الملحوني يستعيد السيرة الفنية لفارس من ذاكرة المجموعات الغنائية صدر حديثا للباحث والإعلامي أنس الملحوني كتاب بعنوان "احميدة الباهري.. رحلة نغم.. فارس من ذاكرة الأغنية الغيوانية"، تناول فيه السيرة الفنية للفنان أحمد الباهري الشهير ب"احميدة"، والذي ارتبط اسمه بالعديد من التجارب الغنائية بدءا ب "طيور الغربة" و"لمشاهب" و"لجواد" و"بنات الغيوان" و"جيل جيلالة" وغيرها من التجارب الجماعية أو الفردية، التي أظهر فيها هذا الفنان مواهب استثنائية، لم تشفع له في أن يتمتع بالإنصاف الذي يليق به. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" محطات من هذا الكتاب الذي يشكل خطوة في اتجاه توثيق الذاكرة الفنية المغربية ورموزها. إعداد: عزيز المجدوب عرض الباحث أنس الملحوني شخصية احميدة الباهري باعتبارها شخصية فنية لها تأثير كبير على الموسيقى المغربية في ارتباطها بمخرجات الموسيقى الغيوانية على وجه التحديد، إذ رغم أن الباهري كان يُظهر شخصية انطوائية وقليلة الكلام، إلا أن الملحوني استطاع أن يكتشف فيه طاقة فنية هائلة، ومهارات موسيقية فريدة، جعلته شخصية بارزة في تطور سيرورة الإبداعات الفنية "الغيوانية". قدم الملحوني الباهري، من خلال الكتاب، مرجعا أساسيا للحديث عن المجموعات الغنائية "الغيوانية" الهوى التي انطلقت مع "الغيوان" و"جيلالة" وما تلتهما من مجموعات، أو المجموعات التي ساهم في تأسيسها أو أشرف عليها وكانت من بنات أفكاره مثل: "طيور الغربة"، و"لمشاهب"، و"لَجوادْ"، و"بنات الغيوان"، و"جِيل جَانا"، وغيرها. من دار الشباب إلى "طيور الغربة" تحدث احميدة الباهري في الكتاب عن جوانب من طفولته، ونشأته بين مراكش، التي ولد فيها سنة 1956، والدار البيضاء، قبل العودة إلى المدينة الحمراء خلال نهاية دراسته الابتدائية، والتحاقه بالصف الإعدادي، قبل أن ينجرف إلى أجواء دار الشباب الحي المحمدي بالداوديات بمراكش، حيث "تفتحت أمامي أبواب الفن بكل تنوعه وروعته، وذلك من خلال العروض الموسيقية والمسرحية والتشكيلية التي كانت تقدمها الدار بكل تفاصيلها" يقول احميدة. ويضيف "شعرت حينها بتفاعل داخلي لم يكن له مثيل، كأنما استشعرت في دواخلي بذور فنية جديدة، تزدهر كلما تعمقت في متعة الغناء، ومعرفة روح الأنماط الموسيقية المتنوعة التي أحاطت بي. كانت هذه الزيارات إلى ملاذي الجديد، سواء كنت وحدي أو رفقة أخي الأكبر محمد، تجارب لا تنسى، حيث الفن ينبض بكل تفاصيله وألوانه". خلال مطلع السبعينات وبعد أن سطع نجم الظاهرة الغيوانية، بظهور المجموعة الأم "ناس الغيوان" ثم "جيل جيلالة"، كان احميدة الباهري وشقيقه محمد قد تشبعا بمهارات شعرية وموسيقية وغنائية، دفعهما الإلهام والتأثر بالتجارب الموسيقية الجديدة للمجموعات الغنائية، إلى تجميع قدراتهما وتجاربهما في مجموعة أطلقا عليها اسم "طيور الغربة" سنة 1972 بتوجيه من زميلهما الفنان محمد البوكيل الذي كان ضمن التشكيلة للمجموعة التي ضمت كلا من عبد الرحمن أبو بلال ومحمد أوشن والفنان جموع. بعد فترة قصيرة طرأ تغيير على مجموعة "طيور الغربة" وتفرقت السبل ببعض أعضائها، لتلتحق عناصر أخرى منها سعيدة بيروك وعبد الحق الصقلي والفنان رحال، ليحضروا عملين من تأليف محمد البوكيل بعنوان "ليام تنادي" و"السانية"، لكن لم يكتب لهما أن ينتشرا بالشكل الكافي بعد أن نشب خلاف بين أعضاء المجموعة حول طريقة التسجيل والمقترح الهزيل الذي قدمه لهم صاحب شركة إنتاج بالدار البيضاء. تجربة "لمشاهب" ومخاض التأسيس كان الفنان احميدة الباهري من الأسماء الفنية، رفقة شقيقه محمد، التي ساهمت في تأسيس مجموعة "لمشاهب" بعد أن تعرفا على الراحل محمد البختي الذي أتاح لهما اللقاء مع الراحل الشريف لمراني لتظهر المجموعة سنة 1973 في تشكيلتها الأولى وهي تضمهما ولمراني والزجال محمد بولمان، ثم سعيدة بيروك التي تم استقدامها من مراكش وكان البختي مشرفا إداريا. ظهر الشريط الأول للمجموعة الذي تم تسجيله تحت إشراف فريق تقني تابع لشركة التسجيل العالمية "باركلي"، بين أروقة "مكتبة فرنسا"، وهو يضم أولى أغنيات المجموعات وهي أغنيتي "هوى هوين" من كلمات وألحان احميدة الباهري الذي لحن أيضا الأغنية الثانية التي تحمل عنوان "شوف ليك من غير الكاس" وهي من كلمات الزجال محمد بولمان. وسافرت التشكيلة الأولى ل"لمشاهب" خلال السنة نفسها في جولة فنية إلى الجزائر رفقة الفنان عبد الهادي بلخياط، مع تغيير بسيط إذ عوض مولاي عبد العزيز الطاهري الشريف لمراني الذي تعذر عليه السفر لأسباب مهنية، وكان الطاهري حينها للتو قد انفصل عن مجموعة "ناس الغيوان"، كما شاركت المجموعة خلال السنة الموالية في جولة فنية بعدد من الدول الأوروبية. لكن مقام الأخوين الباهري لم يطل في مجموعة "لمشاهب" بعد أن نشب خلاف بين الأفراد الآخرين والشقيق الأكبر محمد، فاضطر احميدة إلى الانسحاب من المجموعة بعد أن كانوا بصدد وضع اللمسات الأخيرة على الألبوم الثاني الذي شارك فيه محمد باطما، وكان يضم أغاني شارك احميدة في تلحين بعضها كما هو الشأن بالنسبة لأغنية "الخيالة" التي كتبها محمد بولمان، وشارك في تلحين أغنيات "طل بعينيك" و"الويد" و"أمانة" و"أحبابي وأهلي". "لجواد" وسكينة الصفدي لم يكن قرار الرحيل عن مجموعة "لمشاهب" سهلا بالنسبة للأخوين الباهري، ولعله جرح لم يندمل ليومنا هذا، ليقررا تأسيس تجربة غنائية جديدة بمباركة الراحل بوجميع، أشهرا قليلة قبيل وفاته، إذ اقترح عليهما "لجواد" اسما للمجموعة الجديدة لتظهر مطلع 1975، وهي تضم في عضويتها أيضا الفنانة حليمة حجاجي والراحل محمد اللوز. وشقت "لجواد" طريقها وسط بحر المجموعات الغنائية المتلاطم، فالتحقت بها عناصر جديدة، بعد أن تفرقت السبل بعناصر أخرى، وصدر ألبومها الأول سنة 1976 على شكل "كاسيت" بمشاركة كورال جوق الدار البيضاء تحت قيادة الراحل إبراهيم العلمي، قبل أن تلتحق بهم الفنانة الراحلة سكينة الصفدي، سنة واحدة بعد ذلك، قادمة من مجموعة "جيل جيلالة". أضفى حضور الصفدي بعدا خاصا على تجربة "لجواد" خاصة أنها كانت صوتا نسائيا متميزا ورائدا في تجربة المجموعات الغنائية، فأفرزت التجربة التي عمرت أكثر من سبع سنوات، مجموعة من الألبومات والأغاني التي سيصير لها صيت كبير منها أغنية "دعاوي لبلا" و"طالت الغيبة" و"مسلوبة" و"يا عجبا يا راسي" و"الدار المهجورة" وغيرها، إلى أن شعر احميدة الباهري أن التجربة قد استنفدت أغراضها إبداعيا فحدث التوقف. "بنات الغيوان" تأنيث ظاهرة المجموعات يقول احميدة في الكتاب، عن ظروف وملابسات ميلاد تجربة "بنات الغيوان": "منذ أيام الدراسة لم تفارقني فكرة تأسيس فكرة غنائية نسائية، (...) تأملت طويلا فكرة إضافة لمسة نسائية لمجموعة غيوانية، (...) في نهاية المطاف ترددت بين اسم "بنات المغرب" أو "بنات اليوم" لكن علاقتي المتينة مع الفنان العربي باطما أثرت في اتخاذ القرار النهائي عندما اعتمدت تسمية "بنات الغيوان". ظهرت التشكيلة الأولى للمجموعة موزعة بين فريقين الأول يضم أربعة عازفين بينهم احميدة الباهري نفسه على آلة البانجو، وكل من شقيقه محمد وعبد الإله هلال ومصطفى مهاجر على الآلات الإيقاعية، أما المجموعة الصوتية الأولى فتشكلت من مليكة ذو اليزل والتوأم خديجة وسعيدة طاحون ولطيفة فائق. صدر الألبوم الأول لمجموعة "بنات الغيوان" سنة 1984 وضم أغاني من ريبرتوار "ناس الغيوان" حظي بتجاوب كبير واستحسان لافت من قبل الجمهور منذ لحظة ظهوره الأول، لتتواصل التجربة جامعة بين التقليد والإبداع، إذ كان الراحل العربي باطما يمدها بنصوصه مثل "غير ارجع" و"شوفت اللي يبغيني" كما تكلف احميدة بالتأليف والتلحين والانفتاح على زجالين آخرين مثل الراحل عبد الرحمن العلمي، لتفرز التجربة في مسارها المتقطع حوالي عشرين ألبوما. تجربة الأوركسترا وجيل جيلالة بعد توقف اضطراري ومؤقت لتجربة "بنات الغيوان"، خاض احميدة الباهري تجربة فردية، ابتداء من 1993، تحت اسم "أوركسترا احميدة" اكتسح بها سوق الأشرطة، وجرب فيها أسلوبا فنيا مختلفا ومجموعة من الأفكار الموسيقية المبتكرة، اختبر فيها مهاراته في كتابة نصوص غنائية شعبية راقصة، كما استعاد مجموعة من الأغاني التراثية بتوزيع جديد. وخاض الباهري تجربة أخرى مع مجموعة "جيل جيلالة"، نهاية التسعينات، بعد انسحاب محمد الدرهم، استمرت لأزيد من سنتين ونصف أثمرت ألبوما ضم مجموعة من الأغاني منها "ياللي غادي وتكدم" و"رخفي يا دنيا" و"نور الفرج" و"فين حنا". كما حضرت بصمة احميدة في ألحان الألبوم الأخير الذي سجله الراحل العربي باطما مع "ناس الغيوان"، من خلال أغنيات "إفريقيا" و"كيف اعمالي وحيلتي" و"نكول كلامي وغادي فحالي" وغيرها.ظل أحمد الباهري، حسب المؤلف أنس الملحوني، فنانا موسيقيًا شاملًا، إذ أظهر موهبة استثنائية في تأليف الموسيقى وعزف مجموعة متنوعة من الآلات مثل البانجو، والعود، والمندولين، والبزق، مما أضفى غنىً وعمقًا على أعماله بمعية الكثير من الفرق الغيوانية مثل: "لمشاهب"، و"لجواد"، و"ابنات الغيوان"، و"أهل الحال" ساهم هذا التنوع على مستوى الأداء في توسيع قاعدة جمهورهم، مما جعل الموسيقى الغيوانية تتميز عن غيرها. ولم يقتصر إسهام الباهري على الفرق الموسيقية فحسب، بل اتجه أيضًا لتلحين الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام المغربية والبرامج التلفزيونية. لم يكن هذا العمل مجرد وسيلة لتعزيز تأثير الموسيقى الغيوانية، بل أسهم أيضًا في تسليط الضوء على التراث الموسيقي المغربي عبر وسائل الإعلام الحديثة، مما زاد من وجوده في الساحة الفنية على المستويين الوطني والدولي خصوصا عندما فازت بعض الوصلات الإشهارية التي أشرف عليها نصوصا وألحانا رفقة الفنان عبد القادر مطاع، على الجائزة الأولى سنة 1984 بمهرجان كان الدولي للإشهار بفرنسا. كما تجسد دور الباهري في أنه قائد مبدع وملهم في عدة مشاريع فنية، بفضل رؤيته الفنية الثاقبة، إذ استطاع توجيه الفرق الغنائية، التي أسسها أو التحق بها، نحو تحقيق نجاحات فنية ملحوظة، سواء من حيث الأداء أو تأليف وتلحين الأغاني، مما عزز من مكانة الموسيقى الغيوانية داخل المغرب وخارجه.