ضحايا الأخطاء الطبية… المصير المجهول

مرضى بين دوامة إثبات الخطأ وتعقد المساطر والاستسلام لـ"قضاء الله وقدره" انقلبت حياة الكثير من المغاربة بسبب الأخطاء الطبية، لتنضاف معاناة أخرى إلى قاموس حياتهم، إذ وجد الكثير منهم، أنفسهم في مقرات إدارات المستشفيات والمصحات، ويدورون في ردهات المحاكم من أجل انتزاع حكم بإنصافهم، وبين المرحلتين، يفكر الكثير منهم في الاستسلام لـ"قضاء الله"، ورفع الراية البيضاء. إنجاز: إيمان رضيف عند الحديث عن موضوع الأخطاء الطبية، تقفز الكثير من الأسئلة إلى السطح، وتفرض نفسها بقوة. أولها ماذا نقصد بالخطأ الطبي وهل هناك قوانين تحدده ؟ ومن يتحمل مسؤوليته؟ وهل اللجوء إلى القضاء لإنصاف الفئة التي استنجدت به، الحل الأمثل؟ إلى جانب أسئلة أخرى، لن يجيب عنها سوى الذين يجترون مرارة الخطأ الطبي. حكاية لم تنته "مأساة"، هو عنوان ما عاشته سناء العلوي، ضحية خطأ طبي، غير حياتها، وقلبها رأسا على عقب. مازالت الدموع تباغتها كلما تذكرت ما عاشته خلال خمسة أشهر متواصلة، قضتها بمصحة خاصة بمراكش، وترتفع حدة غضبها، عندما تؤكد أن الطبيب المسؤول عما عاشته مازال يزاول المهنة، وكأن شيئا لم يحدث.تحدثت سناء عن معاناتها، التي ابتدأت في الوقت الذي تعرضت فيه لحادثة بسيطة، ولم تنته إلى اليوم، حتى بعدما تدهورت حالتها الصحية، وندوب عميقة على بطنها، لن يمحوها مرور السنوات. وتتذكر ذلك اليوم بأدق تفاصيله، مؤكدة أن سيارة صدمت السيارة التي كانت تقودها، ولأن الخسائر لم تكن كبيرة، ذهب صاحبها إلى حال سبيله " بعد ساعات من الحادث، بدأت أشعر بألم في بطني، إلا أنه لم يكن قويا حتى يدفعني إلى استشارة الطبيب". توقفت سناء، عن سرد ما عاشته، وتحدثت عن طبيعة عملها في فندق مصنف بمراكش، مشيرة إلى أنه يتطلب القيام بجولة تفقدية في مرافقة والحديث إلى الزبناء، لتكمل حديثها بأنها في لحظة القيام بعملها تقيأت شيئا أحمر "تذكرت أنني تناولت "الباربا"على الغذاء، فلم أعر للأمر أي اهتمام، رغم الألم الذي كنت أشعر به". واسترسلت "اشتد الألم، فكان من الضروري أن استشير الطبيب"، وهذا بالضبط ما قامت به، إذ توجهت إلى مصحة، وبعد فحوصات كثيرة، اكتشف الأطباء أن دما تكبد بسبب الحادثة التي تعرضت لها، وبعد ساعات أخبروها أنه من الضروري أن تزيل المرارة، نظرا لوجود حصى بها. لم تكن سناء تعلم أنها، ستدخل، بموافقتها على إزالة المرارة، في دوامة، مازالت إلى اليوم لم تقو على الخروج منها. حياتها توقفت في تلك المصحة التي خضعت فيها إلى ثلاث عمليات جراحية، لم تبد موافقتها على إجراء الأخيرة منها. أشارت الشابة إلى أنها في بادئ الأمر، تصورت أن إزالة المرارة لا تتطلب الكثير من الوقت، باعتبار أنها عملية في غاية السهولة "اقترحت على الطبيب الذي سيجري لي العملية، بأن يستعمل تقنية الليزر، لتفادي الندوب التي تسببها العملية بالطريقة المتداولة، "لم يبد الطبيب أي اعتراض"، على حد تعبيرها.إلى هنا، يبدو الأمر طبيعيا جدا، لكن عندما زال تأثير البنج، اشتدت الآلام من جديد، لم تقو على تحملها، فطلبت رؤية الطبيب الذي أجرى لها العملية، لكنه طمأنها بأن الوضع لا يدعو للقلق. "غادرت المصحة، وكلي أمل في أن أعود إلى طبيعتي، لكن تلك الآلام اشتدت أكثر، والأكثر من ذلك، تقيأت سائلا أصفر اللون ثم أخضر، فأعادتني عائلتي إلى المصحة على وجه السرعة".للمرة الثانية تخضع سناء، إلى عملية جراحية، لكن هذه المرة، لإزالة مخلفات العملية الأولى، إذ اكتشفت أن الطبيب وعوض إزالة المرارة، قام بثقبها وإفراغ محتوياتها قبل إخراجها من جسمها، فتطلب الأمر عملية غسل بعض أحشائها الداخلية "فركع لي المرارة قبل إزالتها". استسلمت سناء للأمر الواقع، وقبلت بإجراء أخرى، لكن خلال العملية استيقظت، وأحست بكل ما يقوم به الطاقم الطبي، الأمر الذي دفعها إلى الصراخ "سمعت الطبيب يطلب من طبيب التخدير، إضافة كمية البنج، إلا أنه رفض، وقال إن ذلك سيشكل خطرا علي". وأمام هذا الوضع، قام الطبيب بخطأ طبي آخر، وترك مقصا داخل أحشاء سناء. لم تقو السناء على منع الدموع، وتذكرت كل تلك المعاناة التي تخبطت فيها، تذكرت كيف قام الطبيب بإنزالها إلى قاعة العمليات دون موافقتها وفي غياب أسرته ليقوم بعملية ثالثة، لإزالة المقص الذي ظل في أحشائها، وكيف تملص من المسؤولية، ودعاها إلى التوقف عن المطالبة بحقها لأن له نفوذا قوية يحميه "فكرت أكثر من مرة في أخذ حقي بيدي، لكن أتراجع عن ذلك، بسبب ابنتي، فلا أريدها أن تظل وحيدة، سيما بعد وفاة والدتي، متأثرة بما حدث معي". من يتحمل المسؤولية؟ مع ارتفاع ضحايا الأخطاء الطبية، تثار أسئلة مؤرقة، أولها، ماذا نقصد بهذا النوع من الأخطاء التي يكلف العديد من المغاربة، الكثير ويحرمهم من عيش حياة طبيعية؟ فرغم صعوبة تحديد معنى الخطأ الطبي قانونيا، نظرا للفراغ القانوني بالمغرب بخصوص هذا المجال، فهناك عدة تعريفات تقر على أنه انحراف الطبيب أو الممرض عن السلوك الطبي العادي والمألوف والمتعارف عليه نظريا وعمليا وعلميا، وما تقتضيه الخدمة الطبية من يقظة وتبصر، إلى درجة يهمل معها الاهتمام بمريضه. أو هو إخلال الطبيب أو الممرض بالواجبات الخاصة التي تفرضها عليهما مهنتهما، وعدم الالتزام بمراعاة الحيطة والحذر والحرص على الحقوق والمصالح التي يحميها المشرع. ويعتبر علي لطفي، أن المشرع المغربي لم يعرف الخطأ الطبي، إلا أن التعريف يمكن تحديده من خلال ما تنص عليه القواعد العامة للقانون الإداري والجنائي وقانون الالتزامات والعقود في القانون الإداري والجنائي وفي قانون مزاولة مهنة الطب، مشيرا إلى أن الخطأ الطبي ليس مسؤولية طبيب أو ممرضة أو قابلة ارتكبت خطأ طبيا، بقدر ما هو مسؤولية النظام الصحي الوطني والمستشفيات والمصحات التي تفتقر إلى التجهيزات والأدوية الضرورية، ولم تفعل قوانين الجودة النوعية في الخدمة الطبية المقدمة للمرضى.وأوضح لطفي أن أغلب الأخطاء عندما تظهر على السطح، فذلك ليس من فراغ، وإنما من تراكمات أخطاء الإدارة الصحية والتدبيرية والمراقبة والتقييم والتكوين المستمر للمهنيين وهي التي تؤدي إلى النتائج السلبية والأخطاء المهنية، مشيرا إلى أنها تحدث نتيجة غياب ضبط إدارة العملية الطبية في المستشفيات وفق برامج تنظم بيئة العمل فيها.وجاء على لسان علي لطفي، أن دراسات أكدت أن 85 في المائة، من الأخطاء الطبية التي تحدث بالمستشفيات والمصحات ترتبط بشكل مباشر بالتجهيزات والموارد البشرية وبأنظمة العمل والإجراءات المتبعة في تنفيذها، كما أنها تقع غالبا في المنشآت التي تتراخى في الاهتمام بأنظمة السلامة والسياسات الاحترازية التي يجب اتباعها، في الوقت التي أشارت فيه تلك الدراسات إلى أن 15 في المائة فقط من الأخطاء الطبية ترتبط بالأخطاء البشرية. فإذا ثبت، حسب تأكيد لطفي، أن نسبة لا تتجاوز 15 في المائة من مسؤولية الأطباء والممرضين، إما بسبب انعدام الكفاءة أو بسبب الإهمال وعدم القيام بالاحتياطات الطبية اللازمة، مثلا نسيان قطعة شاش طبي في بطن المريض، فإن المسؤولية الكبرى تقع على المؤسسات الصحية.وأوضح أن هناك أمثلة المضاعفات الصحية التي قد تحدث للمريض بعد العملية الجراحية ويتوفى، وليس لها علاقة بفشل العملية، أو حدوث خطأ في التشخيص، وإنما في المراقبة والمتابعة، ثم غياب التواصل بين الطبيب والمريض لمعرفة كل ما يتعلق بعلاجه والأخطار أو المضاعفات المحتملة. معاناة دون إنصاف رغم المعاناة التي عانتها سناء منذ دخولها إلى المصحة، والتي ما زالت إلى اليوم، تتخبط فيها، لم تستطع إثبات الضرر الذي لحق بها، والأكثر من ذلك، مازال الطبيب المتهم بقلب حياتها رأسا على عقب، يزاول المهنة "لجأت إلى كل الطرق حتى يأخذ الطبيب جزاءه، إلا أن محاولاتي باءت بالفشل، كما أن محامين، رفضوا، الدفاع والنيابة عني في المحكمة"، تقول سناء قبل أن تضيف أنها لم تستسلم للأمر الواقع، وأنها دائما على أمل أن يتم إنصافها، سيما أنها كانت على وشك فقدان وظيفتها مصدر رزقها، لولا أن المسؤولين عنها تفهموا الوضع وعبروا عن تعاطفهم معها. معاناة سناء هي ذاتها معاناة الكثير من ضحايا الأخطاء الطبية بالمغرب وذويهم، فأمام الفراغ القانوني وضعف التشريعات المؤطرة لهذا المجال، يظل القضاء هو الملاذ الوحيد، بالنسبة إلى الضحايا، إلا أنهم يصطدمون بواقع مر، إذ حسب محمد حمضي، رئيس الجمعية المغربية لضحايا الأخطاء الطبية، أن هذه الفئة من المغاربة في معاناة حقيقية أمام مختلف المحاكم. وأوضح حمضي أن الضحايا يواجهون مشاكل أمام رغبتهم في الحصول على نسخ من الملفات والتقارير الطبية، مشيرا إلى يصطدمون برفض المؤسسات الصحية مدهم بمعلومات حول وضعيتهم الصحية، حتى لا يتسنى لهم إثبات الخطأ. ومن بين المشاكل أيضا، أن الكثير من الضحايا يجهلون