المواسم الربيعية بإقليم الصويرة تعيد إنتاج التدين الشعبي تتواصل بإقليم الصويرة فعاليات المواسم الربيعية لطائفة ركراكة المعروفة محليا ب"الدور"، وتمتد هذه المواسم طيلة 44 يوما تتخللها طقوس وممارسات دينية تصوفية وتعبدية، إضافة إلى احتفالات شعبية عبر ربوع قبائل الشياظمة ومنطقة تانسيفت عموما. في هذا الربورتاج تتوقف معكم "الصباح" عند محطة سيدي واسمين، وتنقل إليكم بعضا من أجوائها. إنجاز: عزيز المجدوب ـ تصوير (أحمد جرفي) (موفدا "الصباح" إلى الشياظمة) الطريق إلى سيدي واسمين في مرقده الأبدي على قمة جبل الحديد غير سالكة. هذا الولي الركراكي الذي يعتبره مريدو وأتباع هذه الطائفة بمثابة "سلطان ركراكة"، طبقت شهرته الآفاق، وحفظت ذكر اسمه المراجع التاريخية وكل الدراسات التي تطرقت لتاريخ ركراكة وبدايات الإسلام في المغرب، تحدثت عن الدور المحوري لهذا الرجل، ومكانته الرمزية، إلا أن هذه الشهرة لم تشفع له ولا للقرية الصغيرة التي يتوسطها ضريحه لفك العزلة عنها وتخليصها من البؤس الذي تغرق فيه. كان علينا أن نقطع كيلومترات طويلة بعد انعطاف السيارة نحو الطريق الساحلية المتفرعة عن الطريق الوطنية في تقاطعها مع مركز بير كوات، قبل أن تنقضي مرحلة الطريق الإسفلتية، وتبدأ مرحلة الطريق غير المعبدة والمتربة التي تخترق المسالك الصعبة الملتفة حول سفح جبل الحديد في اتجاه قمته. كانت المفاجأة أن المسالك ظلت محافظة على بدائيتها، وتترجم حجم المعاناة التي يعيشها سكان المنطقة أو مختلف العابرين الذين يقدرون بالآلاف ويقطعون هذه المسافة سنويا، لمناسبة عبور موسم ركراكة من محطة ضريح وزاوية أحد أشهر أولياء الطائفة، وقائد رجالاتها السبعة. طريق متهالكة من القرون الوسطى كل هذا الإهمال والتجاهل من قبل السلطات المحلية والمنتخبين الجماعيين والإقليميين، لهذه المنطقة والطرق التي تخترقها، لم يثن الزائرين الذين اعتادوا منذ قرون زيارة ضريح سيدي واسمين، بمن فيهم الباحثون الأجانب والمستشرقون الذين حاولوا بدورهم اكتشاف المكان الذين يرقد فيه رفات هذا الرجل، منهم ليون الإفريقي وجورج لاباصاد، في ما بعد، وسجلوا ملاحظات بخصوص صعوبة الوصول إلى الضريح دون أن يتغير الوضع بل تردى عما كان عليه. فهذا الرحالة البرتغالي مارمول كاربخال الذي عبر من هذه المنطقة سنة 1542 وسجل ملاحظاته في كتابه الشهير "إفريقيا"، بخصوص جبل الحديد الذي يشكل مركز ركراكة، إذ تتوزع بين سفوحه وفي السهول المجاورة والممتدة إلى السواحل الأطلسية زواياهم وأضرحتهم وأولياؤهم، إذ يقول عن الجبل إنه "يبتدئ من المحيط جهة الشمال، ويمتد شطر الجنوب على طول تانسيفت، فاصلا هذا الإقليم عن إقليم دكالة، ثم عن إقليم مراكش، ومع أنه واقع في إقليم حاحا، فإنه ليس جزءا من جبال الأطلس". ويضيف كاربخال "يسكنه قوم من جنس قديم من أفارقة قبائل مصمودة يسمون ركراكة، وفي كل مكان منه غابات صغيرة من الأشجار المثمرة، وعيون غزيرة (...) إنهم قوم فقراء ناسكون متدينون، منهم عدد من الزهاد المنقطعين في أبشع الصخور، ولدى مقامي هناك تبين لي أنهم يسرّون جدا بالاستماع إلى الأحاديث الدينية، فحدثتهم عن رهباننا، وعندما تعرضت إلى حياة الطوباوي سان فرانسوا وزهده، اندهشوا جدا، وصرح الفقهاء بأنه ولي كبير، وبأنه لا يمكن اغتياب رجل بهذا القدر من التقى دون التعرض إلى الإثم". ويسجل الرحالة البرتغالي شهادته قائلا "حقا لم أجد أناسا مثلهم أقل تعصبا لدينهم، ولا أكثر مرونة طوال إقامتي بإفريقيا، ويفوق عددهم اثني عشر ألف مقاتل". وكذلك الشأن بالنسبة إلى الحسن الوزان الشهير بليون الإفريقي الذي مر من المنطقة نفسها وخلال المرحلة الزمنية نفسها أيضا، إذ كتب في كتابه "وصف إفريقيا" قائلا عن جبل الحديد "تسكنه قبيلة تدعى ركراكة، تكثر الغابات وعيون المياه في هذا الجبل كما يكثر فيه العسل وزيت الأركان... والسكان هنا فقراء، فضلاء أتقياء، يسكن عدد كبير من النساك في قمة الجبل ويقتاتون الفواكه والماء، هؤلاء الجبليون أمناء جانحون للسلم..". ويتابع "إذا فعل هؤلاء النساك أي شيء عدّوه من الكرامات. ويسبب لهم جيرانهم من الأعراب الكثير من المتاعب، فيؤدون لهم خراجا معلوما يتقون به شرهم، وقد غزا ملك فاس محمد (البرتغالي الوطاسي) هؤلاء الأعراب، وقد حضرت هذه الموقعة، وأنا يومئذ في المحلة السلطانية، وذلك عام 921 هجرية، وبلغ عدد المحاربين القادمين من هذا الجبل حوالي اثني عشر ألف مقاتل". إنها الطريق نفسها والأحجار نفسها التي وطأتها أقدام مارمول كاربخال وليون الإفريقي أو سنابك خيلهما ودوابهما في القرن السادس عشر، مازالت تعترض العابرين دون أن تحرك شعرة في أنفس المسؤولين المحليين والإقليميين لتعبيدها بالإسفلت، رحمة بهؤلاء وتكريما لمنطقة ذكرها المؤرخون وتغزلوا في مجالها الطبيعي وأشاروا إلى مكانتها الروحية لدرجة أن الكثير من السياح يشدهم الفضول إليها، قبل أن يكتشفوا أن الزمن توقف بها عند العصر الوسيط، وأن بنيتها الطرقية متهالكة جدا. ورغم كل هذا كان يبدو مشهد السيارات والدراجات النارية مثيرا، وهناك من فضل ركن سيارته في سفح الجبل أو في منتصف المسلك، والسير على الأقدام، ليتشكل صف طويل من السيارات المركونة على حافة الجبل، حيث يبدو السهل الممتد من عل وأفق البحر في مشهد يجعلك تتفهم رغبة النساك والزهاد في الاعتزال هنا والانقطاع للعبادة والتأمل. بركة ودعاء وبروال شيظمية بمجرد ما تقترب من موقع الموسم يبدو المنظر لأول وهلة وكأن الأمر يتعلق بسوق أسبوعي كالذي ينعقد عادة بالبوداي، فكل العناصر المؤثثة للسوق الشعبي تبدو متوفرة، خيام مصطفة لتجار يعرضون مختلف المنتوجات والسلع الاستهلاكية، و"أروقة" خاصة بباعة الخضر واللحوم، والملابس و"الفاكية" ولعب الأطفال. موسيقى شعبية تنبعث من هنا وهناك، وأصوات "الحلايقية" المنبعثة من الأبواق يتردد صداها بين الهضاب المحيطة بالسوق الذي يتوسطها. بمجرد ما تطأ قدماك أرض "الدور" يستقبلك بضعة أشخاص بسهولة يقرؤون من نظرات عينيك أنك غريب عن الموسم، يحملون في أيديهم "حزمة" من العصي الرقيقة أو الأغصان، يضربون بها الوافدين على الموسم برفق على الكتفين، أو يجيلونها بطريقة غريبة على الجسد، وهم يتمتمون بدعوات تروم دفع المرء إلى "حك" جيبه لينفحهم بما تيسر من النقود، مقابل الحصول على بركة "ركراكة" أو درءا لإلحاحهم الغريب. إلا أن هذا السوق الذي يتشكل منه الموسم يتميز عن بقية الأسواق بوجود الخيمة الركراكية التي تعتلي ربوة تجعلها مرئية من قبل الوافدين على الموسم الذين تشكل مقصدهم الأساس، بغرض الحصول على البركة أو إعادة إنتاج طقوس موروثة عن الأجداد ومن صميم البيئة المغربية، فيما اختار آخرون، ومعظمهم من النساء، الاحتماء بضريح سيدي واسمين طلبا للبركة والدعاء والتمسح بأستاره بحثا عن سكينة روحية قد تظهر للفرد في أشياء ومواقف تبدو غريبة للآخرين. وما يميز "الدور" أو الموسم الركراكي رغم طابعه الروحي والصوفي، هو تسامحه مع مختلف أشكال الفرجة الشعبية الموازية له، إذ خصصت لعشاقها خيمة خاصة في مكان قصي وبعيد عن مجرى وتيار السوق والخلق، تنبعث منها أصوات "لوتار"، والبراول الشيظمية التي يؤديها فنانون شعبيون بطلب من الزوار لاسترجاع نوستالجيا المكان والمجال بأنغامه ومردداته الشعبية. وفي هذا السياق يعلق الباحث الأنثربولوجي عبد القادر مانا في حديثه عن الطقوس الموازية لدور ركراكة إنها تعكس نوعا من التدين الشعبي، الذي لا يرى غضاضة في الانفتاح على مختلف مكونات الحياة، إنه تدين "قشابته" فضفاضة لا تضيق ذرعا بالتعدد والاختلاف. ويضيف مانا، في حديثه مع "الصباح"، إن دور ركراكة ارتبط في جانب من طقوسه بتقاليد ومعتقدات مرتبطة بالفلاحة والفيض والخصب التي تجد لها جذورا في رواسب الفكر القديم والحضارات السابقة، التي كانت تعتقد في قوى الطبيعة وتخلع عليها طابعا سحريا، وهو ما يتجلى في بعض الممارسات التي ما زالت مستمرة عند فلاحي المنطقة إلى يومنا هذا مثل طقس "تمرصيت" الذي يعنى بكيفية تلقيح أشجار التين، ومختلف المعتقدات السحرية الفلاحية. كما يشير صاحب كتاب "ركراكة" (صدر باللغة بالفرنسية) إلى أنه لا يمكن أن نتعامل مع هذا الفكر بأنه متخلف أو نطلق عليه حكم قيمة، بل هو جزء من اعتقادات المغاربة الذين لا يمكن أن تفرض عليهم نوعا معينا من التدين، فتدينهم هو خليط من المعتقدات التي يتداخل فيها ما هو إسلامي بما هو مسيحي أو يهودي أو وثني ، وهذه هي ثقافة المغاربة وهذا هو دينهم، حسب قوله. وحدة عقدية زاوية ركراكة، من بين الزوايا التي لم ترتكز بالضرورة على فكرة الانتساب إلى البيت النبوي، وإنما ارتكزت في المقابل على فكرة "الأسبقية" في تلقي الإسلام ببلاد المغرب الأقصى، وبالتالي فإن أقطاب الزاوية يعتبرون أنفسهم يتحدرون من سبعة رجال يرون أنهم كانوا صحابة وقابلوا النبي محمد وأسلموا على يديه، وهذه المسألة ظلت محل خلاف بين المؤرخين. تعددت الروايات التاريخية حول مسألة "انتداب" سبعة رجال من قبيلة ركراكة، وذهابهم لزيارة النبي محمد بالشرق وهؤلاء السبعة كما حددهم المؤرخون هم: 1ـ واسمين، 2ـ أبو بكر أشماس، 3ـ ابنه صالح، 4ـ عيسى (الملقب ببوخابية)، 5 ـ عبد الله أدناس، 6 ـ سعيد السابق، 7ـ يعلى بن واطل بن مصلين، وهم الذين يشكلون سادات ركراكة وأولياءها الذين يزارون خلال المواسم السنوية للطائفة المعروفة بـ "الدور". ومهما اختلفت تلك الروايات التاريخية فإنها توحدت حول الدور الفعال الذي لعبته "الطائفة الركراكية" في انتشار الإسلام في بلاد المغرب الأقصى، بل إن من المؤرخين، مثل أبي القاسم الزياني، من ذهب إلى أنهم أول من نشر الإسلام في أوساط القبائل الأمازيغية التي كانت تعمر حوض تانسيفت. بمعنى أن المنتسبين إلى الطائفة تشكل لديهم اقتناع راسخ بأسبقيتهم لتلقي الإسلام، كما يشهد على ذلك تشبثهم بفكرة "صحبة" ركراكة السبعة ومقابلتهم للنبي، ما أهلهم معنويا لخوض حروب ضروس ضد البورغواطيين لحملهم على الإسلام. يضاف إلى ذلك اهتمام ركراكة، بشكل مبكر، بالعمارة الدينية المتمثلة في الرباطات والمساجد، وضمنها رباط شاكر، كأحد أقدم الرباطات في المغرب إضافة إلى أزيد من 13 زاوية منتشرة بنواحي الصويرة وغيرها، لدرجة أن المؤرخ الراحل محمد زنيبر رأى أنه إذا كان المغرب يتمتع بوحدته العقدية فإنه مدين بها ولو جزئيا للموقف الصارم الذي وقفته القبائل الركراكية من أجل حماية الإسلام بالصورة التي استقبلته به.