سلـوك اجتماعـي غائـر

ظاهرة نفسية قديمة ومعقدة استفادت من "ميزة" الانتشار الواسع لوسائل التواصل التشهير هو أقصى أشكال الاغتيال المعنوي للآخرين وتشويه سمعتهم، أفرادا كانوا، أو مؤسسات، ويدرجه متخصصون في لائحة الأسلحة الأكثر فتكا بالإنسان في تاريخه المديد منذ آدم إلى اليوم، ولأن آثاره تستمر إلى ما بعد الموت البيولوجي. ويعتبر التشهير الابن غير الشرعي لمجتمع غير سوي، يبني "قيمه" المضادة على الإساءة للغير دون تحفظ، والوشاية والتلفيق والدعاية الكاذبة والضرب تحت الحزام، والطعن من الخلف في جنح الظلام، والرغبة المرضية في رؤية "الضحية" المستهدفة تتمرغ في وحل "الفضيحة". ومنذ الخليقة، كان التشهير والإساءة بالأخبار المزيفة في جميع المجتمعات دون استثناء، وبقي في حدود انتشار معينة لعدة أسباب، إلى أن فاض عن الحد في السنوات الأخيرة، باستغلال مريب لجميع قنوات التواصل الاجتماعي والطفرة التكنولوجية المرتبطة به لضمان أكبر قدر من الانتشار. وتنبهت بعض الحكومات الغربية لمخاطر التشهير فاعتبرته من الجرائم الإلكترونية، وسنت قوانين لمحاسبة فاعليها، دون أن يعطي ذلك أي مفعول لأنه لا يوجد، لحد الآن، تعريف قانوني وواضح ومحدد للظاهرة، وأيضا لأن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي ليست ذكية بالحد الكافي لتمييز منشورات التشهير، والأخرى التي تتضمن نقدا ضمن الحدود المقبولة. وفي هذا الإطار، يستخلص محمـد ديرانية، الكاتب والباحث والمتخصص في علم الاجتماع النفسي، بأن ظاهرة التشهير في جوهرها هي أزمة وعي وأخلاق، قائلا "رغم أن سلوك التشهير قديم ويعود سببه إلى جملة من العوامل المتداخلة، لكن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الأمر معقدا على نحو كبير، فساهمت بزيادة حجمه وشدته وأثره". ويقوم التشهير الإلكتروني، اليوم، على اغتيال معنوي لأشخاص محددين، بنشر منشورات، أو صور، أو تسجيلات صوتية سرية تهدف للكشف عن مساوئهم المخفية عن الناس حقيقة، أو تشوه سمعتهم ادعاء، بغية تأديبهم وعزلهم وإفقادهم احترامهم أمام الوسط الذي يلقون فيه تقديرا. ويفسر علم النفس التشهير، حسب دراسة للباحث نفسه، بأنه إحدى وسائل الإنسان في الدفاع عن وجوده ومصالحه، وهو لا يلجأ إليه إلا عندما يشعر بالعجز عن تغيير واقع خصومه ومنافسيه أو إلحاق الهزيمة الفعلية بهم. ويستشهد الباحث بعالم النفس الأسترالي ألفرد أدلر وصاحب المدرسة الثانية في التحليل النفسي، الذي يقول إن أحد تكتيكات النفس في استعادة توازنها هو تحقيق انتصارات معنوية تشعرها بالأفضلية وتعيد للشخص اتزانه النفسي والشعور بمكانته، ويمكن لذلك أن يتحقق عبر التشهير بالآخرين وتقزيمهم والحط من مكانتهم، سواء كانوا خصوما، أو منافسين، أو أشخاصا غرباء، ولأجل هذه المكافأة النفسية والشعور السهل بالتفوق الذي يمنحه التشهير يمكن القول بأن الجماهير أصبحت تنجذب بشكل أكبر إلى الفضائح بأنواعها المختلفة، وأصبح عدم المشاركة في أي موجة تشهير على منصات التواصل أمرًا تصعبُ مقاومته. أما على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، يضيف الباحث، يعتبر التشهير بمثابة استنجاد صريح بالجماهير، "فهو إعلان صريح عن عجز الفرد واستنفاده لقدرته في تحقيق العدالة من منظوره، وإخراج للقضية من الخصوص إلى العموم، إذ يعرض القضية على الرأي العام ومحكمة الجماهير، ويضع كلا من إرادة الجماهير ومبادئها وصبر الخصم تحت الاختبار، وبالتالي إما الضغط على الجماهير لاستخدام سلطتها وتطبيق العدالة، أو على الخصم للقيام بتصرفات معينة". يوسف الساكت شهادات الزجر واجب "إن الحق في حرية التعبير ليس حقا مطلقا يمكن استغلاله في غير ما وجد له أو للمس بحياة وحرية وكرامة وشرف الناس. هناك قيود وحدود يجب احترامها كما حماية سمعة الآخرين. ولهذا توجد قوانين تمنع السب والقذف والتشهير. لكن الكثير من الناس لا يحترمون القانون في هذا المجال ويطلقون العنان لألسنتهم وأقلامهم للمس بشرف الآخرين والتشهير بهم، ما يلاحظ كثيرا بمواقع التواصل الاجتماعي. ويأخذ التشهير وسائل وطرقا مختلفة ومتنوعة أكثرها شيوعا نشر الصور والتسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديو، التي قد تكون حقيقية أو مفبركة، بهدف الانتقام أو الإساءة إلى السمعة أو السخرية من الناس أو الابتزاز أو إقصاء أحد الخصوم والنيل من سمعته وكرامته. وهذا ما نلاحظه بالخصوص في السياسة المبتلية بمثل هذه الحالات من التشهير بسياسيين، من قبل خصومهم أو مجندين منهم. الأمر لا يقتصر على السياسة، بل امتد لقطاعات مختلفة وقد شاهدنا في الفترة الأخيرة فنانات مغربيات يعانين بشدة جراء اتهامهن بالتورط في إحداث حسابات وهمية تمارس التشهير على بعض الشخصيات العامة، منها فنانون ومؤثرون وغيرهم ممن فضحوا أو نشر غسيل حياتهم الخاصة دون أدنى احترام للخصوصيات، وما يفرضه القانون من احترام لحياة الناس وعدم المس بها. صراحة إن للتشهير آثارا سلبية على ضحاياه ومحيطهم أيضا، وصلت إلى حد اضطرار فئة منهم للعلاج النفسي بعد الإصابة بالاكتئاب ومنهم من حاول الانتحار أو انتحر فعلا، وهذا منحى خطير. وأمام كل هذا يجب الحرص على تنفيذ المساطر القانونية لعقاب كل من تسول له نفسه التشهير بالناس أو ابتزازهم، خاصة أمام التطور التكنولوجي الكاشف لستار التشهير وخباياه". سلمى زركان (مشرفة تربوية) تصفية حسابات "لا يخفى على أحد أن التشهير سلوك مخالف للأعراف المجتمعية ولكل القيم الدينية والإنسانية، ويتنافى مع السير العادي لتطور المجتمع قانونيا وأخلاقيا، وارتبط تحوله من نقل للكلام بين الأشخاص إلى سلاح لتصفية الحسابات عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. بعدما كان سلاحا للنقد ولمواجهة الخصوم، أصبح يتخذ طرقا مختلفة لعل أهمها نشر الصور الشخصية والتسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديو التي قد تكون حقيقية أو مزيفة ومفبركة. إن المساس بالحرية الشخصية وبالسمعة العائلية والمهنية للشخص قصد ترويضه أو إخضاعه للابتزاز والنصب الإلكتروني، يعد جريمة مكتملة الأركان ويجب عقاب من يتورط فيه مراعاة لما للتشهير من انعكاسات وخيمة يمكن حصرها في فقدان وظيفة معينة أو تفكك أسرة الشخص المشهر به أو حدوث اضطراب في شخصيته. وقد يصل الأمر أحيانا إلى انتحار الضحية كردة فعل ميكانيكية لما تعرضت له من إساءة في غياب شبه تام للحماية القانونية وللمواكبة الاجتماعية. في جميع الأحوال إن المس بالشرف وبسمعة الأشخاص، يعتبر جريمة تتطلب العقاب والردع الزجري بكل الوسائل المتاحة، بإعمال تعديلات قانونية دقيقة تراعي خصوصيات الأفراد وتواكب تطور علم البرمجيات، مع مشاركة