كيفية اللجوء إلى القضاء، والمساطر المتبعة في ذلك، بسبب معلوماتهم المتواضعة في مجال القانون وعدم معرفتهم بالاجتهادات القضائية في مجال المسؤولية المدنية المهنية للأطباء، دون الحديث عن تواطؤ الأطباء في ما بينهم، عند الإحالة على الخبرة الطبية، إذ يرفض الطبيب إثبات التهمة على زميله. ومن جانبه، أكد عمر لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، أن غالبية المتوفين في المستشفيات العمومية والمصحات نتيجة أخطاء طبية، لا يتقدم ذووهم بشكايات في الموضوع، لاعتبارات كثيرة منها الإيمان بالقضاء والقدر، أو صعوبة التوفر على الدلائل أو غياب المعطيات وسريتها بالمستشفيات والمصحات تحت ذريعة السر .وأوضح لطفي أنه حتى إذا اختاروا التوجه إلى القضاء، ففي كثير من الأحيان يتيهون بين إدارات المصحات والمستشفيات ووزارة الصحة وردهات المحاكم، ومكاتب المحاماة، دون أن يثبتوا أنهم ضحايا لأخطاء طبية أو إهمال طبي "ثم أن ضعف الوعي كذلك وعدم معرفتهم بحقوقهم في التقاضي عند تعرضهم أو تعرض أحد أقاربهم لخطأ طبي يحول دون تحقيق الأمر"، على حد تعبيره.كما أن الإشكالية التي تواجه الكثير من الضحايا، هي عندما تكون مصحة أو مستشفى عمومي مسؤولين عن الضرر، إذ في هذه الحالة يجد المريض صعوبات جمة في الحصول على حقوقه، كما أن اللجوء إلى القضاء ليس بالأمر الهين فعدة قضايا ما زالت تراوح مكانها في المحاكم. قوانين لم تر النور ارتفاع الحديث عن الأخطاء الطبية، وتزايدها بوتيرة سريعة في السنوات الأخيرة ليس نتيجة وعي المواطن وظهوره عدة حالات في وسائل الإعلام الوطنية، بعد أن كان من المواضيع المسكوت عنها، بل إن الأمر يرجع، حسب لطفي إلى التردي الخطير الذي تعرفه المنظومة الصحية ببلادنا من خصاص مهول في الموارد البشرية والتجهيزات الطبية الملائمة والأدوية، أثر سلبا على جودة الخدمات الصحية وسلامة المرضى وأمنهم الصحي والعلاجي.وأوضح أن دستور 2011 نص في فصله 20 على حماية حق الحياة، وفي فصله 22 شدد على ضرورة عدم المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص وفي أي ظرف، ومن قبل أي جهة خاصة كانت، لكن القوانين والمراسيم التطبيقية التي تحمي وتضمن هذه الحقوق في مختلف المجالات ما زالت بشكل عام، على حد تعبير لطفي، لم تر النور، ومنها غياب قانون خاص بالأخطاء الطبية وأخلاقيات مهنة الطب وقوانين مهنة التمريض وأخلاقياتها، ووضع برتوكولات للعلاج معترف بنجاعتها دوليا وضرورة احترام الشروط والمعايير الدولية في الترخيص للمصحات بالقطاع الخاص ومراقبتها وفرض الانخراط في التأمين وتشغيل الكفاءات الطبية والتمريضية الكافية.

ضحايا الأخطاء الطبية… المصير المجهول

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الدرك يحبط تهريب مليارين

وفد أمريكي بالعيون عشية تقديم تقرير روس

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات