إشكالات مدونة الاسرة وأفاق تعديلها
بعد حوالي عشرين سنة على إقرار القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الاسرة، يعود هذا القانون الى واجهة النقاش المجتمعي، بعدما دعا صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في خطاب العرش المجيد ليوم 30 يوليوز 2022 الى مراجعة مدونة الاسرة، لتجاوز الاختلالات والسلبيات التي أظهرتها التجربة العملية، مع تحديده للخطوط العريضة لهذا الإصلاح وحدوده.
وعقب الخطاب الملكي السامي، وجه أمير المؤمنين مؤخرا، رسالة سامية الى السيد رئيس الحكومة، كلفه فيها بإعادة النظر في المدونة بشكل جماعي ومشترك مع كل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الابعاد القانونية والقضائية لهذا القانون، كما دعا جلالته هذه المؤسسات لإشراك هيئات أخرى معنية بالموضوع وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الانسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والادماج الاجتماعي والاسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.
وإذا كانت مدونة الاسرة لسنة 2004 قد اعتبرت حينها ثورة قانونية وحقوقية لما رافقها في ذلك الوقت من نقاش وجدل من أجل الاستجابة لمجموعة من المتغيرات التي شهدها المجتمع المغربي. فان التجربة العملية أبانت عن عدة مظاهر اللامساواة والتمييز في تطبيق أحكامها بشكل لا يتماشى مع مقتضيات الفصل 19 من دستور 2011، الذي يكرس المساواة بين الرجل والمرأة، في الحقوق والواجبات وينص على مبدأ المناصفة كهدف تسعى الدولة الى تحقيقه استجابة لالتزاماتها الدولية، مما ترتب عن ذلك بروز عدة “اختلالات”.
ومن هذا المنطلق سنحاول ابراز أهم الإشكالات العملية لمدونة الاسرة كفقرة أولى، على أن نتقدم ببعض المقترحات في الفقرة الأخيرة.
الفقرة الأولى: الإشكالات العملية لمدونة الاسرة
لا شك أن مدونة الاسرة قد حققت طفرة نوعية وتقدم كبير في مجال تعزيز الحقوق الإنسانية، وتحقيق الالتحام الاسري ورأب الصدع الذي قد ينبثق عن الزواج. غير أن الممارسة المهنية والتنزيل العملي لبعض مقتضياتها اظهر بروز بعض الإشكالات أهمها:
•زواح القاصر:
تثير ظاهرة زواج القاصرات نقاشا قانونيا وحقوقيا، وسط مطالب حقوقية بإيجاد حلول لإيقاف هذه الظاهرة. فاذا كانت المادة 20 من المدونة صريحة في أنه يمكن لقاضي الاسرة المكلف بالزواج، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الاهلية المحدد في 18 سنة، بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك. فان الواقع العملي أكد أن هذا الاستثناء أضحى هو الأصل، فحسب تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية حول القضاء الاسري بالمغرب الصادر هذه السنة، فالمحاكم سجلت 128.391 طلبا للإذن بزواج القاصر، خلال الفترة ما بين سنة 2017 وسنة 2021 بمعدل سنوي قدره 25.678 طلبا. علما أن هذا العدد لا يعبر بالضرورة عن العدد الحقيقي لحالات زواج القاصرين باعتبار أن بعض الزيجات قد تتم دون توثيقها أو تقديم طلبات بشأنها الى المحاكم.
ومن بين التساؤلات القانونية التي برزت بخصوص هذا الموضوع نذكر:
– عدم تحديد الاختصاص المكاني لقاضي الاسرة المكلف بالزواج بخصوص طلبات زواج القاصر.
-عدم تحديد السن الأدنى لزواج القاصر؟
-مدى إمكانية تقديم القاصر طلب تزويجه شخصيا الى قاضي الاسرة المكلف بالزواج في حالة رفض نائبه الشرعي، علما أن الاهلية من شروط التقاضي على نهج الفصل 1 من قانون المسطرة المدنية؟
-عدم التنصيص على الزامية الخبرة الطبية قبل الاذن بتزويج القاصر.
