fbpx
مقالات الرأي

علم النفس الاجتماعي…بين ألغام التدريس وأوهام التأسيس

الإطلالة التالية تستقرئ واقع حال مجال “علم النفس الاجتماعي” الذي كثرت بشأنه استعمالات غير مناسبة للمكانة التي يكتسبها في فضاء العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة وعلوم النفس خاصة، وهي استعمالات لا تخدم المجال ولا حتى المنتسبين إليه اختصاصا ومهنة، إلى حد التمييع الذي يُلحق به وكأنه مجال تُحسب عليه كل الأقاويل والتفسيرات والترهات لما يمت من ظواهر ومظاهر صلة بأحوال النفس لدى العباد وهم في المجتمع مجتمعون فاعلون متفاعلون. إذن، لتوضيح الأمور فيما يجري ويدور ولرفع الالتباسات المعرفية واللخبطة المنتشرة عبر الكلام والمزاعم والادعاءات، كان وضع هذه النقاط على الحروف، بل حتى تشكيلها. 

في استفهام حال المجال العلمي

علم النفس الاجتماعي مجال تتوفر معه سبل معرفية هائلة للتعاطي مع مجموع مظاهر الحياة الاجتماعية (وليس مجرد القضايا والمشكلات) والتي هي جماعية بامتياز، وبالأساس ما يتم رصده على مستوى السلوكات والوقائع في نطاق المعيش المشترك. وبما أنه علم منخرط في الإطار العام للعلوم سواء الحقة أوالانسانية والاجتماعية، فشرط المنهج الذي لا محيد عنه كان وسيظل الركيزة التي تتحقق معه مصداقية التفسير والتحليل والاستنتاج. وبالتالي، فالنظريات التي تغطي موضوعات المجال اكتسبت مشروعيتها على أساس المنهج، وذلك سواء في العمل المخبري أو الميداني. وجدير بالتذكير بأن العلماء والباحثين لايدعون شمل مجموع المجال بعلمهم وعملهم، بقدر ما ينحصر الاجتهاد لديهم في السيرورة أو الظاهرة التي تشكل موضوع انشغالهم، وهو ما أفلحوا فيه. وأما العمل التلقيني والتأطيري بهذا المجال العلمي، أي علم النفس الاجتماعي، كما الإبحار فيه يبقى من مهام المدرسين الذين يعود لهم الدور في نقل وتنشيط المعرفة العلمية، مثلما هو الشأن بالنسبة للكتب الجامعية الخاصة بالمجال (ذات الطبيعة التدريسية)، في حين أن عمل البحث وإنتاج العلم فموطنه المجلات والمؤتمرات المختصة، يعني وسائل التواصل والتبادل المباشر بين البُحاث. فبتفكيك الأدوار والمهام التي تنسحب على الباحث وتلك التي تدخل في مسؤولية المدرس يتبين الفرق فيما يمكن أن يقوم به المشتغل بعلم النفس الاجتماعي تدريسا وبحثا. وبالنتيجة، أن البيئة الجامعية لدينا التي تستضيف هذا المجال العلمي (إنها ضيافة ليس إلا) استباحت بعناية تدريسية فعل البحث حتى ظل رهينا لها ومتوقفا عليها. وإذن، نخلص إلى أن علم النفس الاجتماعي وجد بيننا كمجال تعليمي ضمن ترتيبات برامج جامعية. لكن، كيف هو حال هذا المجال العلمي في ضيافتنا؟ وحتى نضع الأمور في سياقها، نعود إلى مربط الفرس ويتعلق بالمعايير المحددة لعلم النفس الاجتماعي ككيان له مكانته ضمن مجالات العلوم النفسية وانتماءه لحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبالتالي عن مظاهر التعاطي معه بيننا. فلا مندوحة من التنصيص على أن علم النفس الاجتماعي هو علم مستقل قائم بذاته على مستوى المشروعية الابستمولوجية والأطر النظرية والمفاهيمية، ثم من حيث الباراديغم المعرفي والخصوصية المنهجية، وهو ما تشهد عليه المؤلفات والجامعات والمنظمات والمجلات ذات الصيت العالمي، فهذه حقيقة قديمة قياسا إلى قِدم هذا المجال العلمي، وليس لنا أن نجتهد في تغيير أو تكييف هذه الحقيقة. وبالتالي، فما يتم الترويج له تدريسا وخطابا في جامعاتنا بأن علم النفس الاجتماعي هو مجال علمي حديث ومركب بين علم النفس وعلم الاجتماع وأن وجوده رهين بمكانة بينية بالنسبة لهذين العلمين، هو في تعارض مع هذه الحقيقة. كما الزعم بأن البعدين النفسي والاجتماعي أوالبعدين الفردي والجماعي يفيدان هذا المعنى التركيبي أو ما جرى التشبيه به كمفترق طرق بين العلمين، هو ضرب من السفسطة، بحيث أن كلا البعدين يستهدفهما علم النفس الاجتماعي كوحدة في الموضوع. وكأن الوضع يتعلق بعلم هجين أو مخضرم أوبين بين، أو حتى بعلم صغير أمام علوم كبرى! والسؤال العالق يتمثل في الغاية من هذه المتاهات التي يُقحم فيها علم ذي مشروعية موثوقة.

مؤشرات التفليس ومظاهر التلبيس 

بالنسبة للصيغة المتداولة والمنتشرة، نسجل وجود وتكريس خلط فظيع بين علم النفس الاجتماعي (Psychologie sociale) والسيكوسوسيولوجيا (Psychosociologie) ، وجعلهما وجهان لعملة واحدة مما يشكل سقطة ابستمولوجية، مع أنهما واقعين قد تصل بينهما بعض التقاطعات بين التخصصات (interdisciplinarité) على مستوى بعض الممارسات التطبيقية ليس إلا. ولمصداقية المعنى، نشير إلى أن علم النفس الاجتماعي باعتباره مجال علمي بامتياز يُصنف ضمن منظومة العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة ومن بين أهم علوم النفس خاصة، بل ومن جسم العلوم المعرفية الحديثة، وهو المجال الذي يتم الاشتغال به تكوينا وبحثا في المؤسسات العلمية وبخاصة في الجامعات المحتضنة للعلم والعلماء، وهو كذلك المجال الذي تفيد به المنشورات العلمية الذائعة الصيت (مؤلفات، ودوريات…) ولاسيما تلك التي تكتسي خاصية بيداغوجية تدريسية وتأطيرية. بينما المجال الثاني السيكوسوسيولوجيا (نحتفظ بهذه الصيغة في التسمية وبعدم ترجمتها بعلم النفس الاجتماعي تجنبا للخلط ومكاشفة لمكمن الخلل) وهو مخالف للأول، بحيث يبقى بمثابة مجال معرفي يتم الاشتغال به من خلالا منهجية التدخل كممارسة عملية من حيث التعاطي مع إشكاليات وقضايا مجتمعية (الشغل والتنظيمات)، باستهداف تحقيق التغيير، وهو المجال الذي يجمع بين علم الاجتماع وعلم النفس أو على الأصح التحليل النفسي، كما أنه لايصنف ضمن منظومة العلوم لأنها لا تشكل غاية بالنسبة إليه ولا حتى ما يحيل على شرعية ابستمولوجية، وبالتالي ليس له وضع في التكوين والاشتغال العلمي بالجامعة. لنقل باختصار شديد أن هوية مجال علم النفس الاجتماعي تتحدد بالبحث العلمي الجامعي (المختبري) والإنتاج النظري، بينما مجال السيكوسوسيولوجيا يتحدد بممارسة التدخل وينتعش في السياق المجتمعي، مستعينا بالأطر النظرية للعلوم الأخرى. وأما الاختصاص فيهما فلكل مجال خصوصيته وقواعده، بحيث أن علم النفس الاجتماعي تأويه الجامعة كمؤسسة لتنشيط العلم بمنظومتها الإشهادية، وأما السيكوسوسيولوجيا فموقعها خارج الجامعة وذات قواعد مغايرة ولاسيما فيما تقتضيه الممارسات في إطارها من كفاءات استشارية وخبرة. فكما لعلم النفس الاجتماعي أهله من العلماء والباحثين للسيكوسوسيولوجيا أهلها من الأخصائيين والخبراء. الملاحظ إذن، أن هناك مجموعة من المغالطات والالتباسات التي أريد لها أن تلتصق بهذا المجال العلمي الذي يمثله علم النفس الاجتماعي، في حين أن المرجعيات سواء المؤسِّسة أوالمؤطِّرة واضحة في تحديد الهوية العلمية والمجالية، يكفي الإطلالة عليها (كتب، ومقالات، ومواثيق جمعيات مختصة..). وبالتالي، قد يكون هناك اختلاف في المرجعية أو الأفق النظري داخل المجال، لكن الأمر مخالف تماما بالنسبة لمجالين متمايزين بحيث لا يجمع بينهما سوى ما حصل إقحامه عبر تعريب (ترجمة) تم به إطلاق اسم علم النفس الاجتماعي عليهما معا (Psychologie sociale/ Psychosociologie) دون تمييز، مع أن الأصل مغاير وواضح باعتبارهما واقعين معرفيين متمايزين في الموضوع والمنهج والأطر النظرية ومرجعيات الاشتغال. ويكفي فحص المؤلفات ذات المصداقية والمراجع المعتمدة دوليا، لتبيان حقائق العلوم. ثم إن التمييز بين المجالين يشهد عليه ما أقر به الرواد الطليعيون كما المصادر التنظيرية والمراجع المُؤسِّسَة. إذن، كيف لعلم النفس الاجتماعي أن يكون بين علمين وهو مستقل ومتفرد بموضوعه وبمنهجه وبنظرياته؟ ولماذا الحرص على التوصيف الذي يفيد بأن علم النفس الاجتماعي مجال مفصلي، بل وقنطرة بين علمين (إن لم يكن القصد قنطرته بكل ما أتيح من مفاهيم ونظريات)؟. والحال هذه، أما كان على الساهرين على مثل هذا القول بأن يستحوا من أنفسهم كونهم يشتغلون بل ومتخصصون في مجال حيزه غير مُلزم بحدود، أي في منزلة بين علمين. لأن الزعم بالجمع بين حقلين علمين مفاده أنه وضع لا يُرجى منه خيرا، والكارثة أن التكوين على هذا الأساس جعل من أفواج عدة لم يتبينوا لهم موقعا كاختصاص، فلاهم في علم النفس ولا هم في علم الاجتماع. بل الأدهى، ما يظهر مع نوع من الاستحلال المتمثل في الخوض في التحليل النفسي وفي العلاج النفسي، وما الإقحام الذي حصل مع نزوح جائحة كوفيد وبداية الحجر الصحي من حيث التطاول على ممارسات الاستماع في إطار الخلايا التي أقيمت بالمناسبة، سوى نموذج من التسيب الذي يتم نسبه إلى علم النفس الاجتماعي وهو مجال بريء وبمنأى عن مقاربات التكفل والعلاج والتعاطي مع المعاناة والاضطرابات. فهذا فقط غيض من فيض، أيضا حتى المجال العام لعلم النفس لم يسلم بدوره من مثل هذه المزاعم العَلّامة والمُتغطرسة التي عمّرت بكيفية نزوية في الجامعة وقد استحدثت عقما وكسادا على المستوى المعرفي وطفيليات على مستوى الممارسات، مسجلة عجز ملحوظ عن الاشتغال العلمي النوعي.

 

في خضرمة القول وشرذمة أهله 

إن هذا المخيط الممنهج الذي وقع تخصيصه لعلم النفس الاجتماعي من حيث الجمع والتركيب والتقاطع يعاد إنتاجه باللغة العربية أكثر مما يمكن أن يكون عليه الحال باللغة الفرنسية (باعتبار لغتي التدريس في جامعاتنا)، وأما بالنسبة للغة الإنجليزية (لغة العلم) فالأمر محسوم والوضوح مرسوم. وفي سياق هذه المساعي التي تتوخى التميز وتسجيله، نطلع بين الفينة والأخرى على بعض الخرجات التي يتم تصريفها إعلاميا حول السبق في الاشتغال والاهتمام بعلم النفس الاجتماعي بل وفي تفعيل حضوره في السياق المجتمعي، ولو أنه كان رائجا داخل القاعات والمدرجات، بينما الوقع المهم المتمثل في النشاط العلمي والإنتاجية المتوقف على هذا التفعيل يدخل في بابي الغيب والمفقود. وهذه الخرجات ليست خدمة تستجيب لحاجات معرفية أو إعلامية بل تلك التي دأبت على توظيف الإعلام أو تبحث لها عن صدى عبر بعض وسائط الاتصال والمتعلقة بمزاعم وادعاءات لريادة هذا المجال العلمي وكأننا في حراك تنافسي يستهدف سبقا وأبوية في استحضاره وتلقينه وتنشيطه واستثماره داخل وخارج الجامعة. وهذه حالة أستاذية شاذة لايمكن إلا الاستغراب لها لكونها لم تشكل يوما رهانا لذوي الاختصاص الآخرين (ومنهم من تقاعد وظيفيا)، وذلك بحكم أن الأقدمية في تدريس العلم لا تجعل من صاحبها رائدا أو سباقا في حمل مشعل هذا العلم أو صاحب دور طليعي فيه، مادام هناك انعدام قيمة مضافة (تتمثل في تجربة علمية أو بحث أو دراسة) حتى تُحسب له ويسلم بها أهل العلم.  ومن المشاهد التي تبدو مع البعض الذين من المفترض أن لهم علاقة مهنية بالمجال ما يتمثل في نوع من التمادي بتقديم هذه المعرفة العلمية بكثير من التعميم والتبسيط المعرفي الذي تُقحم معه مفاهيم وتصورات من مجالات سيكولوجية متباينة (علوم النفس النمو والمعرفي والعيادي والمرضي والشغل…وحتى التحليل النفسي)، في تغييب تام للحدود الابستمولوجية والتنظيمية كما للخصائص المعرفية والباراديغمية التي تميز كل مجال على حدة. وأما البعض الأخر من أهل القول الإنشائي والمدرسي وهم إما منتحلون للصفة أو متطفلون مغتصبون للمجال بعيدون تكوينا وحرفة وجاهلون للنظر المعرفي الذي يؤطر الخطاب والتفسير، بحيث يطلعون في وسائل الإعلام بعرض مرجعية القول لديهم في تشليظ (من شلاظة/ سلاطة) علم النفس الاجتماعي وجعله يتوافق مع منطق الحس الجمعي بل وكأنه يفيد المساعدة الاجتماعية.  إنه الشغب بعينه الذي أريد له أن يكتسح هذا المجال العلمي لا من حيث مواصفاته المعرفية أو على مستوى وجوده الأكاديمي وحتى بالنسبة إلى أشكال الاشتغال به. لقد عشعشت مثل هذه الممارسات بفعل غياب مراقبة أو مواكبة مؤسساتية، حتى صارت المعارف العلمية تحت رحمة بعض الأساتذة (لاسيما من هم غير مختصين) يقدمونها بحسب فهم ذاتي متقاعس وتعاطي مزاجي غامس، بحيث اقترن لدى رواد ومتلقيي هذه المعارف تحصيل مُشخصن بطبائع لا بروافد هؤلاء. لهذا وذاك، من منطلق هذه الاعتبارات نسجل تظلما بلغ حدودا لا تطاق في استخدام هذا المجال العلمي، وكما تثبت ذلك مختلف المعايير والمواثيق الجامعية الدولية بناء على الجهود التي قعد وأصل بها المؤسسون الرواد لعلم النفس الاجتماعي، فالتاريخ يشهد على هذا الواقع المنحرف الذي أُلحق به وسُلط عليه بيننا، ليس فقط اليوم ولكن منذ وقت وقد أخذ فيه الاعوجاج مأخذا. وقد نقول أن هذه الإشكالية تجد روافدها ومرجعياتها في السياق العلمي الفرنسي وليس العالمي، لاسيما السياق الأنجلوساكسوني  أوالمستند إلى اللغة الإنجليزية، مع أن المتعارف عليه في سوق العلوم أن الإنجليزية هي لغتها تأسيسا وبحثا وإنتاجا، والحال أن علم النفس الاجتماعي ليس بعلم فرنسي، ومع ذلك فهذه الإطلالة تبقى من النافذة الفرنسية. أما لو استرشدنا بإحالة المصادر العلمية المؤسِّسة والانجليزية اللغة والروح والمتحررة من المنطق الوضعاني (Positivisme)، لانجلت الحقائق بشكل أوفر.    

الإسهام بين التلكؤ والتطلع 

بالنسبة لأحوالنا مع إنتاج العلم واستنهاض الهمم به والتأثير في مساره، فالكل يتفق على أنها لازالت بعيدة ومنسحبة، مع أن خطوات الفعل والمشاركة تبقى في المتناول، فقط السؤال الذي يضعنا أمام مرآة حقيقتنا هو في ماذا قدمنا أو نقدم كمساهمة تُذكر؟، طبعا حتى يتعرف عليها المجتمع العلمي (communauté scientifique)، هذا في الوقت الذي نسجل فيه غيابا هائلا إلى حد العدم، حتى أن هذا المجتمع يجهل وجود علم النفس الاجتماعي في المغرب. وقد تمت إضاعة وقت ثمين لمكاشفة وتحليل عدد من الظواهر التي حلت وتحل بين الفينة والأخرى بحياة المجتمع أفرادا وجماعات، إذ كان بالإمكان إنجاز وتحقيق ما يُيسر الفهم وعلاج مشكلات مؤثرة بل ومعيقة للتنمية والتقدم. وهو الوضع الذي زاد في التعتيم والتمويه حول نجاعة علم النفس الاجتماعي من لعب أدوار لفائدة المجتمع، وبقيت الهرولة والتبجح، بل إن المثير في الأمر حتى على المستوى العربي ليس هناك اعتبار يُذكر ويتناسب مع حجم وأوهام الادعاءات وحتى أصحابها، أنظر آخر تقرير المجلس العربي للعلوم الاجتماعية والذي خصص فصلا لعلم النفس الاجتماعي، بحيث من اللافت أن التقرير لا يشير إلى هذه “الدينامية” المزعومة التي تُرَوج للتأسيس والفعل الطليعي بالمغرب، ولا حتى إلى من يدعي هذا التأسيس وقد بقي نكرة علمية. 

أما من حيث التقييم العام، فبالالتفات إلى الرصيد أو التراكم الممكن اعتباره وقد تحقق في هذا المجال، انه لا يتجاوز بضعة مقالات ورسائل دكتوراه تقبع في رفوف خزانات الكليات، وبعض المؤلفات التي تبقى في أحسن الأحوال ذات صبغة مدرسية. لذلك، صونا لهذا المجال العلمي فإن الخيار الذي يفرض نفسه هو في الوقوف في وجه المنطق النزوي الناسج لأوهام حوله وحاله يشهد بكونه لم يتحقق معه تسجيل حضور في مستوى التطلعات. فيوم تكون هناك حركية في البحث (ليس ما يتم إنجازه لغاية إشهادية) من حيث الالتفاف بكفاءة من أجل تأصيل المجال والانخراط إقليميا وعالميا في تداول ما ينشط فيه وعبر الشراكات الجامعية في إنجاز أعمال يُشهد لها بقيمة مضافة، (أو ليس هذه من شروط ومتطلبات النهضة العلمية والاعتراف العلمي والترقي)، كذلك من حيث التعاطي مع قضايا وقطاعات مجتمعية تطلب تدخلا من باب هذا الاختصاص لتفكيكها، بل وحتى توفير لكفاءات تخدم مهام صارت واقعا مهنيا في عدد من المؤسسات. نعم علم النفس الاجتماعي يزخر بالعديد من الإمكانات التي اختُزلت إلى حد التبخيس والتمييع من خلال تقزيم أفقه في الدرس واللغو ليس إلا، مع الإبقاء على خرافات التعريف والتحديد للمجال وعلى أوهام التأسيس، وهي متاهات طال التسويق لها والتجويق بها وشخصنة الامتلاك المعرفي لها بنوع من النرجسية الفقهية. فعوض البناء والتشييد الذين يمكن أن يُستشفا من التأسيس، وذلك عبر وضع أسس صلبة (معرفية ومنهجية وعملية) وبنيات تحتية تضمن المردودية والاستمرارية (بنية بحث جامعية، مختبر..) واجتهادا في التعريب والتوطين، وضمان الخَلَف من الأجيال الصاعدة على أساس الكفاءة والإنتاجية، بدل الحرص على توفير المريدين والأتباع، لايسعنا إلا الإقرار بفشل قيام علم النفس الاجتماعي كمشروع علمي قد تفخر به الجامعة المغربية. كذلك بمناسبة الوضع المجتمعي الراهن مع سياق الجائحة، كان بإمكان الاشتغال بالمقاربة التي تنتسب إلى علم النفس الاجتماعي لتقديم خدمات جمة على مستوى البحث والدراسة ونسبة إلى عمليات التحسيس في سبيل تأطير السلوكات، لكن فُوِّتَت المواعيد إن على مستوى البحث أو التدخل والمواكبة، ومن النماذج الصارخة ما يتمثل في الغياب المطلق من الانخراط بمشاريع بحث في البرامج التي أطلقتها وزارة التعليم العالي بخصوص البحث العلمي حول وباء كوفيد. فأمام الرهانات الكبرى التي تستدعي التفاعل معها بورقة العلم، ومنها ما يهم في إطار هذه الإطلالة، أي علم النفس الاجتماعي، احتجب واستكن أهل الحل والعقد منصرفين عن العمل الحقيقي ومكتفين بالبهرجة والدردشات ذات الصبغة المدرسية عبر وسائط الاتصال والشبكات الاجتماعية. والحالة هذه، لن ينال اليأس مما تبقى لدى ذوي الشكيمة من إرادة وعزم، فالتغيير لامحالة قادم لوضع هذا المجال العلمي على سكته الصحيحة رقيا بالعمل الجامعي ولخدمة المجتمع بالكفاءة التي تميز الاختصاص.

وإذن، بكل أريحية لا بأس في ترك المجال العلمي لمن ينتعش في النزوع إلى امتلاك أصوله أوالأستذة والتشايخ، وليتنافس المتنافسون والمجتهدون في البحث والطرح العليم بعيدا عن كل تدليس وقوقعة تعيق الانخراط في زمن العولمة والرقمنة ووسائط الاتصال. 

عبدالكريم بلحاج


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى