على السماع، رغم أن أعضاء الفرقة التي كانت تضم عازفين مهرة من طينة محمود عفت عازف الناي وأحمد الحفناوي عازف الكمان وحسن أنور عازف الإيقاع، إلا أنهم كانوا يجدون صعوبة كبرى في التعامل مع الإيقاعات المغربية التي كانت جديدة عليهم إلا أنه مع ذلك ألفوا التعامل معها تدريجيا. بعدها سيقوم بزيارة إلى سوريا ولبنان وسيسجل أغاني مغربية لفائدة الإذاعات هناك، وكان يلقب حينها ب"سفير الأغنية المغربية إلى الشرق"، ويذكر المزكلدي أنه كان يرسل كل تسجيلاته إلى الإذاعة بالرباط عن طريق السفارة المغربية بالقاهرة، ضمن "الحقيبة الديبلوماسية"، كما يقول. وخلال بداية الستينات سيعود المزكلدي إلى المغرب، وتزامنت عودته مع انتعاش الأغنية المغربية خلال هذه الفترة، وبروز العديد من الأسماء الغنائية، التي ساهمت في تشييد صرح الأغنية العصرية، فساهم المزكلدي من موقعه في وضع لبنات هذا الصرح، بالعديد من الأغاني منها قصيدة "ارحميني" من ألحان الراحل عبد الرحيم السقاط، وغنى كذلك من ألحان الراشدي، كما أعاد غناء أغلب أغنيات الراحل أحمد البيضاوي. ومن بين أغنياته المشهورة هناك قطعة "علاش قطعوك يا الوردة" وهي من كلمات الفنان فتح الله لمغاري، وأيضا أغنية "نظرة وشعلت النار" إضافة إلى أغنيته ذائعة الصيت "لعروسة" التي كتبها ولحنها وغناها سنة 1966، ودشن بها سلسلة من الأغاني ذات الطابع الاجتماعي مثل "العريس" و"الزواج الكامل" و"شمعة عندي شاعلة فالبيت". ولحن المزكلدي للعديد من الأصوات الغنائية، كما كان وراء اكتشاف المطربة ليلى غفران خلال فترة الثمانينات، وقدم لها بضع أغنيات استهلت بها مسارها الفني قبل أن تنتقل إلى الشرق. صداقة مع الحسن الثاني جمعت الفنان محمد المزكلدي بالملك الراحل الحسن الثاني صداقة من نوع خاص، وفي العديد من المناسبات التي كان يستدعيه فيها، كان الملك يحيط المزكلدي بتقدير خاص، لدرجة أنه خلال فترة الإعداد لزفاف الأميرة لالة مريم سنة 1984، سـأل عن المزكلدي عندما لم يجده بين المدعوين وأصر على إحضاره لحفل الزفاف بأي طريقة خاصة أن أغنيته الشهيرة "العروسة" تلائم الحدث. انتقل المزكلدي على وجه السرعة إلى القصر لحضور حفل زفاف الأميرة الذي كان حفلا أسطوريا بكل المقاييس، وحضرته جل الأسماء الفنية المغربية التي كانت متألقة في تلك الفترة، وقدمت وصلات غنائية فيه. وفي اللحظة التي صعد فيها المزكلدي للغناء، وأداء أغنيته "العروسة" بناء على طلب خاص من الحسن الثاني، وبينما كان مندمجا في الغناء، لم ينتبه إلا ويد الملك تمسك بمرفقه، وأشار بيده الأخرى إلى المصور محمد مرادجي ليلتقط لهما صورة مشتركة، وكانت تلك من المرات النادرة التي يطلب فيها الملك التقاط صورة له مع فنان، واعتبرها المزكلدي لحظة تاريخية لا تنسى بالنسبة إليه، لأنه حظي بهذا التقدير الملكي. خلال تلك المناسبة نفسها نادى الحسن الثاني على المزكلدي، وسأله عن أحواله المادية وكيف أنه لم يطلب منه شيئا خلال كل الزيارات التي تردد فيها على القصر، فأجابه المزكلدي "لقد طلبت رضاك سيدي" فرد عليه الملك "أنا راضي عليك بالحق لازم تطلب شي حاجة تعيش بيها" فكان جواب المزكلدي "إن كان لا بد من طلب شيء، فأنا أطلب شيئا لصديقي محمد فويتح". شكل هذا الطلب بالنسبة إلى الحسن الثاني، سلوكا نبيلا من فنان آثر زميلا له على نفسه، وعلامة تقدير الصداقة بمفهومها الحقيقي، فكانت النتيجة أن أمر الملك بأن يستفيد كل من المزكلدي وفويتح من مأذونيتي نقل، وأوصى المزكلدي بأن لا يفرط فيها فهي هدية شخصية منه إليه تقديرا منه لفنه ولسلوكه وتأدبه في حضرته وأيضا لإيثاره صديقه، وكذلك من أجل ضمان مدخول قار له يحفظ كرامته ويصونه من عوادي الزمن. واصل المزكلدي مساره الفني بتقديم أغان أخرى خاصة بمضامين اجتماعية، كما كان أحد المؤسسين للنقابة الحرة للموسيقيين المغاربة، إلى جانب مجموعة من الأسماء الفنية منهم الراحل مصطفى بغداد والفنان محمود الإدريسي وآخرون، وفيها واصل المزكلدي اهتمامه بقضايا الفنانين المغاربة والإشراف على مجموعة من التظاهرات الفنية، قبل أن يقعده المرض ويرغمه على مواكبة ذلك من بعيد، إلى أن غيبه الموت يوم 29 يناير 2018.