* ثبوت الزوجية
تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج، غير أنه أذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الاثبات وكذا الخبرة، حسب مقتضيات المادة 16 من مدونة الاسرة، والتي انتهى العمل بها بتاريخ 5 فبراير 2019 بعدما جرى تمديدها أكثر من مرة.
وهنا، طرح اشكال حول جواز سماع دعوى الزوجية بعد انتهاء فترة سماعها بنص القانون، فبعدما قضت بعض المحاكم برفض الطلب بعلة أن المشرع كان واضحا عندما حدد أجلا لسماع دعوى الزوجية، وبانتهاء الاجل، يبقى اعمال مقتضيات المادة 400 من المدونة غير وارد، مادام أن هذه المادة يتم اعمالها فيما لم يتم النص فيه. فيما اعتبرت غرفة الأحوال الشخصية والميراث بمحكمة النقض، في قرارها الصادر شهر يونيو 2022، أنه حتى على فرض انتهاء الفترة الانتقالية لسماع دعوى الزوجية، المحددة في مدونة الاسرة، ودونما وجود نص يحدد تاريخ سماع دعوى الزوجية بعد انقضاء الاجل القانوني، يرجع حينئذ فيها الى المذهب المالكي والاجتهاد القضائي.
•الزواج المختلط
معلوم أن مدونة الاسرة لم تعرف الزواج المختلط، غير أنها تطرقت في المادة 65 منها إلى الاجراءات الادارية والشكلية لإبرام عقد الزواج بصفة عامة وفي بعض الحالات الخاصة بما في ذلك زواج معتنقي الاسلام والاجانب.
ويثير هذا الزواج بعض الاشكالات العملية من قبيل:
– ما هو القانون الواجب التطبيق على زواج المغاربة غير المسلمين؟
-آثر تخلف الصداق والشاهدين المسلمين على صحة عقود زواج المغاربة المقمين بالخارج والمبرمة وفق الاجراءات المعمول بها ببلد الاقامة؟
-كيفية اثبات أن الشاهدين الحاضرين مسلمين؟ .
– جزاء عدم ايداع نسخة من عقد الزواج داخل اجل ثلاثة أشهر من تاريخ ابرامه، بالمصالح القنصلية المغربية التابعة لها محل سكنى طالبة أو طالب التسجيل أو محل ابرام كما تنص على ذلك الفقرة الاولى من المادة 15 من المدونة؟ .
* تعدد الزوجات
نظم المشرع مسطرة التعدد في المواد من 40 إلى 46،متجها إلى تكريس طابع المنع اذا خيف عدم العدل بين الزوجات أو في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها، بل انه جعل الاذن مقرونا بمجموعة من الشروط، كضرورة اثبات الزوج لوجود مبرر موضوعي استثنائي للتعدد مع توفره على الموارد الكافية لإعالة أسرتين.
غير أن هذه المسطرة لا تخلو من بعض تساؤلات من قبيل:
-عدم تحديد المشرع لمفهوم المبرر الموضوعي الاستثنائي؟
-هل يجب الاكتفاء في مسطرة التعدد بالشروط المحددة قانونا، أم لابد من شرط تحديد اسم الزوجة المراد التزوج بها وفق ما جاء في دورية السيد الرئيس المنتدب للمجلس الاعلى للسلطة القضائية، بعدما تبين استعمال بعض الازواج المأذون لهم بالتعدد للإذن نفسه مرات عديدة لإبرام عقود زواج غير مأذون بها من دون اللجوء إلى المحكمة لاستصدار اذن جديد بالتعدد، مستغلين عدم تضمين اسم المرأة المراد التزوج بها في اذن التعدد الممنوح لهم.
-هل يمكن للمحكمة الاستغناء عن استدعاء الزوجة الاولى إذا أدلى الزوج بموافقتها على طلب التعدد كتابة؟
* الطلاق والتطليق
أعطت المدونة للزوج والزوجة على حد سواء امكانية انهاء العلاقة الزوجية اما بالطلاق أو التطليق، وأخضعت ممارسة هذا الحق لمراقبة القضاء.
وقد سجلت المحاكم المغربية في الفترة ما بين سنتي 2017 و2021 ما مجموعه 588.769 قضية طلاق وتطليق وفق ما جاء في تقرير للمجلس الاعلى للسلطة القضائية حول القضاء الاسري بالمغرب لسنة 2023.
ولعل أهم الاشكالات المثارة نذكر:
-عدم تنصيص المدونة على الوكالة في الطلاق والتطليق.
-عدم تقييد الاذن بتوثيق الطلاق الاتفاقي بأجل معين.
– حالة تخلف الزوجة طالبة التطليق عن الحضور بعد استنفاذ محاولة الصلح، هل يمكن اعتبارها متراجعة عن طلب التطليق؟
-هل للأبناء الرشداء الحق في التدخل في دعاوي الطلاق والتطليق للحصول على المستحقات؟
* الولادة واثارها
سجلت المحاكم الابتدائية للمملكة حوالي 163.174 قضية –حسب تقرير المجلس الاعلى للسلطة القضائية-تتمحور حول الولادة ونتائجها احتلت منها النفقة النصيب الاكبر بحوالي 85.40%، بينما حلت دعاوي النسب والحضانة في المرتبتين الثانية والثالثة، فيما لم يتجاوز اجمالي ما سجل في قضايا صلة الرحم 1749 قضية أي ما يعادل 1.07% من المجموع العام.
ويلاحظ أن المدونة أحدثت طفرة نوعية فيما يخص اثبات النسب ونفيه بواسطة الخبرة الطبية التي تعتمد على التحليلات الجينية(ADN)، وان كان المشرع قد وسع من وسائل اثبات النسب فانه ضيق من نفيه.
غير أنه ما يعاب على المدونة بهذا الخصوص أنها لم تحدد ضوابط الترجيح بين الخبرة الجينية وحجتها عند تعارضها مع وسائل الاثبات أو النفي المقررة شرعا.
•النيابة الشرعية
يقصد بالنائب الشرعي طبقا للمادة 230 من مدونة الاسرة، الولي وهو الاب والام والقاضي، الوصي وهو وصي الاب أو وصي الام، وأخيرا المقدم وهو الذي يعينه القضاء.
غير أنه ما يلاحظ، أن المدونة ميزت بين الاب والام، ذلك أن هذه الاخيرة لا تعتبر نائبة شرعية على أبنائها، الا على سبيل الاحتياط، أي في حالة عدم وجود الاب أو فقد أهليته، وهو ما يتسبب لها في مشاكل عند محاولة استصدارها لبعض الوثائق الادارية لفائدة أبنائها، مما يفرض عليها اما اللجوء إلى القضاء الاستعجالي أو النيابة العامة أو حتى القضاء الإداري. خلافا للاب الذي لا يجد أي صعوبة في نيابته عن أبنائه، مع أن مقتضيات المادة 4 من مدونة الاسرة أسندت رعاية الاسرة للزوجين.
هذه بعض الاشكالات العملية التي حاولنا رصدها، وسنحاول في الفقرة الموالية تقديم بعض الاقتراحات في أفق تعديل مدونة الاسرة.
الفقرة الثانية: اقتراحات في أفق تعديل مدونة الاسرة.
لا شك أن الاسرة تحتل مكانة مركزية في المجتمع المغربي، فهي الركيزة التي يقوم عليها البناء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للبلاد، على مدى قرون، لعبت الاسرة المغربية دورا حاسما في نقل القيم والتقاليد والعادات التي تحدد الهوية المغربية.
وإذا كانت مدونة الاسرة، قد جعلت الاسرة تحت الرعاية المشتركة للزوجين، فانه يلاحظ وفق ما ذكر أعلاه أن هذا المبدأ سرعان ما يتوارى أمام مظاهر اللامساواة بين الزوجين سواء في الالتزامات المالية الملقاة بأكملها على الزوج، أو أسباب الطلاق ومساطره، أو المقتضيات المتعلقة بالولاية على الابناء.
وعليه، سنحاول تقديم بعد المقترحات الممكنة في أفق تعديل مدونة الاسرة:
* بخصوص زواج القاصر
– تحديد المشرع لسن أدنى للإذن بتزويج القاصر كأن يكون مثلا في 16 أو 17 سنة مع ضرورة موافقة الوالدين، على غرار بعض التشريعات المقارنة.
-جعل البت في طلبات زواج القاصر من اختصاص هيئة جماعية يترأسها القاضي المكلف بالزواج.
– اعطاء الحق للنيابة العامة في الطعن في مقرر الاستجابة لطلب الاذن بزواج القاصر.
-الزامية الاستعانة بخبرة طبية والقيام ببحث اجتماعي قبل الاذن بتزويج القاصر.
– تحديد المشرع للاختصاص المكاني لزواج القاصر.
-تجريم زواج القاصر بشكل غير قانوني .
* ثبوت الزوجية
يتعين وضع حد لسماع دعوى الزوجية، لاسيما وأنها أضحت وسيلة للتحايل على بعض المساطر القانونية، بإضفاء الشرعية على علاقات مخالفة للقانون، من قبيل زواج القاصر والتعدد اللذان لم تتوفر شروطهما القانونية.
* بالنسبة لتعدد الزوجات
– ضرورة اعطاء مفهوم واضح للمبرر الموضوعي والاستثنائي الموجب للتعدد.
– حذف الفقرة الاخيرة من مقتضيات المادة 45 من المدونة والتي جاء فيها “فاذا تمسك الزوج بطلب الاذن بالتعدد، ولم توافق الزوجة المراد التزوج عليها، ولم تطلب التطليق طبقت المحكمة تلقائيا مسطرة الشقاق المنصوص عليها في المواد 94 إلى 97″ لمخالفتها مقتضيات الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية.
* الطلاق والتطليق
-تفعيل دور المساعدة الاجتماعية.
-عدم قبول طلب الطلاق أو التطليق الا بعد انجاز تقرير من طرف المجالس العلمية أو مجلس العائلة بفشل محاولة الصلح .
-تشديد مسطرة التطليق للشقاق، ووضع حد أدنى للبت في الطلب.
-التنصيص على امكانية قبول الوكالة في الطلاق أو التطليق عندما يتعذر على الزوج أو الزوجة الحضور شخصيا.
– وضع معايير واضحة في تحديد المتعة أو المستحقات، مع جعل هامش السلطة التقديرية للقضاة في حدود معينة.
– التنصيص على كون عمل الزوجة المنزلي بمثابة مساهمة في تنمية الاموال المكتسبة أثناء قيام العلاقة الزوجية.
– حذف مقتضيات المادة 90 من المدونة التي تؤكد بأنه” لا يقبل طلب الاذن بطلاق السكران الطافح والمكره وكذا الغضبان إذا كان مطبقا” لعدم انسجامها مع السياق العام للمدونة.
وختاما ، يتعين اقرار مبدأ المساواة بين الاب والام في مهام النيابة الشرعية عند قيام العلاقة الزوجية، وفي حالة وفاة الاب أو فقدان أهليته ،وجب تأكيد على أن الام لا تحتاج لممارسة ولايتها على أبنائها القاصرين صدور حكم أو اشهاد من المحكمة أو القاضي المكلف بشؤون القاصرين، لكونها نائبة شرعية بقوة القانون. مع اعطاء مبدأ المصلحة الفضلى للطفل أهمية بالغة عند أي تعديل لنصوص المدونة.
بقلم حسن أيت موح: باحث في القانون