fbpx
ربورتاج

هنا ستوكهولم … المدينة التي لا تنام

التدخين ممنوع في “التيراسات” والتعامل بـ”الكاش” شبه منعدم واللغة والعملة المحليتان هما الرائجتان

الساعة العاشرة ليلا. الشمس بالكاد تنسحب خجولة، لتترك مكانها لليل ما يكاد يرخي سدوله، حتى تنبعث أشعتها مرة أخرى، معلنة عن ولادة يوم جديد في ستوكهولم، المدينة التي لا تنام فعلا، (بحكم أن ساعات الليل فيها قصيرة جدا) والعاصمة الاقتصادية والثقافية والسياسية لمملكة السويد. هذا البلد الإسكندنافي، الذي اضطر إلى أن ينتمي إلى أوربا بحكم الجغرافيا، لكنه ظل مصرا على الحفاظ على خصوصيته، بحكم التاريخ. أليس سكانه هم “الفايكينغ”، الذين غزوا بريطانيا وفرنسا وبلدانا أخرى في القارة العجوز، مدة قرون؟

نورا الفواري (موفدة الصباح إلى ستوكهولم)

كل شيء في ستوكهولم مختلف. فهذه المدينة التي يتجاوز عدد سكانها مليونا ونصف المليون بقليل، حسب آخر الإحصاءات، تسير بدقة عالية ونظام دقيق، جدير بعواصم الدول الكبرى، التي يعرف مسؤولوها كيف يجدون الحلول الجديرة بتسهيل الحياة على مواطنيهم. بناياتها القديمة تقف شامخة بعماراتها المتفردة وألوانها الجميلة، إلى جانب الأخرى، الجديدة، في انسجام تام لا يخل بجمالية المدينة. شوارعها واسعة وحركة المرور فيها، سلسة، بدون ضجيج ولا “زعيق” ولا “كلاكسون”.

للراجلين حقوقهم التي يقدسها السائقون، ولهؤلاء قوانينهم التي يحترمها الأولون. شكلها أيضا، الذي يشبه جزيرة، يحيط بها أرخبيل من الجزر، يمنحها خصوصية جعلت الذين مروا من هناك، على مر السنوات، يلقبونها ب”بندقية الشمال”، بسبب الشبه الذي يجمعها بالمدينة الإيطالية الأسطورية، في الوقت الذي يفضل آخرون تشبيهها بإسطنبول.

البيئة أولا
توكهولم مدينة صديقة للبيئة. مسؤولوها وسكانها مسكونون بالهاجس البيئي. تخصص آلات لرمي العلب البلاستيكية المستهلكة، التي يتم تجميعها من أجل إعادة تدويرها لاستعمالها من جديد. وكلما رمى أحد بقارورة أو علبة، كافأته الآلة بقطعة نقدية.
السيارات الكهربائية الصديقة للبيئة منتشرة كثيرا في شوارع العاصمة السويدية، وأحياؤها مزودة كلها تقريبا بمضخات للشحن، تشتغل في كل ساعة وحين، من أجل تأمين “المازوط” الكهربائي للسائقين، الذين يسمح لهم بالوصول إلى أماكن عملهم أو منازلهم أو لقضاء مختلف أنشطتهم، دون تلويث أو إساءة للطبيعة، وبأقل الإمكانيات الممكنة.

من الصعب في ستوكهولم الانتشاء بسيجارة وكأس. فالتدخين ممنوع في جميع الأماكن العمومية، خارج محطات القطارات والمطارات وسيارات الأجرة وفي الأسواق ومحيط المدارس وفي الشواطئ، وحتى في “تيراسات” المقاهي والمطاعم، التي يجب الابتعاد عنها بمسافة أمتار، حتى يصبح ممكنا، وإلا كانت العقوبة غرامة ثقيلة.

فضاءات “الشيشة” تم إقفالها قبل ثلاث سنوات، وحتى السيجارة الإلكترونية وما يشابهها ممنوعة في الأماكن العمومية والخاصة، اللهم في الشارع العام، وفي الهواء الطلق، وفي نقاط محددة منه، يعرفها المدخنون من خلال صناديق مخصصة لهذا الغرض. فالسويد تحمل رهان مدينة بدون دخان في 2025. وهي ماضية قدما لتحقيق هذا الرهان الكبير. وليشرب “لوبي” صناعة السجائر من البحر، أو ليغير نشاطه، علما أن السويد سجلت في السنوات الأخيرة انخفاضا بمرتين في أعداد المصابين بسرطان الرئة مقارنة بباقي البلدان الأوربية.

حقوق وعنصرية
“الكاش” غير موجود في ستوكهولم، إلا في بعض “السوبير ماركيت”. الكل يدفع بالبطاقة النقدية البنكية، خاصة بعد الجائحة التي غيرت المعاملات والطقوس والعادات في العالم أسره. أما السائح الأجنبي، الذي لا معرفة له بالأمر، فقد يمضي يوما بأكمله بحثا فقط عن محل أكل أو متجر ملابس يقبل أوراقه المالية، التي تبدو له ساعتها دون جدوى، لأنها لا تمكنه من اقتناء ما يوده.

ستوكهولم متناقضة أيضا. إنها تحتضن مقرات أكبر المنظمات الدولية التي تعنى بالحريات وبحقوق الإنسان. وتسكنها الكثير من الجاليات العربية المقموعة والمطرودة من بلدانها مثل الأكراد واللاجئين الفلسطينيين، وفيها يحتفل المثليون بعيدهم العالمي، لكنها في الوقت نفسه، تقبل العنصريين ومناصري النازية و”الآريون” الذين يعتقدون في صفاء عرقهم ونقائه، وتحتضنهم بوشومهم ورموزهم وطقوسهم التي تعبر بوضوح عن كراهية الآخر وعدم قبوله.

طقس مجنون
وإذا كانت مظاهر الحياة اليومية كلها منتظمة في ستوكهولم وتسير مثل عقارب ساعة. فإن الطقس فيها مزاجي ومتقلب حد الجنون. ويمكنه أن ينتقل، في ظرف 5 دقائق فقط، من الدفء إلى البرد الشديد، ومن إشراقة شمس إلى غمامة مطر. لذلك، يرتدي السويديون “التي شيرت” و”الجاكيت” ويحملون المظلات معهم دائما ويفضلون أن يلبسوا جواربهم مع “الصندل” تحسبا لأي تحول مفاجئ في درجة الحرارة. لكنهم، مع ذلك، يحتفون بلحظات الإشراقة تلك، حتى ولو لم تدم طويلا. ويكفيهم شعاع شمس صغير، حتى يخلعوا ثيابهم وينزلوا للبحر يسبحون ويتمرغون في مياهه الباردة، ليطردوا عنهم الكآبة. ربما يحتاجون إلى قليل من دفء شمسنا حتى تكتمل لديهم الصورة. إنهم يستحقونها فعلا.

ضــخــامة ووســامــة
السويديون “كيوت”… جميلون وأنيقون. كلهم بشعر أصفر مصفف بعناية وعيون زرق. ورغم قاماتهم الكبيرة والضخمة، إلا أن براءة الأطفال تشع من ملامحهم وقسمات وجوههم. منهم اللطيفون الذين يعبرون لك عن سماحتهم بابتسامة بريئة، ومنهم “الأشرار” الذين تظهر كراهيتهم ل”كحل الراس” من خلال نظرة صغيرة خاطفة، لكنها محملة بالكثير من الازدراء. وحين يثملون، تصبح جميع القوانين بالنسبة إليهم لاغية، قد يعبرون الطريق قبل أن يشتعل الضوء الأخضر، وقد يدخنون أينما اتفق، ويرمون أعقاب سجائرهم في الشارع.

ومثلهم مثل جميع سكارى العالم، يحبون اقتسام تجاربهم والتعبير عن عواطفهم في “البارات” والملاهي الليلية. ومثل الفرنسيين أيضا، يحبون طلب السجائر بدل شرائها… فثمنها، الذي يتجاوز 15 دولار (حوالي 150 درهما) ليس في متناول الجميع.

الجميع في ستوكهولم يتحدث اللغة المحلية للبلد. ورغم أنها مدينة سياحية بامتياز، إلا أن الزائر لا يسمع سوى السويدية في محطات الحافلات و”الميترو” والباخرة، ولا يقرأ سواها على اللافتات واللوحات الإعلانية وقوائم الطعام، رغم أن السويديين يتقنون الإنجليزية جيدا ويتحدثون بها. “الأورو” أيضا، العملة الرائجة في بلدان الاتحاد الأوربي الذي انضمت إليه السويد منذ 1995، غير مقبولة في ستوكهولم، وعلى الزائر أن يدفع ب”الكرونا” السويدية أو يحوّله في مكاتب الصرف إلى العملة المحلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات

نود أن نشكركم على زيارتكم لموقعنا. لكننا نود أيضًا تقديم تجربة مميزة ومثيرة لكم. لكن يبدو أن مانع الإعلانات الذي تستخدمونه يعيقنا في تقديم أفضل ما لدينا.