تضحيات وتدخلات يومية لإنقاذ الأرواح وتصنيف أممي مشرف دوليا رغم قلة الموارد البشرية لا ينكر أحد المهام الجسيمة التي تقوم بها عناصر الوقاية المدنية لإنقاذ الأرواح في الحرائق والكوارث. فهذه المؤسسة مجهزة بأحدث تقنيات الإنقاذ، جعلتها تحظى بتصنيف مشرف من قبل الأمم المتحدة على مستوى التدخل والإنقاذ، لكن رغم هذه التضحيات، تتعرض عناصرها لانتقادات لاذعة، تقبلها مسؤولوها بصدر رحب، فهم على ثقة بنجاعة مهامهم، رغم الإكراهات التي يعانونها، وسبب بعضها المواطنون أنفسهم. ليس للصدفة مكان لدى عناصر الوقاية المدنية، فالكل مجند للتدخل في أي لحظة، إذ يقضون 24 ساعة متواصلة داخل ثكناتهم، ويغادرونها إلا بعد أن يحل من سينوب عنهم في المهمة. قبل الشروع في العمل يتم التأكد من جاهزية معدات الإنقاذ، خصوصا سيارات الإسعاف والشاحنات الإطفاء للتأكد أنها ممتلئة بالمياه، عكس ادعاءات أنها تأتي فارغة. إكراهات عديدة عناصر الوقاية المدنية بالبيضاء، كخلية نحل، خلال كل مدة قصيرة، تنطلق سيارة إسعاف أو شاحنة إطفاء من أجل التدخل، لهذا يؤكد النقيب زهير، أن جل العناصر داخل الثكنات تكون في حالة استنفار تام. تعاني الوقاية المدينة بجهة البيضاء- سطات، نقصا في عدد عناصرها، فهم يشرفون على سلامة 20 في المائة من سكان المغرب على مساحات شاسعة تصل إلى 19 ألف كيلومتر مربع، مقسمة على تسع عمالات وإقليمين. هذه المعاناة تزداد حدة وتدفع المسؤولين إلى رفع درجة اليقظة والحذر، بحكم أن هذه المنطقة، خصوصا البيضاء، تعد قلب المغرب الاقتصادي والمالي والتجاري. يكشف النقيب زهير أن أي تدخل للوقاية المدينة سواء تعلق الأمر بحريق أو انهيار بنايات أو انجراف للتربة أو فيضانات، لا يكون اعتباطيا، وإنما بعد دراسة علمية وقبلية لمكان التدخل، مبنية على موقعه الجغرافي، من قبيل أنه ساحل وبه شواطئ صالحة للسباحة، تلقى إقبالا كبيرا في الصيف، وبالتالي وجب التدخل لحماية المصطافين من الغرق، وأيضا بناء على طبيعة الوحدات الاقتصادية بالمنطقة المستهدفة والموارد البشرية، وطبيعة المواد الأولية التي تشتغل عليها المؤسسات الإنتاجية، والتي غالبا ما تكون كيماوية قابلة للاشتعال. وكشفق النقيب أنهم في الوقاية المدينة دائما في سباق وحرب مع عدو افتراضي، في إشارة إلى النار، يمس سلامة السكان والبيئة، لهذا فمسؤولو الوقاية المدنية يحرصون بشكل صارم على التكوين المستمر لأطرها، سيما على مستوى الإسعافات الأولية والتدخل خلال حوادث السير أو الكوارث الطبيعية، وإعادة تقييم الأخطار، والتأكد من أن الأجهزة والآليات التي يتوفرون عليها، مواكبة للتطور الذي يشهده هذا المجال. وإلى جانب وحدات التدخل، يراهن مسؤولو الوقاية المدنية على وحدات طبية، يشرف عليها أطباء تابعون لهذا الجهاز، غالبا ما يرافقون الوحدات المذكورة، خلال عمليات التدخل، فهؤلاء تلقوا تكوينات متميزة في طب الكوارث، وكفاءتهم تخول لهم إجراء عمليات جراحية مستعجلة بالمستشفيات الميدانية، التي تنصب بالمناطق المنكوبة. الريادة الدولية رغم الانتقادات الشديدة لجهاز الوقاية المدنية، والتي تكون في مناسبات عديدة مجانية، إلا أن ما يغفل عنه الجميع هو أن المغرب حاصل على التصنيف الدولي في فرق البحث والإنقاذ، وهي رتبة مشرفة جدا، واعتراف صريح من منظمة دولية بقيمة الأمم المتحدة بأن عناصر الوقاية المدنية المغربية لها من المؤهلات والتكوين للقيام بأي عملية إنقاذ في أي بقعة من العالم. المثير جدا في هذا التصنيف أن المغرب يعد أول دولة افريقية تحظى بهذا الشرف وتتجاوز دول الجوار، على رأسها الجزائر. هذه الكفاءة المتميزة، كانت بارزة في عدد من الكوارث، التي شهدها المغرب أخيرا، بل سقط عدد من عناصرها شهداء للواجب، آخرهم عريف بسلا في انهيار بناية كانت تحترق. زمن أبرز التدخلات البطولية لعناصر الوقاية المدنية، كارثة انهيار عمارة "بوركون" بالبيضاء، إذ رغم انتقادات المواطنين واتهامهم بالتقصير والبطء في عمليات الإنقاذ، ما تسبب في ارتفاع عدد الضحايا، الذين ظلوا عالقين تحت الأنقاض، حسب قول المحتجين، إلا أن النقيب زهير عقب على هذه الانتقادات، بالتأكيد على أن عمليات الإنقاذ في مثل هذه الحالات تعد الأصعب والأعقد، وتتطلب حرفية عالية ودقة في التنفيذ، حماية لأرواح الضحايا والعناصر المتدخلة في عملية الإنقاذ. وعلق النقيب زهير مازحا، أنه كان بإمكانهم الاستعانة بجرافات، لرفع الردم بحجة تعجيل إنقاذ العالقين من السكان، لكن هذه الطريقة عشوائية، وستساهم بنسبة كبيرة ليس فقط في سقوط الضحايا، بل تشويه جثثهم. وأكد النقيب أن أكبر خطر يصادف عناصر الوقاية المدنية في مثل هذه الكوارث، هي أن الأنقاض غير ثابتة، وقد تنهار على من فيها في أي لحظة، لهذا يتم نهج أسلوب احترافي عبر الولوج بالتدرج من طبق إلى آخر، من خلال حفر ثقب بـ"ضالة"، وبعدها تأتي العملية الأصعب، وهي تدعيم "ضالة" الطابق، بأعمدة حديدية أو خشبية متينة ومعدات خاصة، لتفادي انهياره، قبل الانتقال إلى الطابق الأسفل، مبرزا أن هذه العملية تتطلب دقة وحذرا كبيرين، لهذا تبدو العملية بطيئة جدا للمواطنين. أرقام رغم المهام الجسام التي أوكلت للوقاية المدنية، إلا أنها تعاني نقص العناصر البشرية، فحتى عدد المناصب المالية المخصصة لهذا القطاع، من قبل الدولة كل سنة، تبقى جد محدودة وغير كافية لتعويض الخصاص. لهذا راهن مسؤولو الوقاية المدنية على تأهيل عناصرهم على مستوى النوع، لتفادي الخصاص في العناصر البشرية. نجد أرقاما صادمة في عدد عناصر الوقاية المدنية على مستوى جهة البيضاء- سطات، فرغم جسامة المهام التي يشرفون عليها، لا يتجاوز عددهم بالجهة 1225 عنصرا. ولتوضيح حدة الخصاص في العناصر البشرية، علق مسؤول في الوقاية المدنية أن مباراة الديربي بين الرجاء والوداد بملعب محمد الخامس، تحتاج لوحدها تغطية 3000 عنصر لتفادي أي كارثة، وضمان السيطرة على الوضع. إلى جانب 1225 عنصرا، تضم الجهة، 67 شاحنة للإطفاء، بها سلالم أوتوماتيكية يبلغ طولها 30 مترا، و93 سيارة إسعاف. ولتعويض هذا الخصاص الكبير دخل قادة الوقاية المدنية في تجارب متميزة، عبر توقيع شراكات مع جمعيات مدنية، بهدف تكوين أطرها، من أجل التدخل الأولي لمواجهة الحرائق وتقديم الإسعافات الأولية، إذ يراهن المسؤولون على تجربة "مسعفي القرب"، فهم أول المتدخلين لإنقاذ الضحايا والسيطرة على الحرائق، إلى حين قدوم عناصر الوقاية المدنية للحلول محلهم. النار الخادعة أولى الطرق للوقاية من النار، هي سرعة إشعار الوقاية المدنية، فكلما كان الإشعار سريعا كان التدخل ناجعا، لهذا عاتب مسؤول في الوقاية المدنية مواطنين بسيدي علال البحراوي بأنهم أخطؤوا في الاتصال بالوقاية بعد اندلاع الحريق، الذي تسبب في مصرع الطفلة، وشدد أنهم على أنهم اتصلوا برقم مصلحة أخرى، وهو ما أخر حضور رجال المطافئ. بل الأكثر من ذلك، تتقاطر العشرات من الاتصالات يوميا على مصلحة استقبال المكالمات، أغلبها إشعارات وهمية بحريق، أو اتصالات استفزازية، من قبل مجهولين تصل في مناسبات إلى حد السخرية من مستقبل المكالمة، ما يؤثر على سرعة تفاعل مسؤولي الوقاية المدنية مع الحرائق والحوادث الأخرى. وبعيدا عن تهور المواطنين، يقدس عناصر الوقاية المدنية قولة مأثورة حفظوها عن ظهر قلب خلال تكوينهم، وهي أنه لحظة اندلاع الحريق، في الدقيقة الأولى يمكن إخمادها بكأس ماء، وفي الدقيقة الثانية بسطل ماء والثالثة بصهريج، والرابعة البحث عن أي طريقة لإطفائها، لأنها خرجت عن السيطرة، سيما عندما يتحول الدخان الناتج عن الحريق إلى نار حامية. فعامل الوقت حاسم جدا، لهذا علق مسؤول على الأمر قائلا " لا يتم إشعارنا بالحريق إلا بعد أزيد من 15 دقيقة أو أكثر، بحكم أن الدقائق الأولى يصعب معها اكتشاف مكان النار، وأن المواطنين يكونون في حيرة في تحديد مصدرها، وما إن يتم إشعارنا بالحريق والقدوم إلى مكانه، حتى تكون قد مرت العشرات من الدقائق، ما يعني أن النار أتت على كل شيء، ورغم ذلك نتهم بالتقصير والإهمال". حرب المنعشين العقاريين بمقر القيادة الجهوية للوقاية المدنية بالبيضاء، كان لنا لقاء مع "ليوتنو كولونيل" سيدي خويا متوكل ، القائد الجهوي للوقاية المدنية البيضاء –سطات. من خلال حديثه كان راضيا على أداء جميع الوحدات التي تحت إشرافه، رغم الانتقادات التي تتعرض لها مؤسسة الوقاية المدنية، والتي ازدادت حدة بعد فاجعة مصرع طفلة بسيدي علال البحراوي. أبدى الكولونيل أسفه على الفاجعة، وتقبل الانتقادات حول طريقة إنقاذ الطفلة، إلا أنه أبدى ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن غياب دروس التوعية للتلاميذ بالمؤسسات التعليمية حول طرق الوقاية من الحرائق، ساهم في مصرعها. يوضح القائد الجهوي الأمر أكثر، بالقول إنه في الدول المتقدمة، تقدم دروس للأطفال حول كيفية التعامل مع هذه الكوارث، من قبيل أن يضع الطفل منديلا مبللا على أنفه لتفادي اختناقه بسبب دخان النيران، والجلوس قرب باب المنزل أو الشقة، لتكون عملية إنقاذه مضمونة بنسبة كبيرة. وبالنسبة إلى طفلة سيدي علال البحراوي، فإنها وقعت في خطأ قاتل، عندما قصدت نافذة المنزل المسيجة طلبا للنجدة، بحكم أن النيران تكون في حاجة إلى الأوكسجين، وتستهدف النوافذ والمنافذ أولا، حسب قول الكولونيل. لكن رغم هذا الأمر، أشاد القائد الجهوي بالمبادرات التكوينية، التي تشرف عليها الوقاية المدنية مع عمال المصانع والبنوك وباقي المؤسسات الإنتاجية، إذ قدمت للعاملين فيها، دروسا مهمة حول كيفية التعامل مع اندلاع الحريق وطرق إنقاذ حياتهم، حتى لا تتكرر المآسي، التي حدثت في الماضي على غرار فاجعة معمل "روزامور" بليساسفة. وشدد القائد الجهوي، أن هدف هذه الدورات التكوينية هو تدريب العمال والمستخدمين على ضبط النفس في حالة اندلاع الحريق، لأن "الخلعة تقتل" حسب قوله، إذ تتسبب في ازدحام ودهس يتسبب في سقوط قتلى، وهو الأمر الذي حدث بفاجعة معمل "روزامور" بليساسفة، عندما تدافع العشرات من العمال نحو الباب الوحيد للمصنع طلبا للنجاة، فلقي أغلبهم مصرعه إما دهسا أو بسبب الاختناق بدخان النيران السامة. تبقى أهم نقطة تثير تحفظ القائد الجهوي، الضغوط التي يمارسها المنعشون العقاريون لإسقاط الوقاية المدينة من عضوية اللجنة المكلفة بمراقبة تصاميم البناء ومنح رخص السكن. يوضح سيدي خويا متوكل هذه النقطة بنوع من الحسرة، أن موقفهم الصارم من احترام شروط السلامة في البناء، مبعثته الحرص على ضمان حماية أكبر للمواطنين، فكلما احترمت البنايات الشروط السلامة والوقاية من الحريق، انعدمت شروط حدوث الفاجعة، وكانت عمليات إنقاذ الأرواح مضمونة، لكن للأسف، يضيف القائد الجهوية، غالبا ما يعتبر المنعشون أن احترام هذه المعايير في البناء تكاليف مالية إضافية، من قبل بناء أدراج خلفية باعتبارها المنفذ الوحيد للسكان من أي حريق، إذ يرفض العديد منهم بناءها، فهي في نظرهم مكلفة، ويكتفون ببناء نقط التزود بالماء لاستغلالها في حال اندلاع حريق. والمؤسف، يوضح سيدي خويا أنه عندما يكون هناك تدخل لإطفاء حريق، وتنفد المياه من الشاحنة، تتفاجأ عناصر الوقاية المدنية بسرقة معدات نقط التزود بالماء، ويتم اتهامها بالتقصير وتحميلهم مسؤولية التأخر في إخماد النيران. أنجاز: مصطفى لطفي / تصوير: (أحمد جرفي)