التعاقد شكل الضربة القاصمة التي أجهزت على جودة التلقين بقلم: قاسم ديفي (*) لم تستطع الوصفات التي تفنن ولازال يتفنن فيها منظرو التربية والتعليم تجاوز أعطاب المنظومة التي رافقتها لسنوات خلت، مرورا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، والمخطط الاستعجالي بفضائحه، والمجلس الأعلى والرؤية الإستراتيجية والقانون الإطار وما إلى ذلك من الاجتهادات التي لم تزد الوضع إلا تأزما وانحدارا، وقد كان مسلسل التعاقد الضربة القاصمة التي أجهزت على كل شيء، ورسمت فصولا كارثية انعكست على جودة التلقين لاعتبارات كثيرة سنفصل الحديث فيها. إن الشعارات التي رفعتها الوزارة الوصية لم يرافقها عمل جاد لتحقيق الأهداف المسطرة، لأن الإصلاح يتطلب إرادة سياسية حقيقية ودراية بأوضاع التعليم ومستوى التلاميذ الحقيقي الذي نتوصل إليه بالجوائز العلمية، قبل وضع البرامج والمقررات، لأن الأغلبية من التلاميذ تتعامل مع مقرر فوق طاقتها وتجد صعوبة بالغة في قراءة نص باللغة الفرنسية وحتى العربية فما بالك بالرياضيات والفيزياء… لذلك تلجأ إلى التحايل والغش واستجداء نقط المراقبة المستمرة بكافة الوسائل. إن بيت الداء في الأمر كله متصل بالتوجيه والمقررات والمدرس، فهذه الجيوش من المتعاقدين تم الزج بهم داخل الفصول الدراسية دون تكوين وإعداد، ولا يمتلكون، في نسبة كبيرة منهم، الأدوات الأساسية، لافتقارهم للعدة المعرفية والديداكتيكية البيداغوجية، وهم أبرياء من دم التلاميذ. "الأستاذ السريع" لسد الخصاص لقد فكرت الوزارات الوصية السابقة، ليس في الإصلاح والتجويد ولكن في سد الخصاص، وبالتالي التجأت إلى سياسة الأستاذ السريع على غرار وجبات Fast Food، فكان الانهيار المريع والجريمة الكبرى. وأعتقد بأن الجدل الذي رافق ويرافق كل السنة السن المسموح به لاجتياز المباراة لم يكن إلا متاهة مضللة، لأن المعيار الحقيقي هو الكفاءة والقدرة. لقد سعت الحكومات إلى العمل بمفهوم المقاولة في كل القطاعات، فعلى غرار السكن الاقتصادي اخترعت سرا التعليم الاقتصادي، ضاربة بمبدأ التجويد عرض الحائط، ووفرت تكاليف التكوين الجاد للحصول على الأساتذة المناسبين القادرين على تحمل أعباء التدريس، لأنه في النهاية لا يمكن للجميع أن يكون أستاذا حتى ولو كان بنكا معرفيا. إن التدريس بالأقسام حرفة يتعذر على الجميع القيام بها، خصوصا أن المعاهد العليا والكليات لم تعد قادرة على إنجاب نخب مثقفة وكفاءات، كما كان الحال مع الجيل الماضي بفعل جملة من العناصر السلبية التي أفقدت الشهادات قيمتها ومصداقيتها. وما قيل عن المدرس يقال أيضا عن البرامج والمقررات والمناهج والتوجيه وطرق التقويم ، والكتاب المدرسي الذي اقتحم عالم التأليف فيه كل من هب ودب دون حسيب ولا رقيب. فهل يعرف المسؤولون مامعنى أن يسمح للتلاميذ بالولوج إلى الشعب العلمية في الثانوي التأهيلي بمعدلات هزيلة في الرياضيات والفيزياء لبلوغ نسبة التوجيه المحددة سلفا، إنه انتحار يعجل بالتسرب من المنظومة، ثم لماذا لم يلتفت أحد إلى الباكالوريا المهنية التي صمت عنها الجميع وعزف عنها التلاميذ نظرا للطابع العشوائي الذي رافق صياغة موادها ومقرراتها، علما أن من يلتحقون بها مستواهم ضعيف في المواد العلمية، فمثلا تلاميذ شعبة كهرباء السيارات وميكانيك السيارات يدرسون في الرياضيات والفيزياء مقررات شبيهة بمقرر لـ S.V.T فيكتفون بالتفرج على ورقة الامتحان، بل منهم من يدعي أننا فتحنا ظرفا خاصا بالعلوم الرياضية، وتجتاح الفوضى القاعة وتبدأ حرب الهواتف و"الكيت" والصراع مع الأساتذة. أعطاب السلسلة التعليمية كان بالإمكان تفادي كل ذلك لو أن السلسلة اشتغلت بالشكل المطلوب، خاصة المرحلة الابتدائية لأنها حاسمة في مسار التلميذ الدراسي وهي حجر الزاوية، فما الذي يحول دون تحقيق أهدافها وغاياتها؟ إنها أهداف بسيطة لا تتعدى القدرة على الكتابة والقراءة باللغة العربية والفرنسية، وإنجاز العمليات الحسابية البسيطة. وأعتقد بأن حشر مواد هامشية يشوش على العملية، فيضيع التلميذ في زحامها ويفقد التفاعل، والنتيجة هي أن 20 ٪ من التلاميذ هم القادرون على اكتساب أهداف ومهارات هذه المرحلة. و الأمر نفسه ينسحب على التعليم الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي، لأن السلسلة لا تشتغل بالشكل المطلوب، فأية إعاقة في سلك من الأسلاك يترتب عنها العجز والإعاقة في المسار كله. إزاء كل ذلك يصم المسؤولون آذانهم ويواصلون سياسة الجري إلى الأمام، جاهلين أو متجاهلين بأنهم أخطؤوا السبيل وراكموا الفشل. إن الاصلاح الحقيقي ينبغي أن يشخص مكامن الداء ويرسم مسارا واضحا تؤطره كفاءات تدرس بالأقسام، وقادرة على تحديد حاجيات التلاميذ وعللهم وأمراضهم الدراسية. عن أي إصلاح تتحدثون؟ أختم موضوعي بتساؤلات جوهرية، ألا ترون أن هناك مفارقة غريبة بين حرص الوزير على تحديد سن الولوج في 25 سنة وأقل من 30، في حين تتجه الحكومة إلى جر الأستاذ إلى القسم حتى 65 سنة وقد اشتعل رأسه شيبا، وحنى الدهر ظهره، ثم هل عاين الوزير حالة المختبرات العلمية وقاعات التدريس والطاولات المتهالكة التي تحولت إلى منبر للكلمات النابية، ثم أين اختفت السبورات البيضاء والطاولات التي وعد بها الوزير محمد حصاد قبل أن يرحل وترحل معه؟ ولعل الخطير في الأمر كله هو عدد الساعات المهدورة في القطاع، والتي تتوزع بين الشهادات الطبية والغيابات المبررة وغير المبررة والتأخر في الالتحاق بالمؤسسة، والضربات التي لا حصر لها وغيابات التلاميذ المتكررة التي لا يتم ردعها بالشكل المطلوب. إنها أرقام فلكية تفضح العبث والاستهتار وزيف الشعارات التي ترددها الوزارة. فكيف لنا أن نتحدث عن الإصلاح؟ ونحن إزاء هذا الركام من المشاكل ابتداء بالمدرس، وهدر الزمن المدرسي، وعقم أدوات التقويم والانتقال من سلك لآخر، والتوجيه الخاطئ، وغياب المراقبة التربوية الجادة، وتأطير الأساتذة، وتفعيل التكوين المستمر بطريقة ناجعة وإعادة النظر في البرامج والمقررات، وتقنين وضبط التأليف في الكتاب المدرسي وإعادة النظر في رواتب السادة الأساتذة المتعاقدين، لأنها هزيلة ولا تتماشى مع ما هو مطلوب منهم ولا تحقق لهم الحياة الكريمة. لست عدميا ولست سوداويا، ولكنها الحقيقة التي لا يستطيع أحد إخفاءها. (*) أستاذ ومدير سابق بالثانوي التأهيلي