26 سنة على رحيل أشهر مطرب عاطفي أثرى الأغنية المغربية في مثل هذا الشهر ومنذ ستة وعشرين سنة، رحل عنا المطرب محمد الحياني. في ذلك اليوم الخريفي الحزين توقف النبض في الصدر الذي حمل كل ألق الطرب المغربي، وترددت أنغام رائعته "راحلة" تنعي "رحيله" بنبرات صوته وهو يشدو بنغماتها الحزينة، متسائلا بكل مرارة "ترى ترحلين؟" فيعاد السؤال بصيغة أخرى "هل فعلا رحل الحياني؟" كما رحلت شمس ذلك المساء، وكما رحلت كل الأصوات الجميلة التي أدخلت الدفء والشجن في ثنايا أغنيتنا المغربية. في هذا الخاص تستعيد معكم "الصباح" جوانب من مسار هذا المطرب الاستثنائي في ذكرى رحيله. إعداد: عزيز المجدوب من درب السلطان بالبيضاء، وتحديدا من "دار الكارتون" بدرب الشرفا والطلبة، كانت صرخة الميلاد للطفل محمد الحياني، منتصف الأربعينات، في أسرة تعود جذورها إلى منطقة سكورة بالجنوب الشرقي للمغرب، كان الأب فيها يشتغل بمعمل الكارتون الذي كان يوجد على طريق مديونة (شارع محمد السادس حاليا) قبل أن يتم هدمه منذ عشرين سنة وتقام على أنقاضه إقامة سكنية. انتقلت أسرة الحياني سنوات بعد ذلك إلى موقع آخر بدرب السلطان، هو حي بوشنتوف، غادر مقاعد الدراسة باكرا مفضلا عليها دراسة الموسيقى بالمعهد الموسيقي بشارع باريس، وهناك تعلم العزف على آلة العود وصقل مواهبه الغنائية. فارس النغم انتقل محمد الحياني إلى العاصمة، وبالضبط إلى حي أكدال، حيث عاش في كنف أخته الكبرى، وحدث أن تقدم الحياني ذات يوم من سنة 1964، إلى مباراة بقسم الموسيقى بالإذاعة الوطنية، وهناك التحق ب"الكورال" وغنى خلف العديد من الأسماء الوازنة في تلك الفترة التي تميزت بوفرة الإنتاج الغنائي وإن كانت الأصوات معدودة على رؤوس الأصابع. كانت الساحة الغنائية المغربية أحوج ما تكون إلى "فارس نغم" وفنان تتكامل فيه صفات المطرب العاطفي، شكلا ومضمونا، وبدا أن هذه المواصفات كانت تنطبق، إلى حد بعيد، على الشاب محمد الحياني الذي وضع الخطوة الأولى في مساره الغنائي، بأغنية "غياب الحبيب" من كلمات الشاعر الغنائي الراحل علي الحداني وألحان المرحوم حميد بنبراهيم، عازف الناي الشهير بالجوق الوطني، ثم أغنية "يا وليدي". خاض الحياني تجربة قصيرة بمصر بعد أن سافر إليها سنة 1967، وهناك تعرف على بعض رموز الوسط الفني هناك مثل الراحل بليغ حمدي والملحن محمد سلطان والمطرب محمد عبد المطلب وغيرهم، إلا أنه سرعان ما قرر العودة إلى المغرب، بعد أن اقتنع أن مكانه الطبيعي الذي يمكنه أن ينطلق منه هو بلده الأصلي. "الجرح برا"... شكلت قطعة "ياك الجرح برا" التي نظم كلماتها علي الحداني ووضع ألحانها الملحن والمبدع حسن القدميري، الانطلاقة الفعلية لمحمد الحياني، وعن ظروف وملابسات هذه الأغنية يحكي حسن القدميري "وقع اختياري على الحياني لأداء هذه الأغنية، لاعتبارات كثيرة، ففضلا عن تمتعه بصوت طبيعي، وكان فنانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وجسد ذلك من خلال أناقته الدائمة وشكله الخارجي الذي يوحي بذلك، ورهافة حسه لدرجة أنه قد يذرف الدمع لمجرد سماعه كلمة مؤثرة، إضافة إلى أنني لمست فيه قدرة هائلة على الاستماع الجيد، والقدرة على تجسيد الخاطرة اللحنية كما ترد في ذهن الملحن". كل هاته العوامل وغيرها دفعت القدميري إلى ركوب "المغامرة" وإعطاء لحن "ياك الجرح برا"، الذي حظي بإعجاب لجنة الاستماع في الإذاعة الوطنية، لشاب بالكاد كان يتلمس طريقه على درب الفن، مقارنة مع الأصوات التي كانت سائدة في تلك الفترة، لكن إيمان القدميري بقدرات الحياني جعل حدسه في "فتى درب السلطان" لا يخيب، إذ سرعان ما نجحت الأغنية بصوت الحياني الذي أداها باقتدار واستطاع من خلالها أن يوقع على مسار غنائي متميز، مستند إلى "مشروع فني" قوامه تطوير الأغنية المغربية وإخراجها من التداول المحلي إلى باقي الأقطار العربية خاصة المشرق، مع الاحتفاظ بملامحها المغربية الأصيلة من خلال الكلمة الشاعرية واللحن "التعبيري" إضافة إلى الأداء المعبر، وهي العناصر التي توفرت لدى الثلاثي علي الحداني وحسن القدميري ومحمد الحياني. وأدى نجاح أغنية "ياك الجرح برا" أواسط الستينات، إلى تعاون آخر بين الثلاثي أثمر قطعة غنائية أخرى لا تقل روعة عن سابقتها وهي أغنية "يا سيدي أنا حر" التي بدا فيها التوجه المذكور واضحا، وكانت ذات حمولة ثورية وتمردية وحملت معاني جديدة لم تكن مسبوقة على مستوى التصور والتي يتشبث فيها صاحبها ب"حرية الاختيارات العاطفية". "بارد وسخون".. النقلة النوعية وجاءت بعدها رائعة "بارد وسخون ياهوى"التي شكلت نقلة نوعية في مسار الحياني الغنائي، وكانت أغنية مثيرة للجدل بكلماتها "المستفزة" لدرجة أن لجنة الكلمات بالإذاعة الوطنية رفضتها لأول وهلة، وتمكن القدميري، بصعوبة بالغة، من إقناع أعضاء اللجنة بقبولها، فضلا عن أن اللحن تضمن تركيبا أبدع فيه القدميري إلى حد كبير، إذ تضمنت الأغنية توليفة بديعة بين مقاطع غربية ونغمات "العيطة"، كما تم فيها، لأول مرة في الأغنية المغربية، توظيف آلات موسيقية مثل "الكيتار الكهربائي" عزف عليه "صدّيقة"، العازف الشمالي الشهير، وكذا "الأورغ" رفقة أول عازف مغربي على هذه الآلة، وهو الأستاذ عبد الكبير أهطار. ولاقت أغنية "بارد وسخون" نجاحا منقطع النظير، وحققت لمحمد الحياني امتدادا جماهيريا شعبيا واسعا، وحظيت الأغنية كذلك بالإعجاب الشخصي للملك الراحل الحسن الثاني الذي لم يتردد، خلال إحدى السهرات الخاصة بالقصرالملكي، في ترديدها رفقة الحياني وخلفهما الفرقة الموسيقية، وكان الملك الراحل يُسمعها لضيوفه، لدرجة أن عبد الحليم حافظ أبدى إعجابه الشديد بها وكثيرا ما كان يرددها، ودفعه إعجابه الشديد بلحنها إلى الاتصال بملحنها حسن القدميري وقرر التعامل معه من خلال أغنية "لا سماحة ياهوى" التي قال القدميري بشأنها إنه أعدها خصيصا ليغنيها العندليب الأسمر بعد اتفاق بينهما وهي من كلمات علال الخياري، لكن اشتداد وطأة المرض على عبد الحليم في تلك الفترة حال دون إتمام ذلك التعاون الفني الذي كان سيقدم إضافة نوعية لمسار عبد الحليم الغنائي، وكذا للأغنية المغربية، وغناها محمد الحياني سنة 1973. الحداني والقدميري ولم يقتصر تعامل الحياني الفني فقط مع الثنائي علي الحداني وحسن القدميري، بل تعامل مع العديد من الأسماء الفنية مثل المرحوم عبد القادر الراشدي وعبد القادر وهبي وعبد العاطي أمنا والراحل توفيق حلمي وغيرهم، دون نسيان الثلاثي الذي شكله الحياني رفقة كل من الشاعر عبد الرفيع جواهري والراحل عبد السلام عامر، وأثمر روائع مثل "راحلة" و"قصة الأشواق"... رفعت الحياني إلى مصاف المطربين الكبار وأعطت شحنة قوية للقصيدة المغناة في المغرب. دموع الندم.. خلال مطلع الثمانينات خاض محمد الحياني التجربة السينمائية الوحيدة في حياته، من خلال أداء دور البطولة في فيلم "دموع الندم" من إخراج الراحل حسن المفتي، الذي سبق أن تعامل مع الحياني كاتبا للكلمات، وتوفق "عندليب المغرب" إلى حد كبير، بشهادة العديد من النقاد، في دوره واستطاع إقناع المشاهدين ممثلا ومطربا بحكم أن الفيلم تضمن أغنيات ناجحة أشهرها قطعة "وقتاش تغني يا قلبي"، وكان بمقدور الحياني أن يصبح نجما لامعا في مجال السينما الغنائية المغربية، لولا الظروف العامة التي طبعت المشهد الفني الوطني برمته، خاصة خلال منتصف الثمانينات وما بعده، ما جعل الحياني يفكر في الاعتزال مبكرا بسبب حالة الإحباط النفسي التي كان يعيشها، بعد أن تبين له أن شروط الإبداع الحقيقي قد انتفت، قبل أن يعود سنوات قليلة قبل وفاته ليقدم أعمالا ختم بها مسيرته الفنية القصيرة بأغان مثل "دنيا" و"إليزا" و"أنت لي" إلى أن غيبه الموت يوم 23 أكتوبر 1996، بعد صراع مرير مع المرض مخلفا وراءه إرثا فنيا سيظل شاهدا على صدق عطائه.