” أعلام ورايات المغرب”… تاريخنا

الباحث نبيل ملين يستعيد التاريخ الرمزي للمملكة صدر حديثا للباحث محمد نبيل ملين كتاب «أعلام ورايات المغرب»، عن منشورات «سوشبريس»، ضمن طبعتين، الأولى باللغة الفرنسية، والثانية باللغة العربية ترجمها عبد الحق الزموري. في هذا الكتاب لم يتعامل الباحث الشاب مع العلم باعتباره فقط مجرد قطعة قماش، بل باعتباره وثيقة تفتح آفاقا معرفية واسعة، تعقبها ملين في مختلف مراحل تشكل الشخصية المغربية عبر تاريخها الممتد. في هذا الخاص تنقلكم «الصباح» إلى أجواء هذا الكتاب. إعداد: عزيز المجدوب حاول الباحث محمد نبيل ملين تعقب "الأصول البعيدة" لفكرة العلم والراية في تاريخ البشرية، رغم ما يكتنف العملية من صعوبات، تتمثل في ضبابية وشح المعطيات بشأن هذا الموضوع، لكن ما هو مؤكد بالنسبة إليه أن الاستعمالات الأولى للأعلام كانت لصيقة بتطور فنون الحرب. كما توقف ملين عند الدلالة الأنثربولوجية لاختيار ألوان بعينها ورموز طوطمية أو أشكال كونية وزخارف خطية محددة يوحي بأنها طلاسم أو تمائم كفيلة بحماية المقاتلين ومدهم بالقوة وإلقاء الذعر في قلوب العدو، قبل أن تتطور استعمالات الأعلام في سياقات تاريخية معقدة، لتتحول إلى رمز لقوة الجماعة وتماسكها، إذ غدا الاستيلاء عليها، لا يعني فقط إذلال العدو، بل أيضا تملك قوته الخارقة وروحه المعنوية. وفي سياق تعقب الغوص في "الأزمنة المظلمة" للتاريخ القديم للمغرب، يشير ملين إلى أن المعلومات المتوفرة عن المغرب ما قبل المرابطين قليلة ومتناثرة، وأنه لا شك أن مختلف القوى السياسية التي حكمت مناطق عديدة من المغرب الحالي منذ القرن الثالث ما قبل الميلاد، من الموريين إلى اليفرنيين مرورا ببورغواطة والصالحيين والمدراريين والأدارسة وبني عافية، قد اتخذت لنفسها أعلاما ورايات ذات أشكال وألوان متنوعة. وهنا يورد المؤلف إشارات تاريخية ترجع إلى مرحلة الغزو/ الفتح الأموي، في بداية القرن الثامن الميلادي، جعلته يفترض أن الجماعات التي ظهرت في تلك الفترة، قد اتجهت إلى استعمال ثلاثة ألوان وهي الأبيض والأحمر والأسود، ووحدها النقوش والزخارف والتعابير هي التي كانت تفرق بينها. ومن الإشارات التاريخية التي يوردها ملين أن موسى بن أبي العافية (توفي سنة 938 م)، الذي كان أحد الرجال الأقوياء في شمال المغرب، تلقى من الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، بصفته تابعا له، أربعة أعلام كان الأول والثاني متعددي الألوان، لكن أحدهما كان يحمل صورة عقاب بينما كان على الثاني صورة أسد، أما الثالث وهو الأكبر حجما فقد كان أبيض اللون تتخلل جوانبه الثلاثة كتابة مذهبة، والرابع أحمر على جوانبه كتابة ومزين بسيفين وهلالين. ويقول المؤلف إن المغرب عرف منتصف القرن 11 الميلادي تحولا تاريخيا حاسما بميلاد الإمبراطورية المرابطية (1040 ـ 1147) باعتبارها أول محاولة محلية لاحتكار السلطتين السياسية والدينية على نطاق واسع. وكانت أول إشارة للعلم المرابطي خلال حملة قادها الزعيم عبد الله بن ياسين ضد منطقة درعة بين 1050 و1054. ولإضفاء الشرعية على مشروعهم وتدعيم مكانتهم، يقول ملين، اعترف المرابطون بالسلطة الاسمية للعباسيين، كما أن العلاقات الرمزية مع بغداد توطدت في عهد يوسف بن تاشفين، إذ بعد السيطرة على أراض شاسعة واتخاذ مراكش عاصمة لهم، حرص المرابطون على الحصول على كتاب تولية رسمي من الخلفاء. وكان من نتائج الاعتراف الرسمي تمكن الأمراء المرابطين من ارتداء الملابس السوداء واتخاذ أعلام من اللون نفسه في المناسبات العامة. ولإبراز شارة الملك كان المرابطون يحيطونها برايات وألوية وبنود من مختلف الألوان سيما البيضاء والحمراء والمنمرة، وقد كان بعضها مزينا بالصور والزخارف والبعض الآخر ممهورا بصيغة التوحيد وعدد من الآيات القرآنية. استمرار الرموز رغم التخبط الذي بدأت به الدولة المرينية (1244 ـ 1465 ميلادية) في المجال الرمزي، إلا أنه سرعان ما تبنى حكامها شيئا فشيئا المنظومة الموحدية، وإن غيروا بعض قواعدها، مثل التحالف مع المؤسسة المالكية وتشجيع التصوف والمراهنة على النزعة الشريفية، فلم يكن مفاجئا الإبقاء على عدد من شعارات المنظومة السابقة. وظل العلم المشهور بالمنصور، يتقدم دائما مواكب السلاطين، خاصة زمن أبي الحسن وابنه أبي عنان اللذين حملا الطموحات الإمبراطورية المرينية إلى ذروتها. ويتوقف المؤلف هنا عند الاستخدام المريني للعلم والرموز، مشيرا إلى أن السلطان أبي الحسن يمتلك ما لا يقل عن مائة شارة، لم يتوفر أسلافه وأخلافه إلا على عشر أو عشرين منها، وتظهر النماذج المتوفرة من هذه الشارات الموجودة في متحف كنيسة طليطلة، بعد الاستيلاء عليها في معركة "طريفة"، أن تلك الأدوات السياسية صنعت باحترام تام للمعايير الفنية المتعارف عليها منذ زمن. رمزية النجمة الخماسية تحضر النجوم في التاريخ الفني والسياسي للمغرب منذ أقدم العصور، أي منذ العصر الموري حتى بداية القرن العشرين، مرورا بكل الفترات الإسلامية. تعددت فيها استعمالات المغاربة وحكامهم بين ثلاثة أنواع من النجوم: الخماسية والسداسية والثمانية. وهذه النجوم نجدها في الزليج والجبس والخشب والمسكوكات والنسيج والمخطوطات وغيرها. وتتمتع هذه النجوم برمزية خاصة مقتبسة من القرآن فمثلا "الكوكب الدري" له وظيفة إرشاد المسافرين في البر والبحر، خاصة ليلا، كما له وظيفة رمزية هي إرشاد الناس إلى الصراط المستقيم بما أنه يعكس النور الإلهي. من ناحية أخرى، كانت هذه النجوم تستعمل بكثافة في مجال السحر وتنسب إلى النبي. لهذا نطلق عليها النجوم السليمانية حتى الآن بدون تمييز. واستعمال النجوم في حياة المغاربة كان شيئا مألوفا خصوصا النجمة الخماسية، التي نجدها مثلا على قطع نقدية معروفة باسم الموزونات، وقد ضربت قبل الحماية من قبل السلطان عبد الحفيظ. كل هاته المعطيات استثمرها الفرنسيون وأعادوا تدويرها خلال لحظة ترسيم العلم الرسمي للدولة المغربية ومنذ سنة 1915 أصبح للمغرب علمان: علم خاص بالدولة، الذي هو الأحمر تتوسطه نجمة خضراء، وعلم خاص بالأسرة الحاكمة، وهو الأخضر الذي تتوسطه نجمة خضراء مذهبة. "العلم المنصور" عنوان الموحدين تبنى الموحدون خلال ظهورهم، جميع سمات الخلافة من ألقاب وشارات وطقوس وخطابات، منها اتخاذهم علما أبيض ضخما أطلقوا عليه تسمية العلم المنصور، وفرضت هذه الأداة نفسها بسرعة باعتبارها أحد العناصر الأساسية للطقوس السياسية/ الدينية التي تضبط إيقاع الفضاء السياسي الموحدي مثل احتفالات النصر واستقبال الأعيان والتعيينات ومواكب الدخول والخروج من القصور الملكية وتدشين المعالم. كانت تلك الشارة، الموشاة على وجهيها بالشهادة وآيات القرآن وأدعية واسم المهدي أو فقط بالشهادة متبوعة بعبارة "لا غالب إلا الله" لا تتقدم دائما موكب الخليفة، ثم يأتي خلف العاهل وحاشيته أعيان النظام الحاملون لستة عشر علما مختلفة الألوان والأشكال. كان العلم المنصور يقوم بمهام واضحة سيما تمييز مركز السلطة الحقيقي وإبراز طموحات النظام العقدية والسياسية، وسعى إلى إثارة مشاعر الرعية الإيجابية بما يمثله من قوة جذب وتوحيد لمختلف مكونات الأمة وحول القيادة التي توجه الكل نحو الفلاح الدنيوي والنجاة في الآخرة. لم يترك الموحدون شيئا للصدفة فقد حشدوا كل الموارد الخطابية والفنية المحكوم بشرعيتها، من وجهة نظر دينية، لإظهار طموحاتهم الروحية والدنيوية أمام أكبر عدد من الناس، وهو ما يسلط ضوءا جديدا، حسب المؤلف، على الآلة الدعائية الموحدية التي كانت توظف كل ما تجده بين يديها لشرعنة المشروع المجتمعي الذي كان يحمله التحالف الحاكم. العلم العلوي بعد وفاة مؤسس المخزن أحمد المنصور الذهبي سنة 1603، عمت المغرب فوضى عارمة، سيما بسبب تناحر أبنائه على السلطة. وبقيت البلاد مقسمة ومضطربة إلى أن تم توحيدها من جديد على يد السلطان العلوي الرشيد بين 1660 و1670 ميلادية. وخلال مرحلة الفوضى تلك تلاشت مجموعة من التقاليد المخزنية، سيما "العلم المنصور"، حيث اتخذ العلويون علما أخضر يُنسب إلى البيت النبوي أو الخضر محاكاة للعديد من الطرق الصوفية التي تبنته بين القرنين 16 و17. أراد سلاطين هذا البيت أن يحتكروا هذا اللون، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك بسبب عوامل عديدة مما أجبرهم على اقتباس علم قراصنة الرباط الأحمر. وقد استعمل العلويون هذه الأداة راية بحرية في أول الأمر قبل أن يكرسوها علما سلطانيا. بين القرنين 17 و19 صار لملوك المغرب علمان رسميان: أحمر يدل على سلطتهم السياسية، وأخضر يعكس سيادتهم الدينية، وهذا أمر فريد. لكن بفعل الاحتكاك بالأوربيين في القرن 19، حين بدأ مفهوم الدولة القومية يظهر، اضطر القائمون على المخزن إلى أن يتبنوا العلم الأحمر كعلم خاص بالدولة ابتداء من عهد الحسن الأول، وسيصبح معروفا عند الأوربيين ومنتشرا في جميع مناطق الإيالة الشريفة. فكرة العلم لدى النخبة الوطنية يعتبر علي زنيبر، ضمن المشروع الدستوري الذي قدمه للسلطان المولى عبد العزيز سنة 1906، أول إشارة واضحة وصريحة تتحدث عن العلم ليس فقط كشارة سلطانية أو دولتية، بل شعار وطني يجب على المغاربة أن يلتفوا حوله كي يحافظوا على استقلال بلدهم وسلامة أراضيه. أمسى إذن العلم الأحمر علما دولتيا، ثمّ وطنيا بين بداية سبعينات القرن 19 و1915. وسيخضع المغرب لنظام الحماية الفرنسي الإسباني سنة 1912، وسيقوم ممثلو باريس بأمور عدة، لاسيما في المجال الرمزي، لإبراز انتقال مركز الثقل من طرف إلى آخر. وابتداء من 1913 أراد موظفو الجمارك تمييز علم البحرية المغربية، فوضعوا في ركن العلم الفرنسي راية حمراء مصغرة وداخلها نجمة خضراء خماسية. هذا التغيير سيثير غضب المغاربة والقائمين على المخزن لأنه لا يحترم روح معاهدة الحماية ولا نصها الذي يعتبر المغرب دولة ذات سيادة. بدأت المفاوضات بين الإقامة العامة ورجالات المخزن من أجل إيجاد اتفاق وتوفير أرضية ترضي جميع الأطراف، وقد استغرقت هذه المفاوضات سنتين، واتفق الطرفان على الاحتفاظ بالعلم الأحمر كشارة للدولة، مع إضافة نجمة خماسية خضراء.

” أعلام ورايات المغرب”… تاريخنا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

قنينة بنزين تسقط قاتلي حارس ضيعة

بن سلمان يمنع المساس بمغربية الصحراء

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات