أمهات في سجون التوحد

محنة نساء اخترن المنفى إلى عوالم أطفال يرفضون العيش خارج أسوار العزلة وصل علماء النفس المعاصرون إلى خلاصة مفادها ألا خوف على أطفال التوحد بقدر الخطر الذي يهدد الأمهات، إلى حد أن الأزواج الذين يقصدون، اليوم، طبيبا مختصا للتعامل مع طفل توحدي يفاجؤون بإصرار على ضرورة أن تحظى الأم بدعم نفسي، فقد تصل محنة هؤلاء النسوة، اللواتي اخترن المنفى، إلى عوالم أطفال يرفضون العيش خارج أسوار العزلة، حد التفكير في الانتحار. ومن سوء حظ أسر الأطفال التوحديين أن الأمر لا يتعلق بمرض غامض تضاربت آراء المختصين بشأنه، فهو عبارة عن طيف متعددة طبقاته من التوحد الشديد إلى التوحد الخفيف، بالإضافة إلى تقاطعه مع أمراض أخرى كثيرة كما هو الحال بالنسبة إلى فرط الحركة وتشتت التركيز. إعداد: ياسين قُطيب أصبحت ضحى منذ أن دخلت عالم التوحد من نافذة بنتها، خبيرة في طرق التعامل مع أحدث الوسائل المتبعة لكسر حواجز التواصل عند الأطفال المصابين به، فهي من الأعضاء المؤسسين لجمعية من الأطر المتخصصين والآباء والأمهات. طرقت أبوابا كثيرة منذ أن لاحظت أن بنتها نور لا تثبت النظر في مخاطبيها، وتتهرب من عيونهم، وانتهت بعد رحلة شاقة بين عيادات أطباء نفس وأطباء الجمجمة والأعصاب وغيرهم، إلى حقيقة مفادها أن التوحد ليس له دواء يقضي عليه، وأن كل ما في وسعها القيام به هو محاولة تقويم سلوك نور ونطقها، على أمل أن تتمكن يوما من التواصل مع الناس دون وساطة أمها. أجوبة عن أسئلة حارقة لا تختلف قصص معاناة أمهات أطفال التوحد عن بعضها، فمثل ضحى لم تكن نادية تتوقع أن تتغير حياتها بتلك الطريقة عندما أنجبت طفلها الأول معاذ، فقد لاحظت في البداية أن نموه كان مختلفا عن باقي الأطفال في عمره، تأخر نطقه ولم يكن يحب اللعب مع الآخرين ولا التعبير عن مشاعره، وإن فعل يكون ذلك بطريقته الخاصة جدا. حاولت أن تتناسى الأمر وتكذب حدسها الذي لم يخيب قراءة نفسيات من حولها، لكن ملاحظات صديقتها الممرضة أشعلت ثورة الشك في دواخلها، ومع ذلك انتظرت إلى أن شعرت أن الأمر يزداد سوءا فقررت استشارة طبيب متخصص لكي يفحصه بشكل أدق، عندها أبلغت بالخبر المحزن، معاذ مصاب بالتوحد. أم معاذ كغيرها من الأمهات لم تكن تعلم شيئا عن هذا المرض أو أعراضه أو علاماته، وكانت تعتقد أنها لن تتمكن من إحراز تقدم مع طفلها، ولكن بعد تعرفها أكثر على هذا المرض علمت أن هناك أملا. البحث عن معاذ وتكسير البلورة التي اختار أن يحيى داخلها لن يكون أمرا يسيرا، لكنه ليس مستحيلا، على اعتبار أن التوحد ليس مرضا عقليا بقدر ما هو اضطراب عصبي يؤثر على وظائف الدماغ، وسيكون على أم معاذ، شأنها في ذلك شأن الأمهات المجتمعات في يوم دراسي نظمته جمعية العلاج المبكر للتربية والتكوين للأطفال في وضعية إعاقة بالمركب السوسيو مهني بعين الشق، الإحاطة بالمرض، حيث تناثرت من عيونهن أسئلة حارقة من قبيل يا ترى ما سبب إصابة صغيري بمرض التوحد؟ هل حدث ذلك بسبب تعرضه لشيء ما أثناء الحمل؟ أم تعرض الطفل لحادث ما؟ هل هو مرض وراثي؟ للأسرة دور محوري تتبادل الأمهات الرسائل والمكالمات ويضربن فيها موعدا شهريا، كما هو الحال بالنسبة إلى نادية، التي وصلت الأولى إلى لقاء تواصلي في المركب السوسيو مهني عين الشق بالبيضاء علهن يجدن أجوبة لأسئلة حارقة تحاول الإجابة عنها جمعية العلاج المبكر للتربية والتكوين للأطفال في وضعية إعاقة، تحت إشراف إلهام نهاج الاختصاصية في صعوبات التمدرس. أول ما أكدت عليه الورشة المفتوحة تحت عنوان «التوجيه الأسري والتشخيص النفسي التربوي و آليات التدخل"، أن قدوم طفل في وضعية إعاقة ليس بالحدث السهل على الأسرة بأكملها ويشكل منعطفا استثنائيا في حياة أفرادها، يؤثر بشكل مباشر على كثير من الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسلوكية والعاطفية. ووضعت مؤطرة الورشة أمهات أطفال التوحد، اللواتي قضين سنوات في معركة تقويم سلوك فلذات أكبادهن، في سياق آخر ما توصل إليه المختصون في الأمراض النفسية لدى الأطفال والمراهقين بهذا الخصوص، إذ طرأت تغييرات كبيرة على نظرة العاملين في مجال التربية الخاصة سواء في المدارس والمراكز والجمعيات إلى آباء وأمهات الأطفال في وضعية إعاقة في السنوات الماضية، ففي حين كان الآباء والأمهات يعاملون بوصفهم يحتاجون إلى المعلومات والإرشاد وأنه ليس لديهم شيء يقدمونه للعاملين في ميدان التربية الخاصة، أصبح المهنيون حديثا يدركون أهمية الدور الذي يلعبه الوالدان في التأثير على النمو الكلي لطفلهما الذي يعاني الإعاقة. من الممكن أن يتعلم الآباء والأمهات مبادئ وأساليب تعديل سلوك الأطفال في وضعية إعاقة وبمقدور الوالدين إحداث تغيرات ذات أهمية في سلوك طفلهما، تلك كانت الخلاصة المحورية لليوم التواصلي، خاصة بعدما أصبح مفهوم الدعم المبكر بمختلف أشكاله وأنواعه سواء النفسية أو الاجتماعية أو التربوية أو التأهيلية، أكثر شمولية وأوسع نطاقا، إذ لم يعد يقتصر على تقديم الخدمات للأطفال الذين يعانون إعاقة واضحة بل أصبح يستهدف أسرهم أيضا، وأعطت النظريات المرتكزة على التوجه التفاعلي للأسرة دورا محوريا، إذ لا يجب حسبها التعامل مع الطفل بمعزل عن أسرته بل تؤكد أن الطفل لا يمكن فهمه جيدا بمنأى عن ظروفه الأسرية والاجتماعية. علاقة قائمة على الثقة بما أن الأسرة هي الشيء الثابت في حياة الطفل فإن أي جهد فعال لن يتحقق دون تطوير علاقات تشاركية مع أولياء الأمور. ولكن مشاركة أولياء الأمور الإيجابية في التخطيط للخدمات وفي اتخاذ القرارات تتطلب قيام الأختصاصيين بتعديل اتجاهاتهم وبإعادة النظر والتفكير بعلاقاتهم مع الأسر، فكثير منهم يعملون وفقا لافتراض مفاده أنهم وحدهم يمتلكون المعرفة ويعرفون المناسب وأنهم بالتالي القادرون على حل المشكلات واتخاذ القرارات، كذلك فإن برامج التدريب قبل الخدمة تركز على تزويدهم بالمهارات اللازمة للعمل مع الأطفال ولكن الفاعلية القصوى تتطلب تطوير علاقة عمل إيجابية بين الاختصاصيين وأولياء الأمور، والجهود الموجهة للعمل مع أولياء الأمور لا تقل أهمية من الناحية العلاجية عن الجهود المبذولة للعمل المباشر مع الأطفال، وإن كان العمل مع الأسر ينطوي على تحديات غير تقليدية، حيث إن مشكلات متنوعة قد تحدث عندما تختلف مواقف الاختصاصيين وأولياء الأمور إزاء أولويات الأهداف والخدمات. حاول المؤطرون من خلال هذه الورشة التواصلية تغطية تفاصيل مهمة في موضوع الدعم والتوجيه والتتبع النفسي لأسر الأطفال في وضعية إعاقة في جمعية زياد لرعاية الأشخاص المعاقين، من خلال التأكيد على أهمية بناء علاقة قائمة على الثقة ووسائل دعم الأسرة من قبل المختصين، وذلك بجلسات تواصلية مع الآباء والأمهات في الفترة الصباحية، قبل الغوص بعد الزوال في متاهات الاحتياجات النفسية والاجتماعية للأهل، و صعوبات بناء الثقة وانعكاسها على أداء الطفل في وضعية إعاقة، والانتهاء بشرح طرق التشخيص النفسي التربوي للأطفال ومجالات و آليات التدخل. فرط الحركة والتوحد وحدها بحرية، القادمة من البئر الجديد إلى البيضاء، بحثا عن أمل يلطف قضاء إصابة ابنها نصير، رجعت بخبر سار إلى زوجها، فقد تأكدت بأن سبب غرابة سلوك ولدها ليس التوحد ولكنه شيء آخر، إذ شرحت مداخلات عزيز لحنش الاختصاصي النفساني الاجتماعي وحكيم النجار ونوح رابي المربيان المختصان، أنه ليس كل طفل لديه فرط حركة يكون توحديا وأيضا ليس كل أطفال التوحد لديهم فرط الحركة، وأن من أوجه هذه الاختلافات أن طفل التوحد لا يحب التغيير ويقضي وقته في عادات لا يحب تغييرها، عكس طفل فرط الحركة فهو دائما يحب التغيير ولا يسير على نظام يومي. ما أسعد بحرية أكثر هو أن معظم أطفال التوحد لديهم تأخر لغوي دائم، في حين يتكلم أصحاب فرط الحركة بعد سنوات الطفولة، لكن ذلك لن يعفيها من حصص التقويم السلوكي، على اعتبار أنه بخلاف أطفال التوحد الذين لديهم أنماط متكررة، فإن المصابين بفرط الحركة فوضويون يتحركون بدون هدف، رغم أنهم اجتماعيون، وتختفي مشكلاتهم مع توالي سنوات التدريب شريطة أن تبدأ قبل سن الرابعة. الكلام بالبطاقات لا تظهر نتائج حصص التقويم السلوكي بسرعة، إذ تؤكد إلهام نهاج الاختصاصية في صعوبات التمدرس، أن مراجعات الأطباء المتابعين لحالات أطفال الجمعية ترصد تقدما لا يتجاوز نسبة 0.05 في المائة بين الفحص والآخر، لكنها تغيرات ذات أهمية بالغة تبهر أحيانا المختصين في مجال الأمراض العقلية والنفسية للأطفال والمراهقين، كما هو الحال بالنسبة إلى أطفال مصابين بالتوحد ومع ذلك دخلوا مرحلة اكتشاف الجسم ومعرفة أعضائهم شأنهم في ذلك شأن الأطفال العاديين مع تأخر من سنتين. وردا منها على تعلق الأمهات بحلم كلام أطفالهم، اعتبرت أن المهم هو التواصل الجيد والسليم، لأنهن قد يحصلن على كلام غير مفهوم، لذلك فهي تشدد على ضرورة التواصل المستمر بين الأسر والأطباء والمختصين في تقويم السلوك والنطق. من الضروري أن يتم تشخيص الطفل المصاب بمرض التوحد في مراحل مبكرة من طفولته حتى يكون بوسعه الحصول على فرصة لتقويم سلوكاته ومهارات التواصل المتخصصة وربما التعلم، على اعتبار أن التعامل مع هذا الاضطراب يظهر تحسنا كبيرا باستعمال طرق أثبتت نجاعتها بالدول الرائدة. ومن البرامج المتطورة في التصدي للصعوبات الاجتماعية واللغوية والسلوكية المصاحبة لمرض التوحد، طريقة التواصل بالصور «البيكس»، التي تهدف إلى تقليل المشاكل السلوكية وتعلم مهارات وكيفيات التصرف في المواقف الاجتماعية والتواصل مع الآخرين ولو في غياب الكلام. وتتلخص طريقة التواصل بالصور فى أن يدرب الطفل على إعطاء الصورة المناسبة لمعلمته أو للأم عندما يرغب فى شيء ما، كأن أن يبادر ويقدم بطاقة الحلوى إذا أراد قطعة حلوى مثلا، أو أن يرفع في وجه مخاطبيه صورة اللعبة التى يريدها. وشيئا فشيئا يتطور التواصل من الجمل المكونة من صورة واحدة في المراحل الأولية من حصص التقويم السلوكي، إلى مرحلة التدريب على تكوين جملة كاملة فقط باستعمال الصور، التي تكون لديه في ملفات خاصة، وذلك عن طريق رص البطاقات على ملف لاصق، فعلى سبيل المثال إذا أراد أن يآكل موزة فهناك صورة خاصة تدل على تقديم الطلب كتب عليها «أنا أريد»، ويضيف إليها صورة أخرى تشير إلى فعل الأكل وبعدها صورة الشيء الذي يريد أكله، (كما هو موضح في الصورة).

أمهات في سجون التوحد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

قطاع العقار ... احتياجات تصل إلى مليوني وحدة في أفق 2025

عرض السكن الاجتماعي بلغ ذروته

مقالات ذات صلة