المجتمع المدني في التحسيس الإعلامي بالمخاطر الأخلاقية لهذه الظاهرة وتبعاتها القانونية. لذا يتوجب فتح الطريق أمام المختصين للوصول إلى المتهمين في قضايا التشهير قصد تقديمهم للعدالة، وفي الوقت نفسه نخشى أن تتحول هذه التعديلات إلى أداة للهيمنة الشاملة ووسيلة لتكميم الأفواه". رضوان البقالي (مربي) استقاهما: حميد الأبيض (فاس) شباب متهور شهدت المدن الشمالية بالمملكة، في السنوات الأخيرة، ارتفاعا مخيفا في عدد قضايا الجريمة المعلوماتية والابتزاز عبر الإنترنت، التي تم تسجيلها ومتابعتها من قبل الأمن والقضاء، إذ أصبحنا نسمع، بين الفينة والأخرى، عن اعتقال أو تفكيك عصابة أو شبكة متخصصة في هذا المجال، غالبا ما يكون أبطالها شبابا متهورا، وضحاياها مواطنين عاديين أو مسؤولين ومنتخبين ورجال أعمال وغيرهم من المستثمرين... ورغم أن السلطات الأمنية المختصة والأجهزة الاستخباراتية تواصل تعقبها للصفحات "الفيسبوكية" المشبوهة، واعتقال القائمين عليها لتقديمهم أمام العدالة، وأن القانون الجنائي خصص فصولا لظاهرة "الابتزاز الجنسي عبر الإنترنت" وأشار في أكثر من مادة قانونية إلى هذه الجرائم، من قبيل الفصل رقم 447 الذي ينص على معاقبة المتورطين بالحبس من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات وغرامات مالية متفاوتة، لازلنا نلاحظ أن هذه الظاهرة الجديدة مستمرة وتستفحل بشكل مؤسف وخطير بين فئة من الشباب المغربي، الذين أصبحوا يتخذون من وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب وسيلة لتحقيق مكاسب مادية غير مشروعة عن طريق التهديد بالتشهير وفضح الضحايا، وهو ما يشكل مظهرا من مظاهر تحول منظومة القيم داخل المجتمع المغربي، بعد أن برزت قيم جديدة ترتبط بالثقافة الاستهلاكية والافتراضية ومجتمع العولمة، وتراجعت أدوار مختلف المؤسسات الاجتماعية، في مقدمتها الأسرة والمدرسة. عبد الله الزايدي (فاعل حقوقي) ظاهرة عالمية جامحة ظاهرة التشهير الإلكتروني لم تعد مقتصرة على مجتمع بعينه، بل أصبحت عالمية جامحة، وأضرارها تنعكس على فئات اجتماعية مختلفة بشكل مدمر لأبعد الحدود، بعد أن أضحى الإقبال على مشاهدتها ودعمها بالإعجاب والمشاركة. فالتشهير لا يمس الأفراد العاديين فقط، بل يستهدف المسؤولين والشخصيات العمومية ومؤسسات وشركات تجارية وغيرها، بل حتى الأموات في قبورهم لم يسلموا من التشهير والإساءة، ما أفقد مواقع التواصل الاجتماعي مصداقيتها والغاية الرئيسة التي وضعت من أجلها، بعد أن تحولت إلى فضاء للانتقام وتصفية الحسابات أو الإساءة إلى السمعة أو السخرية أو إقصاء أحد الخصوم كما يحدث غالبا في السياسة، أو ضرب سمعة إحدى الشركات المنافسة في السوق. ويعد التشهير الجنسي عبر نشر صور أو مقاطع الفيديو على الإنترنت، التي قد تكون حقيقية أو مفبركة، من أخطر أشكال الابتزاز على الإطلاق، لما يخلفه ذلك من آثار اجتماعية ونفسية وخيمة على الضحايا وأُسرهم، وتقود إلى الاكتئاب والانعزال عن الآخرين وعن الحياة اليومية بصفة عامة، وقد تدفع إلى الانتحار، خصوصا في صفوف المراهقين خوفا من مواجهة الفضيحة ونظرة المجتمع القاسية. وللحد من خطورة هذه الظواهر المسيئة بالمجتمع، أرى أن السبيل الأمثل ينحصر في نشر ثقافة الوعي بين أفراد المجتمع، والتوعية بحماية المعطيات الشخصية قدر الإمكان أثناء استعمال الإنترنت، وباتخاذ الإجراءات القانونية في حال التعرض للمساس بالسمعة وعدم الخضوع لأي نوع من أنواع الابتزاز. مصطفى خيرون (مهندس معماري) استقاهما: المختار الرمشي (طنجة) جرائم مقلقة في ظل تطور التكنلوجيا وتنامي استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت جريمة التشهير ظاهرة عالمية مقلقة جدا في عصرنا الحديث، ورغم اختلاف مفهوم التشهير حول العالم، إلا أن الكل يتفق بشأن انعكاساته الخطيرة على سمعة الأفراد وإلحاق الضرر بحياتهم الخاصة واعتبارهم الشخصي في المجتمع، وقد تتسبب هاته الظاهرة في نبذهم أو تجنّبهم أو رفضهم. ظاهرة عرفت بدورها احترافية في السنوات الأخيرة لاستغلالها من أجل تضليل الرأي العام أو التأثير على اختيارات المجتمع أو ثقته او سلوكاته نحو علامة تجارية أو مؤسسة ما، من خلال بث وتوزيع وقائع أو ادعاءات كاذبة، وهو ماتصدى له القانون الجنائي وقانون الصحافة والنشر، لكن بالمقابل يجب الانتباه إلى ضرورة التمييز بين التشهير والنقد الذي هو اختلاف موضوعي وأخلاقي يعتمد في سرده على أدلة وبراهين دون تجريح، أما التشهير فيستند على نشر أخبار زائفة تتسبب في إلحاق الضرر من أجل الوصول إلى مصلحة ما. وباعتبارنا هيأة حقوقية نؤكد ضرورة التصدي لجرائم التشهير وما يرتبط بها من قذف وسب بكل حزم، مع أهمية حماية حق الحرية في التعبير والنقد باعتباره حقا مشروعا لجميع الناس بأن ينتقدوا ما لا يعجبهم بأسلوب حضاري وألا نخلط بين الأمرين. يونس بوبكري (مقاول وناشط حقوقي) آفة خطيرة أضحت ظاهرة التشهير آفة خطيرة تضرب المجتمع المغربي، خاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وممكن برسالة صوتية عبر تطبيق "الوتساب" بث خبر غير صحيح عن شخصية معينة، وينتشر بسرعة، ويصبح حديث الخاص والعام، وقد يتحول إلى مادة إعلامية ينقلها المؤثرون وأصحاب قنوات "اليوتوب"، الذين ينشطون في ترويج الأخبار والمعلومات دون التأكد من مصدرها، ويتفننون في البحث عن الإثارة و"البوز"، بنشر تلك المعلومات السلبية، التي تشوه بصورة شخص معين وسمعته بدون دليل،ولا يفرق أصحاب الصفحات الفيسبوكية والقنوات بمنصة اليوتوب بين الحديث عن الخبر وتقديم معلومات أو معطيات والتشهير الذي أصبح عملة رائجة للبحث عن المشاهدات والنقرات و"البوز". أصبح الطلب على الأخبار الصادمة، والفيديوهات التي تحمل "سكوب" أو "انفراد" أو "حصري"، كثيرا، وكثرة المشاهدات والمبالغ المالية التي تدرها الفيديوهات، تدفع العديد من المؤثرين لنسج قصص وأحداث من الخيال، من أجل جلب المزيد من المعجبين. وأمام استفحال آفة التشهير لم يعد الحديث عن أخلاقيات الإعلام والقوانين والتشريعات القائمة مسموعا، لأن المتابعة الإخبارية تتطلب مهنية وتقديم معلومات وأخبار بكل حيادية، حتى بعض المواقع الإلكترونية وجدت نفسها تبحث عن التشهير وملفات من أجل رفع عدد المشاهدات، أمام صمود المؤسسات الإعلامية المحترفة والمهنية التي تضع في خطها التحريري احترام القارئ والمشاهد. نجاة أبوعلي (مقاولة ورئيسة جمعية شباب من أجل التنمية) استقاهما: عبد الجليل الشاهي (أكادير)

سلـوك اجتماعـي غائـر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المغرب يتسلح بصحافييه

لقطات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات