المدرسة العليا للصحافة والاتصال استضافت المحلل السياسي والاقتصادي في ندوة علمية "الديمقراطية في صناعة القرار وتفعيله، تقتضي الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف الأخرى، وإن كانت أقلية، فالحصول على الإجماع يقتضي بذل جهد كبير والتوافق على حد معقول من المصلحة العامة والخاصة للدول الأعضاء، وهنا تكمن صعوبة التوافق على حصول إجماع يرضي جميع الأطراف، وتجاوز مبدأ السيادة، باعتباره الهاجس الأكبر الذي تعانيه المنظمات الدولية". كان هذا مقتطف من مداخلة، دومنيك بوكيه، المحلل الاقتصادي والسياسي، في الندوة العلمية التي احتضنها المعهد العالي للصحافة والاتصال، الخميس الماضي، على هامش الملتقى الدولي لمنتدى باريس، اللقاء استضاف لمقاربة موضوع الحكامة الدولية، التحدي الأكبر في ظل تشبث الدول بمبدأ السيادة.وركز دومنيك في مداخلته على كيفية اتخاذ القرار على المستوى الدولي، مؤكدا استحالة الاستفراد باتخاذ القرار في الوقت الراهن، نظرا للانفتاح الذي تشهده الأسواق الدولية، والانتقال الحر لرؤوس الأموال، إضافة إلى مجموعة القضايا ذات الاهتمام المشترك كالأوبئة والتغيرات المناخية و غيرها، الأمر الذي يفرض تعزيز التعاون المتعدد الأطراف لكسب التحديات المستقبلية.وانطلق دومنيك من تجربته الشخصية سواء داخل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، أو من خلال التجربة التي راكمها من موقعه الديبلوماسي بالسفارة الفرنسية بالمغرب، لتوضيح كيفية تدبير الاختلاف، في ظل تضارب مصالح الدول الأعضاء داخل المنظمات الدولية المتعددة الأطراف، إذ يظل توفير المناخ الديمقراطي، وإخضاع القرار لتحليل علمي دقيق، سر النجاح في تفعيل القرارات الإيجابية.قبل أن ينتقل للحديث عن الشروط العلمية لاتخاذ القرار على المستوى الدولي، وما يتطلبه ذلك من مقومات كالاعتماد على خبراء متخصصين، وتمكينهم من كل الإمكانيات الضرورية لإعداد تقارير علمية دقيقة، وعرض هذه الأخيرة على الجهات المعنية للتوافق على كيفية تفعيل خلاصاتها وتوصياتها لتصبح قرارات نافذة، موضحا أن ذلك لا يتحقق إلا بتوافر لجان تنفيذية قادرة على تفعيلها.وفي معرض حديثه عن السياق التاريخي لتشكل هذه المنظمات، تطرق دومنيك لمجموعة من الأحداث التي واكبت مسار هذه المنظمات منذ بدايتها، كتوجس القوى التقليدية من فكرة إنشاء كل من منظمة التعاون و التنمية الاقتصادية سنة 1960، وكذا تشكيل الاتحاد الأوربي، قبل أن ينتقل للحديث عن مسار مجموعة من الهيآت الدولية الأخرى كالمنظمة العالمية للتجارة ومجلس الأمن الدولي وهيأة الأمم المتحدة واتفاق مراكش المتعلق بالتجارة والتعريفة الجمركية الموحدة والبنك الدولي، وغيرها من المؤسسات،مستعرضا العراقيل التي تعتري تنفيذ مقرراتها.وانتقد دومنيك في هذا السياق قواعد اللعبة التي ميزت بعض السياسات والتوجهات التي تبنتها سواء الدول أو بعض المنظمات والتي لازالت متواصلة إلى اليوم، كالحرب التجارية التي ميزت نهاية عقد الأربعينات، إذ تم نهج سياسة الاستيراد لحماية الإنتاج الوطني، وإقصاء مجموعة من الدول من الانضمام لبعض الهيآت الدولية، إضافة إلى قرار تمتيع خمس دول بصفة العضوية الدائمة، ومنحها حق الفيتو الذي يخدم حماية مصالحها، أكثر بكثير مما يخدم السلام والأمن الدوليين. وأضاف أن هذه القوى التقليدية داخل مجلس الأمن، تتضارب المصالح في ما بينها، إلى حد يمكن معه وصف هذا الجهاز بأنه فاقد للمشروعية، سواء تعلق الأمر بإقصاء قوى كبرى من اتخاذ القرار الدولي، أو تعلق الأمر باتخاذ قرارات ضدا على الضوابط التي حددها، وخير مثال على ذلك قرار الحرب على العراق بداية التسعينات.وفي اتجاه آخر، أشاد دومنيك بقواعد الديمقراطية التي تتبناها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، التي تجعل من الإجماع وقدرة الأغلبية المؤهلة على اتخاذ القرار ركيزة في تنفيذ سياساتها، بالاعتماد على مبدأ تقدير تأثير القرارات الاقتصادية الكبرى على الآخر، وقبول حق النقد، أو من خلال توحيد الرؤى والتوجهات في جملة من القضايا الاقتصادية.وفي حديثه عن المنافسة الضريبية نبه إلى ضرورة التمييز بين نوعين هذه الأخيرة، المنافسة الضريبية العادية والتي تحترم مصالح الآخر، والمنافسة الضريبية التي تلحق ضررا بالآخر سواء تعلق الأمر بالمؤسسات الاقتصادية، أو بالدول. وأردف أن العديد من المؤسسات الاقتصادية العملاقة اليوم، تعمد إلى البحث قدر الإمكان عن فرص استثمار أقل تكلفة، الأمر الذي يخلق نوعا من اللامساواة، بغض النظر عن أهداف الدول المحفزة ضريبيا لهذا النوع من الاستثمار، باعتبارها "جنات ضريبية".وذكر دومنيك كوبيه، بالمجهود الذي بذل من قبل منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي تضم أزيد من 30 دولة، لإقناع سويسرا واللوكسمبورغ بضرورة توفير المعلومة بخصوص الوضعية المالية لبعض المؤسسات الأوربية، فعلى الرغم من تشبث هذه الدول بحقها في الحفاظ على سرية الوضعية المالية لزبنائها، في إطار السيادة، إلا أنها استجابت لمطالب المنظمة بعد عقد من المفاوضات.وشدد دومنيك في ختام مداخلته، على الدور المهم الذي لعبته العولمة وتلعبه وسائل الإعلام و فعاليات المجتمع المدني، وكذا المنظمات الدولية غير الحكومية في صناعة القرار على المستوى الدولي في العقود الأخيرة، باعتبارها قوة اقتراحية جديدة، إذ أكد أنه رغم رفض وتشكيك بعض الدول في صحة ومصداقية وخلفيات تقاريرها "إلا أننا نلاحظ أن هذه الدول نفسها تتبنى مجموعة من توصيات هذه المنظمات في اتخاذ القرار".زكرياء الدويبي (صحافي متدرب)
