fbpx
ربورتاج

“مداغ”… ملاذ عشاق الحكمة

آلاف المريدين يحجون إلى الزاوية البودشيشية لإحياء الذكرى ولقاء الشيخ المربي
تقع زاوية الطريقة القادرية البودشيشية، فوق تل بقرية “مداغ”، التي تبعد حوالي 12 كيلومترا عن بركان، تحيط بها سهول منبسطة مخضرة، بها مزروعات وأشجار مثمرة، جعلت من الزاوية قلعة محصنة للتصوف والمتصوفين، وبيتا للشيخ ومريديه، وملاذا يقصده عشاق الحكمة، عبر عقود كثيرة مضت، ما مكن الطريقة من التوسع في جل بقاع المملكة، بل بلغ صيتها وتأثيرها الكثير من الدول الإفريقية والأوربية،
وجعلها تتربع على عرش التصوف في المغرب وخارجه.
إنجاز: عصام الناصيري (موفد الصباح إلى بركان) /تصوير: (أحمد جرفي)

لا تقتصر زيارة فقراء الطريقة القادرية البودشيشية على الليلة الكبرى، التي تصادف ذكرى المولد النبوي، إنما تبدأ الترتيبات أياما قبل هذا الموعد. وكما هي عادة الزاوية، فأبوابها مفتوحة طيلة السنة، تؤوي المريدين وطلبة العلم وحفظة القرآن، لهذا يقصد جزء كبير من الفقراء زاويتهم قبل الليلة الكبرى، يستغلونها لزيارة ضريح الشيخ حمزة البودشيشي، وضريح “سيدي المختار المجاهد”، وغيرها من الأنشطة الأخرى المختلفة.

إصلاح الذات
يلخص مولاي معاذ القادري بودشيش، مشرف ومنسق أعمال مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية بالمملكة المغربية، دور الزاوية بالقول إنها “مبنية على الكتاب والسنة، والقصد منها هو الله تعالى، ومبنية أيضا على الذكر، الذي يزكي النفس ويطهر القلب”.
وأضاف نجل الشيخ جمال الدين، أنه “يمكن القول إن القصد من الطريقة منذ عقود هو الله تعالى، وهذا المسار بدأ منذ عقود وما زال مستمرا مع شيخنا، فكما يقول أبي دائما “نحن على طريق أبينا (الشيخ حمزة)، ومستمرون على نهجه دائما، والذي يتلخص في الاجتهاد في الذكر، وإصلاح الذات”.
وتابع حفيد الشيخ حمزة، أن المريد عندما يدخل الطريقة يكون قصده هو التعبد، وتزكية نفسه وتطهير قلبه، وهذه النتائج لا تكون إلا عن طريق الذكر، موضحا أن الذاكر لديه أوراد فردية وأخرى جماعية، مبرزا أن الجزء الفردي يقوم به المريد صباح ومساء لوحده، في حين أن الأذكار الجماعية تكون في الزوايا بمختلف أنحاء المملكة.
ويشرح منسق أعمال المشيخة، في حديثه مع “الصباح”، أن “المريد يتجه إلى زاويته في المدينة التي يقيم فيها، للمشاركة في الأوراد الجماعية، التي تكون عبارة عن حلقات يردد فيها “اللطيف” وسلك القرآن وكتاب الشفاء وصحيح البخاري ودلائل الخيرات وغيرها من الأذكار، مشيرا إلى أن هذه الأذكار توجه إلى تزكية النفس وتطهيرها من جهة، وإلى الدعاء مع أمير المؤمنين، ومن أجل حفظ البلاد وطلب الغيث.

في حضرة الشيخ
يحظى شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، باحترام منقطع النظير، ويعتبره الجميع أبا روحيا ومربيا والنور الذي يبصرون به، ما يجعله محبوبا من الصغير والكبير والغني والفقير. ولأنه من سمات المتصوف التواضع، فإن شيخهم يبدي تواضعا كبيرا لمن حوله، ويبتسم للوجوه، الأمر الذي يعطيه وقارا يلازمه أينما حل وارتحل.
في اليوم الذي صادف ذكرى المولد النبوي هذه السنة، حل الشيخ كعادته بالزاوية، وأمامه ليلة طويلة، يقضيها مع مريديه، سواء في طقس الزيارة، أو في حلقة الذكر، التي يتوسطها وتردد فيها الأذكار، وهي بمثابة حفل ختامي لهذه المناسبة، التي ينتظرها الجميع في مداغ بشوق كبير.
في الأسبوع الذي يسبق ذكرى المولد النبوي، بدأ المريدون بالتوافد على الزاوية، خاصة مغاربة العالم وباقي المريدين الذين يتوفرون على بيوت وإقامات في الزاوية، وهناك من يأتي ليلة أو ليلتين قبل عيد المولد، وينامون في المساجد والإقامات والمنازل الكثيرة، التي شيدت في السنوات الماضية، إذ لا يتعلق الأمر بقبة الشيخ فقط، بل بقرية كبيرة تضم الكثير من المرافق والأروقة.
أول من يسلم على الشيخ في طقس الزيارة هن الفقيرات، ويستمر قرابة ثلاث ساعات، بالنظر إلى آلاف المريدات، اللائي يجددن الوصال بشيخهن، وهي مناسبة أيضا لجمع التبرعات واستقبال هدايا المريدين للزاوية، التي تعيد تدبير الموارد من أجل إطعام الزوار، والإشراف على الفروع وغيرها من الأنشطة الكثيرة.
عندما تنتهي زيارة الفقيرات، ينتقل الشيخ إلى المسجد الكبير، لاستقبال مريديه، في طقس يستمر ساعات طويلة بسبب عددهم، وهم الذين يحلون بالمكان في الليلة الكبرى، التي سيكونون فيها في حضرة شيخهم، وسيتحلقون من حوله، وسوف يرددون الأذكار في جو الحضرة.
يتوسط الشيخ الحضور، بعد أن تجهز الجميع للحضرة والأذكار، بلباسه الأبيض ولحيته البيضاء وطاقية صوفية وضعها فوق رأسه، ويطوف على المريدين، الذين يهتزون في صفوف منظمة، ويمر عليهم الشيخ ويضع يده على قلوبهم للحظات، قبل أن ينتقل إلى لجهة الأخرى، وتتم كل تلك الطقوس على إيقاع الحضرة والأذكار والسماع، إذ تكون الفرقة فوق منصة يتقدمها نجل الشيخ معاذ البودشيشي، في حين يقف في الصف الأول ابنه منير، وكبار الطريقة ومريدوها.

قبة الشيخ حمزة
كانت الزاوية البودشيشية تضم ضريحا واحدا فقط، دفن فيه الشيخ سيدي المختار، قبل أن يشيد ضريح أكبر لأشهر شيوخ الطريقة، الشيخ حمزة البودشيشي، الذي توفي قبل سنوات، ليرث ابنه الشيخ جمال الدين الوصية، ويصبح الشيخ المربي لمريدي الطريقة.
معاني الجمال والحكمة ليست حبيسة خطاب الطريقة فقط، إنما تسري في رحاب الزاوية كلها، ويمكن ملاحظتها بشكل جلي في ضريخ الشيخ حمزة، الذي صمم بطريقة بديعة، تعكس قيمة صاحبه، وعبقرية المهندسين والصناع التقليديين المغاربة، إذ زين بأرقى أنواع الزليج، ورصع بنقوش على الخشب، ناهيك عن ثرية كبيرة معلقة وسط القبة، وتحتها قبر الشيخ، إضافة إلى أبواب عالية بلون ذهبي، تشرح الصدر بمجرد الوقوف أمامها، وهو ما يضفي طابعا جماليا على زيارة الضريح والتبرك برجل وهب حياته للصوفية وتربية المريدين على قيم التسامح والمحبة.

مجامع الفقيرات
التصوف في الطريقة القادرية البودشيشية، ليس حكرا فقط على الرجال، بل إن آلاف المريدات يقصدن الزاوية كما هو الأمر بالنسبة إلى الرجال، إلى درجة أن مباني الزاوية مقسمة إلى جزأين، الأول للرجال، وآخر خاص بالفقيرات، اللائي ينظمن بدورهن حلقات الذكر والتعبد، وزيارات إلى الضريح، وغيرها من الأنشطة طيلة أيام الزيارة.
في الجزء الخاص بسكن الفقيرات، هناك بيوت للذكر، تجتمع فيها الفقيرات من أجل ترديد الأذكار، يمكن التقاط أصواتهن من بعيد. وتخرج الفقيرات أيضا لأنشطة مختلفة، سواء للعمل بشكل تطوعي في الحملات الطبية، أو اقتناء منتوجات معروضة في قرية تضامنية، أو حضور ندوات ملتقى التصوف الذي يدوم لأيام، وغيرها من الأنشطة الموازية.

دبلوماسية روحية
تلعب الزاوية القادرية البودشيشية أدوارا روحية ودينية، تتجاوز رقعة تأثيرها حدود المملكة، وتمتد إلى دول وقارات أخرى، ما يؤهلها للعب أدوار مهمة في الدبلوماسية الروحية، إذ تمكنت على مر عقود من كسب ولاء مريدين من جنسيات مختلفة، ولها امتداد في بلدان عديدة، ما يجعلها مؤسسة مهمة، تحرص على المصالح العليا للمملكة، وعلى الأمن الروحي لكل المنتمين إليها.
ودأب مئات وأحيانا الآلاف من المريدين، الذين يحملون جنسيات أجنبية، على زيارة المغرب في مناسبات دينية مختلفة، وأبرز هذه المناسبات الاحتفال بعيد المولد النبوي في الزاوية الأم بـ “مداغ”، إذ عاينت “الصباح” في الاحتفال الأخير، أن المئات من المريدين قدموا من الدول الإفريقية، سواء من مالي أو نيجيريا أو غيرهما، إضافة إلى جنسيات أوربية وأخرى خليجية عربية، كلهم حجوا لإحياء الذكرى في حضرة شيخهم المربي، ولقاء فقراء الطريقة من جديد.
ويقول زكريا يونسا مايكا، ممثل الطريقة القادرية البودشيشية بدولة مالي، في حديثه مع “الصباح”، “قدمنا هذه السنة وعددنا يفوق ثلاثين شخصا، وبيننا خمس نساء”، مضيفا ” أنتمي إلى الزاوية لما يفوق خمسين عاما، جئت إلى المغرب بصفتي طالبا بالرباط، وكان اللقاء بالشيح حمزة، ومنذ تلك الفترة ونحن نشعر (هو وباقي المريدين) أننا مثل جميع المغاربة، الجميع يحترمنا ويحبنا، وتعلمنا وفهمنا الإسلام الحقيقي، المبني على الحب واحترام الآخر وحب النبي وجميع المخلوقات”.
وتابع زكريا، “بعد تشبعنا بالطريقة وعودتنا إلى بلدنا، أخذنا إذنا من الشيخ حمزة، لتأسيس فرع للزاوية في مالي، وبمرور الوقت أصبحت لدينا الكثير من الزوايا التابعة للطريقة البودشيشية، والكثير من المريدين، وكل سنة نأتي إلى المغرب لإحياء ذكرى المولد النبوي، وهي مناسبة للقاء وتحية الشيخ سيدي جمال الدين وأبنائه، وكل شرفاء المغرب، وفي مقدمتهم جلالة الملك محمد السادس، الذي نتمنى له موفور الصحة”.
وأشار المتحدث ذاته، الذي كان يرتدي زيا ماليا تقليديا، إلى “أن للمغرب ومالي قصة تاريخ عريق، بلدان يجمعهما الأولياء والرجال، والكثير من الأمور الأخرى”.
ويتحدث زكريا بفخر عن اللقاء الذي جمعه بالملك محمد السادس، قائلا “عندما زار جلالته مالي في 2012، كنت من بين القادة الدينيين الستة، الذين استقبلهم، وأتذكر أنه احترمنا كثيرا، وقال لي إذا جئت إلى المغرب فأنت محسوب علي، وهذا ما يبين حجم طيبوبة الملك وسخائه، لأنه يقوم بالكثير من الأشياء من أجل الإسلام، ونحن ندعو بالعمر المديد للملك وكل الشرفاء وجميع المغاربة”.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى