في ذكرى رحيل الشيخ الذي نقل فن الملحون إلى العالمية حلت يوم 7 دجنبر الجاري الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل الفنان وشيخ الملحون الحاج الحسين التولالي، الذي ودعنا ذات يوم حزين من شتاء 1998 عن سن ناهز الرابعة والسبعين. في هذا الخاص تستعيد معكم "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الذي كرس حياته لخدمة فن الملحون، وتقريبه من أوسع قاعدة جماهيرية، بفضل أسلوبه المميز في الأداء وانفتاحه على أشكال تعبيرية فنية مختلفة، فضلا عن توثيقه بصوته لأمهات القصائد الملحونية التي ستظل تراثا خالدا للأجيال. إعداد: عزيز المجدوب شاءت الصدف أن تتزامن ذكرى رحيل الفنان والشيخ الحاج الحسين التولالي، هاته السنة، مع حدث اعتماد وقبول طلب المملكة المغربية بإدراج فن الملحون ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وهو الحدث الذي يشكل تتويجا لكل من آمنوا بأصالة فن الملحون، وناضلوا من أجل إيلائه المكانة التي يستحق والحفاظ عليه من الاندثار. كما أن الاعتراف الأممي بفن الملحون جاء نتيجة لعمل جماعي تواصل عبر أجيال، تركت بصمتها في هذا الفن المغربي العريق، وساهمت من موقعها في تطويره وإغنائه أو الحفاظ على متونه، بدءا من القرائح والشعراء الذين أبدعوا أولى إرهاصاته قبل قرون، مرورا بالأسماء التي رسخته شكلا تعبيريا شعريا وموسيقيا، وصولا إلى الباحثين والأكاديميين والفنانين الذي اشتغلوا على هذا الرصيد والتراكم الذي تحقق استلهاما واقتباسا أو تحليلا وتوثيقا، وهو الأمر الذي واصلته أكاديمية المملكة من خلال موسوعة الملحون التي بلغت أزيد من عشرة أجزاء حملت توثيقا لأهم المتون الشعرية لشعراء الملحون وقبلها كانت هناك محاولات عديدة شكلت اللبنات الأولى لهذه الخطوة التوثيقية. فن الملحون العريق نشأ في منطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرب، حيث تطور في البداية داخل الزوايا في المنطقة، ثم انتشر تدريجيا ووصل إلى المراكز الحضرية الكبرى، ولقي هذا الفن تجاوبا خاصا في أوساط الحرفيين في المدن العتيقة منها فاس ومراكش وتارودانت والصويرة ومكناس وغيرها، كما أن نصوصه الشعرية تخصبت بقرائح أسماء لا حصر لها من مجالات أخرى مختلفة بمن فيهم الفقهاء ورجال الدين والعلماء والأدباء الذين ساهموا في إغناء الرصيد الشعري للملحون. من الورد إلى القول لا يكاد يذكر فن الملحون في المغرب، إلا مقترنا باسم الحاج الحسين التولالي، الذي تمكن من ترسيخ نبرة صوته وأسلوبه في الأداء، في وجدان الأجيال التي عاصرته أو التي جاءت بعده، لدرجة أن الصورة النمطية لشيخ الملحون تكاد تلتصق به، رغم أن هذا المجال عرف العديد من الأسماء التي لم تكن تقل عنه براعة وحفظا وأداء. الحسين التولالي بهذا الصيت الذي حققه، وكرس اسمه وصوته شيخ الملحون الأول، لا أحد قد يصدق أنه كان رجلا عصاميا وفلتة، إذ تحدى وضع الفقر واليتم والأمية، ليطارد شغفه بفنون القول والفنون التراثية التي كانت تزخر بها مدينة مكناس، حيث نشأ وترعرع بحي "تولال" الذي ظل منسوبا إليه، وعوض اسمه العائلي الحقيقي "دادوح". تحدر التولالي من عائلة أمازيغية فقيرة محافظة، تعود أصولها إلى الجنوب الشرقي، كان جل أفرادها يشتغلون في مجال الفلاحة، وتحديدا في زراعة الورود، وهي المهنة التي زاولها الحسين في بداياته، قبل أن ينجرف خلف عشقه الطارئ للفنون التراثية التي ملكت عليه كيانه منذ سن مبكرة. كان التولالي يتردد ، وهو فتى، على المقاهي الشعبية بالمدينة العتيقة لمكناس والتي كانت بها أجواق في مجموعة من الأشكال الغنائية آنذاك، فهناك مقاه معروفة برجالات الملحون وهناك أخرى معروفة بالطرب الشرقي. جعلت تلك المقاهي التولالي يربط علاقات مع بعض الشيوخ وفناني المدينة فتعرف على رفيق دربه الراحل الشيخ الشاعر "أحمد ولد با سلام" الملقب آنذاك "بحميدو" الذي كان صديقه وأستاذه الذي علمه الكتابة والقراءة ومن خلاله سيتعرف التولالي على مجموعة من الممارسين لفن الملحون منهم مولاي امحمد الخياطي بوتابت الذي سيصبح شيخه فيما بعد، فتقرب منه وبدأ يتعلم مبادئ فن القول المغربي. الأمي الذي تحول إلى مرجع للدارسين حاول التولالي أن يحاكي شيوخ الملحون الذين كان ينصت إليهم ويحفظ عنهم، بالاستعانة بآلات موسيقية بدائية كان يصنعها بنفسه، قبل أن يتمكن من اقتناء أول آلة عود، ويتعلم العزف عليها بشكل عصامي. كما واجه الفتى آنذاك مشاكل بسبب أميته وعدم إجادته القراءة والكتابة، فكلفه ذلك التردد يوميا على أحد الشيوخ الذي كان يلقنه بيتا شعريا كل يوم إلى أن ينهي حفظ القصائد، إذ تحدى التولالي كل الصعوبات والعراقيل في سبيل إرضاء شغفه وولعه بفن الملحون، لدرجة أنه سيصبح في ما بعد أستاذا لمادة الملحون بالمعهد الموسيقي لمكناس، وهو الذي لم يجلس في مقاعد الدرس، ليتحول إلى مرجع للراغبين في دراسة الملحون، إلى جانب رفيق دربه الراحل الحاج أحمد أكومي، في تحول جذري يعكس إصرار الرجل وتحديه. وخلال النصف الثاني لخمسينات القرن الماضي، وتحديدا بعد الاستقلال، بدأت حركة الأجواق الموسيقية تنتعش في المغرب، وتشكل حينها الجوق الوطني للملحون، الذي ترأسه الراحل الحاج امحمد العوفير، وضم صفوة شيوخ الملحون على مستوى الإنشاد والعزف، والتحق الحسين التولالي بذلك الجوق، ومنه كانت انطلاقته الفنية، إذ لفت الأنظار بأسلوبه وطريقته في الأداء، قبل أن يواصل الاشتغال في هذا المجال بطريقة متجددة جعلت فن الملحون يتجاوز الدائرة الضيقة التي كانت متداولا فيها، إلى أوسع نطاق، لدرجة أن أفراد المجموعات الشبابية والغنائية، آنذاك، مثل ناس الغيوان وجيل جيلالة، استلهموا هذا الفن العريق من خلال الفرص التي أتيحت لهم فيها الاشتغال عن قرب مع الحاج الحسين التولالي في أعمال مشتركة أشهرها مسرحية "النور والديجور" للفنان الراحل الطيب الصديقي. كما ساهم التولالي في نشر فن الملحون من خلال حرصه على نقله إلى مسارح العالم، فضلا عن تسجيلاته على الأسطوانات وأشرطة الكاسيت، لدرجة أن تلك التسجيلات شكلت مرجعا لكل الراغبين في التشبع بأسلوب الأداء الأصيل لهذا الفن، وتذوقه على نحو سليم. مفتاحي: تميز بالصدق في الأداء والسلوك يقول الفنان سعيد مفتاحي إن نقطة قوة الراحل الحاج الحسين التولالي والتي جعلته عميدا للإنشاد الملحوني، تكمن في أنه لحظة ظهوره في المجال الفني، وتحديدا في مجال فن الملحون، لم تكن الساحة فارغة، بل كانت تعج بعشرات الأسماء المرجعية في هذا الفن من شيوخ "الكريحة"، ورغم ذلك تمكن الراحل من فرض اسمه وسطهم. وأضاف مفتاحي، أحد التلاميذ المباشرين للراحل التولالي والذي ما زال يواصل حمل المشعل بعده، أن الفنان الراحل تميز بفصاحة اللسان، والصدق الذي ميزه سواء في الحياة أو الأداء، كما أنه كان من السباقين إلى الانفتاح على شركات الإنتاج لتوثيق أمهات قصائد الملحون، وترك مدرسة خاصة به في الأداء تخرج منها منشدون تتلمذوا على يديه مباشرة، أو بشكل غير مباشر من خلال الإدمان على الاستماع إليه عبر الوسائط السمعية. وتابع مفتاحي أن الحاج الحسين التولالي لم يكن يؤمن بالاجترار في الميدان الفني، والانغلاق، إذ انفتح مبكرا على المجموعات الغنائية، إضافة إلى اشتغاله في أعمال مسرحية مع الراحل الطيب الصديقي وأعمال تلفزيونية وسينمائية مع المخرج يسري شاكر ومجالات إبداعية مختلفة. وعن طريقة التولالي في الأداء يقول مفتاحي إنه كان يعطي لكل حرف حقه، ويحرص على العناية بمخارج الحروف، فضلا عن تعامله السليم مع المقامات خاصة على مستوى الانتقالات، وهي المسألة التي ورثها لتلاميذه الذين كانت من بينهم أصوات نسائية كان سباقا إلى الانفتاح عليها ودمجها في نسيج الملحون الذي كان يغلب عليه الطابع الذكوري، مثل حياة العسري وزهور الإسماعيلي ونعيمة الطاهري وحكيمة طارق وماجدة اليحياوي وغيرهن. كما كانت سهرات التولالي خارج المغرب، خاصة في أوربا، فرصة لنقل فن الملحون إلى المتلقي الغربي، إذ كان يحرص على أن يتوصل المتفرجون قبل بداية العرض بترجمات للقصائد إلى اللغات الحية، ومن الأسماء التي بذلت مجهودا في هذا الإطار هناك حميد نصرافي الذي ترجم العديد من القصائد إلى اللغة الفرنسية، كما أن الباحث فؤاد جسوس نقل بدوره العديد من القصائد إلى لغة موليير.