سؤال الإصلاح الديني بالمغرب: هل من تغيير؟

مهما بلغت قوة نظام أي حضارة وانتظمت أمورها، فإنها تبقى حضارات بشرية تتأثر بأحوال الضعف البشري، حيث يطرأ عليها الخلل أو التقهقر، فتضعف وتحتاج إلى إصلاح وتجديد. والمتتبع للشأن الديني بالمغرب يعلم يقينا حساسية هذا المجال نظرا لطبيعة الدولة المغربية التي تشكل الهوية الدينية والأصالة التاريخية أحد مرتكزاتها، خصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه الهرج في بعض الأقطار، بسبب ما اجترحته شرذمة من الناس أساءت فهم الدين الإسلامي العظيم، وانحرفت به عن منهجه ومساره القويم. وإن الناظر فيما أقدم عليه المغرب من إصلاحات في المجال الديني خلال السنوات الماضية يرى أن مسألة الإصلاح الديني في ضوء الظروف الراهنة والسقف الحضاري العالمي الحالي تختلف عن الكيفية التي تم بها تناولها في السابق، إذ ترسخت اليوم الكثير من المفاهيم، كحقوق الإنسان، والديمقراطية، والحريات، والحوار والتسامح، كأهداف رئيسية لأي عملية إصلاح سواء كانت ثقافية عامة أو اجتماعية أو سياسية. لذلك يتبادر إلى ذهن كل مهتم بالشأن الديني للمغرب هذه التساؤلات: ما التقييم العام لحصيلة إصلاح الحقل الديني في المغرب بعد مُضيِّ حواليْ عِقْدٍ ونيّف على الشروع في تنفيذه؟ وهل تحققت أهدافه؟ وهل من تغيير في الوعي الديني لدى المغاربة؟ للإجابة عن هذه الأسئلة لابد من التذكير بالداعي الرئيسي المؤدي إلى محاولة خلق حركية جديدة في المجال الديني وبمنظور جديد، حيث إنه بعد الحدث المأساوي ل16 ماي 2003 بالدار البيضاء دفع الدولة إلى جعل مسألة إعادة هيكلة الحقل الديني من بين أولويات وانشغالات مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها المسؤولة عن حراسة الدين –كما يقرر علماء الفقه السياسي-، وفي هذا الصدد جاء في الخطاب الملكي ليوم 08 يوليوز 2005 بمناسبة افتتاح دورة المجلس العلمي الأعلى للمملكة: "...وإذ نؤكد عزمنا على المضي قدما في إصلاح الشأن الديني، الذي قطع خطوات هامة، باعتباره أحد أركان مشروعنا المجتمعي، فإننا ندعوكم وكافة العلماء المستنيرين، رجالا ونساء على حد سواء، إلى النهوض بالمسؤوليات الجسيمة الملقاة على عاتقكم، والانخراط في حركة الإصلاح الشامل الذي نقوده". من أجل ذلك فإن المتتبع لهذا الورش الإصلاحي الذي تم تفعيله في هذا المجال يجد أنه تمثل أساسا في هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عبر إحداث مديرية المساجد ومديرية للتعليم العتيق، ثم هيكلة المجلس العلمي الأعلى، فإحداث الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء، وكذا إعادة هيكلة رابطة علماء المغرب بالرابطة المحمدية لعلماء المغرب .. وبعد ذلك تم خلق إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وبعدها بسنة تم إطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم، فضلا عن إعادة تنظيم مؤسسة دار الحديث الحسنية ثم تأسيس مركز تأهيل وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، زد على هذا كله إحداث المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، وإطلاق خطة ميثاق العلماء، لنصل إلى إحداث مؤسسة محمد السادس لطبع المصحف الشريف سنة 2010، وإحداث مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينين، وإشراك المرأة في تدبير هذا الشأن ... وتبقى هذه أبرز الآليات التي اعتمدتها مؤسسة إمارة المؤمنين لتأهيل الحقل الديني بالمغرب من حيث الإصلاح الإجرائي والمؤسساتي والقانوني، وهي آليات تم بفضل الاستراتيجية الحكيمة لإمارة المؤمنين ضبطها وتدارك النقص الذي كان هذا الحقل يعانيه، لذلك لن أتوقف عند هذا المستوى من الإصلاح، بل ما يهمني هنا أكثر هو مستوى الإصلاح المضموني للشأن الديني. عموما فإن تقييم حصيلة إصلاح الشأن الديني بالمغرب يتوقف على الإجابة عن ثلاثة أسئلة: أولا: كيف يمكن لإصلاح الشأن الديني أن يعالج أعطاب التدين الموجودة في المجتمع؟ ثانيا: كيف يمكن لإصلاح الشأن الديني أن يجعل المكون الديني يسهم بقوة في مهام نشر المعرفة والعلم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أي الإسهام في التنمية الشاملة لوطننا؟ ثالثا: كيف يمكن لإصلاح الشأن الديني أن يعالج الآفات الأخلاقية المنتشرة في المجتمع مثل الرشوة والغش وإدمان المخدرات والخمور والعهر والحقد والكراهية وغيرها؟ إن هذه الأسئلة هي الأهم في تقييم إصلاح الشأن الديني بالمغرب، ومقصدنا الحقيقي هو المساهمة في النهوض بهذا الشأن وتحقيق أهداف الدين نفسه، لأنه لا يستوي أي إصلاح ديني صلاحا وخيرية إن لم يستند جذريا إلى مستويين من الإصلاح المضموني ، يكون مؤسسا وفقا لهما ويتحرك في نطاقهما: المستوى الأول: ضرورة إصلاح البنية الثقافية الدينية أو إصلاح الفهم الديني: وهو أمر يحتاج إلى صحوة فكرية حقيقية وجهد عملي حواري إقناعي يروم إلى إشاعة الفهم العقلاني والوسطي للدين، بعيدا عن بعض التمثلات والممارسات السائدة، التي هي أقرب إلى الخرافة. ويقتضي هذا الأمر في الحقيقة تشكيل الإنسان وصوغ بنائه النفسي والمعرفي، وتعديل سلوكه وتطوير أفكاره ومسلكياته، وتأطير اهتماماته؛ فإذا كان الإيمان حاجة إنسانية وجدانية ضرورية –كما يقول الأستاذ محمد عودة برهومة- فإن التحدي دائما هو ردم الفجوة بين الإيماني والمعرفي، عبر جعل الإيمان لا يواجه المعرفة أو يخاصمها، وجعل الوجدان والمقدس محرضا على العلم الذي هو ضرورة أولى للعيش والحياة. (انظر دور الوعي الثقافي في الإصلاح الديني، ص 8) ويستلزم هذا المستوى تضافر جهود المؤسسات الرسمية والمؤسسات الشعبية، وفق الاجتهادات والإشراقات القوية والمتقدمة والمنفتحة ذات الأفق الواسع، الذي يسع هذه التحولات ويستجيب لمقتضياتها، لأن العمل الرسمي لن يأتي أكله دون أن يستند إلى جهد شعبي قوي، ودون تنسيق بينهما، بل يجب أن يكون هذا الجهد بتنسيق لا يطغى فيه الرسمي على الشعبي ولا الشعبي على الرسمي، وإنما يكون بتعاون وتسابق بالخيرات بإذن الله. المستوى الثاني: تجديد المثل والقيم الدينية وإصلاحها وإعادة هيكلتها وترسيخها: وذلك من خلال وضع الوعي الأخلاقي والمسألة الأخلاقية في سياقهما التطبيقي الملائم، عبر المقررات الدراسية التعليمية والإعلام على الخصوص، لأنهما يعدان أقوى المؤثرات الخارجية في عملية الإصلاح، وكذا عبر تعريضهما -حسب الأستاذ برهومة- لاعتبارات الثقافة الحقوقية والحريات العامة والخاصة، كما جاءت في المواثيق الدولية والوعي الإنساني الذي استقر في زمننا، وربط كل ذلك بمسألة السلطة والحكم وإدارة الشأن العام. والإصلاح الديني في مجال المثُل والقيم إنما يتغيّا أن تكون تلك القيم صالحة للعصر، لا معاندة له أو معيقة لتحسين شروط عيش الإنسان، وحفظ حقوقه ومكتسباته، وصون حريته وكرامته. هنا يتضح مدى مكانة العلاقة بين الأخلاق والدين في تحقيق تنمية مستدامة في المجتمع المغربي، وذلك بالتزام القواعد الأخلاقية العامة في إدارة المجتمع والدولة من خلال المبادئ العامة: الحوكمة، والمحاسبة ومكافحة الفساد المالي والإداري والسياسي، والمساءلة والشفافية، وتكافؤ الفرص والمساواة في المواطنة، والمشاركة العادلة في المجال العام، والمحافظة على البيئة وتوازنها وحماية الموارد الطبيعية ... إلخ لهذا فإن إعادة صياغة المثل الدينية بالمغرب وترسيخها وفق الحالة الإسلامية المعاصرة في تقديرنا ركيزة أساسية في أي إصلاح ديني مرتجى، ولبنة مهمة لسد الشرخ الأخلاقي العظيم الذي يعيشه المجتمع المغربي خصوصا لدى فئة الشباب، وذلك حتى تصبح المسألة الأخلاقية وثيقة الصلة ببلورة اختيارات عامة الناس، تتعلق - حسب الأستاذ برهومة – "بالمجال العام والحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وليس مجرد مواعظ وعبر وحكم ووصايا مشتتة ومتناقضة فيما بينها أحيانا". وهذه دعوة إلى العمل على تطوير أخلاقية إسلامية متصالحة مع المشترك الإنساني العام الذي استقر في عصرنا، في ظل سيادة أمير المؤمنين نصره الله، وما عبرت عنه المواثيق والمعاهدات الدولية والأممية الخاصة بحقوق الإنسان، ولم تصطدم مع روحه كثير من القراءات الأخلاقية التراثية في الحضارة الإسلامية، لأن الإجابة عن سؤال التغيير يحتاج إلى هذه الدعوة شريطة أن تكون أكثر اتساقا وعمومية، وأكثر تماسكا وانضباطا مع تعاليم ديننا الحنيف، والهدف من ذلك هو الوصول إلى درجة التغيير الذي يطمح إليه ويترجاه كل مواطن مغربي من مشروع إصلاح الشأن الديني. الأستاذ الباحث عبد اللطيف التواصلي

سؤال الإصلاح الديني بالمغرب: هل من تغيير؟

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بوريطة يلتقي وزير خارجية الكويت بنيويورك

اعتقال 4 أشخاص بمكناس متهمين هددوا عناصر القوة العمومية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات