استحواذ التكنولوجيا على حياة البشر أصبح مغامرة غير محمودة العواقب بقلم: تورية لغريب إن استحواذ التكنولوجيا الحديثة على حياة البشر قد بات واقعا فعليا بالنظر إلى غزوها بيوتنا ونظام عيشنا. يبدو الأمر أشبه بمغامرة غير محمودة العواقب، إذ يتعدى أنه مجرد انخراط في آليات متطورة باسم التقدم العلمي، إلى تغيير جذري على مستوى تمثلات أفراد مجتمعات ناضلت طويلا من أجل إرساء دعامات بيئة تضمن لها الاستقرار الاقتصادي، والحق في تحسين ظروف العيش فوق هاته الأرض، على جميع الأصعدة، بفضل تنظيمات ومؤسسات تخدم هذه الغاية. ولعل مراحل النضال التاريخية التي أسست لهذا السعي النبيل في بعده الإنساني منذ الإنسان البدائي، وصولا إلى الإنسان الثقافي، لم تتوقع هيمنة "الثورة الرقمية" على تفكيره ومعتقداته وعلاقته بالآخر، بل سارت به نحو إلغاء الجانب الوجداني فيه، وهو الجانب الذي يستعصي إعماله بالنسبة للآلة، إذ مهما تقدم الذكاء الاصطناعي، فإنه لن يستطيع محاكاة هذا الجانب المضيء في الإنسان، الذي تفوق بطبيعته على الآلة بالقصدية، الإرادة والإبداعية... إن صفة الإنسان الرقمي (والتي يقصد بها الإنسان الذي ولد خلال الطفرة العلمية الحديثة)، هذه الصفة المتداولة منذ تسعينات القرن الماضي، تحمل بين طياتها تشييئا وتبضيعا للإنسان، بل إنها توحي باختزال مهين له في رقمين رمزيين هما 0 و1 وهما الرقمان اللذان يقوم عليهما ذكاء الحاسوب. وإذا كان من البديهي أن الدول المتقدمة هي المنتجة لهاته التكنولوجيا الحديثة، فإنه من الحتمي الإقرار بأنها المتحكمة في الحمولة الثقافية، التي تصبّها في عقول المجتمعات النامية، والتي تخدم مصالحها بالدرجة الأولى، لتنحصر أقصى إنجازات بعض الدول وخصوصا العربية منها، في هذا المجال، على ترجمة التطبيقات، من أجل تسهيل استعمالها من طرف المواطن العادي الذي أصبح بدوره خاضعا للهيمنة الرقمية، بحيث تستنزف وقته ومدخوله المادي، بل تصل خطورتها إلى التأثير على طبيعة تفكيره، وحالته النفسية وهو ما ينعكس على سلوكه وقراراته المصيرية. وبعيدا عن تجاذب القوى العالمية، وتصارعها حول تطوير أساليب تفعيل الرقمنة في حياة البشر، وما يُدرُّه ذلك من مداخيل اقتصادية عليها، فإن انعكاس ذلك يظل قيد الدراسة والتحليل، من طرف الباحثين من مختلف التخصصات، في مجال العلوم الإنسانية، خاصة في مجال السوسيولوجيا وعلم النفس، هذا الأخير، الذي لا يلبث يدق ناقوس الخطر حول أثر الاستعمال المفرط لوسائل التواصل الحديثة، مؤكدا على أنها سبب في العديد من الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والإدمان والعزلة...إلخ، بحيث أضحى لكل فرد في مختلف المجتمعات، وعلى اختلاف الطبقات الاجتماعية، عالمُه الخاص، وهو ما أثر على العلاقات الاجتماعية داخل التنظيم الواحد، الأمر الذي تكرّس بشكل ملحوظ خلال فترة الحجر الصحي، التي أجبرت الجميع على ما سمي بالتباعد الاجتماعي، الذي يرادفه مفهوم الانفصال الاجتماعي في الواقع الفعلي، بحيث أُلغِي التفاعل وجها لوجه، وتمّ تعويضه بِشاشات الهواتف والحواسيب... إنّنا نتجرّد من إنسانيتنا داخل عوالم افتراضية، تنتصر لمفهوم الفردانية، التي تلغي الحدود بين الجماعات، توهمنا بحرية التعبير، وحرية التٌجرّد من خصوصياتنا، وقيمنا دون أن ندرك عواقب هذه الفوضى، التي تأخذنا عميقا إلى آبار الاستهلاك المدمّر، وللمفارقة العجيبة فإننا ورغم علمنا بكل ماسلف ذكره من سلبيات الرقمنة، إلا أننا نجد أنفسنا نساير الركب، نحن الذين عشنا جزءا غير يسير من أعمارنا، دون تكنولوجيا حديثة (هاته الفئة تمت تسميتها بالمهاجرين الرقميين) بحيث لا ننكر فضلها في تيسير التواصل، بتقنية الصوت والصورة، وسهولة الحصول على المعلومات...إلى غير ذلك من المكاسب التي تظل قليلة، بالقياس مع التكلفة الثقيلة، التي تدفعها الأجيال الجديدة دون أن تحظى بالتّشبّع الطبيعي والسّلس بالقيم النبيلة، خلال سيرورة التنشئة وببساطة الحياة، كما هو الشأن بالنسبة للأجيال السابقة، والتي أذكت في معظم جيلنا القدرة على التخييل والإبداع... ليظل التساؤل مطروحا : هل كنا فعلا بحاجة إلى هذا المد العلمي المفزع؟؟ وما علاج ما سيفرزه لنا من هويات " معطوبة " نفسيا واجتماعيا؟؟ (*) كاتبة وشاعرة