سمغوني : هذه قصتي مع الوداد

اجتاحت جماهير "الوينرز"، الفصيل الشهير المساند لنادي الوداد الرياضي، الساحات العامة في عدد من المدن الأمريكية في مشهد غير مسبوق في بلاد العم سام. هنا في ساحة "ناشيونل مول" في واشنطن العاصمة، وساحة "سيتي هول" بفيلاديلفيا، و"تايم سكوير" في نيويورك¡ لم يكن الأمر مجرد حضور جماهيري لمتابعة تحديات فريقهم في كأس العالم للأندية، بل كان زحفا شعبيا حقيقيا، تلونت خلاله الجموع الزاحفة باللون الأحمر، وارتفعت فيه الهتافات المغربية كأنها نداءات للوطن من الضفة الأخرى للأطلسي. وسط هذه الأمواج البشرية المتدفقة، وبين الطبول والرايات الممدودة للعائلة، كان هناك رجل يخطو بخطى ثابتة، يتنقل بين الجماهير بروح شابة، أناقة لافتة، وابتسامة لا تفارقه. إنه با حسن… ذاك الرجل الذي اشتعل رأسه شيبا، لكنه ما زال يحتفظ في قلبه بفتوة لا تنطفئ، وبلباقة منسق وذاكرة مؤرخ الحمراء. هنا تبدأ حكاية "زريقة"، من المدرجات الحمراء إلى قلب الحشود، حيث تتقاطع ذاكرة الوطن مع إيقاع الطبول وحناجر تهتف “هي حب الآجداد سينورمال نبغيها سموها الوداد والتاريخ يشهد بها ..." إنجاز: محمد السعدوني (واشنطن) كان يمر بين صفوف "الوينرز"، لا كمشجع عاد، بل كمن يراجع فصول حياته. في كل هتاف يسمعه، يعود سنين إلى الوراء… إلى ملاعب البيضاء، إلى أمسيات الكرة الشعبية، إلى الأيام التي كانت فيها الوداد حلما قبل أن تصبح عشقا عالميا. خطواته وسط الجموع لم تكن عبثا، بل كانت امتدادا لتاريخ طويل من العمل الجمعوي الرياضي والثقافي الذي جعله أحد أبرز الوجوه المغربية في أمريكا، ورمزا لجيل ما زال يربط المغرب بمغاربة المهجر بخيط لا ينقطع. من هنا كانت البداية... في أحد أحياء فاس العتيقة، حيث تنبعث رائحة الخبز الساخن من أفران الحي، وتنطلق صيحات الصبية وهم يركضون وراء كرة جلدية مهترئة، نشأ حسن سمغوني، أو كما اشتهر بين أصدقائه في ملاعب الكرة بـ "زريقة". ولد وترعرع في حي فاس البالي الشهير، وسط العاصمة العلمية، يحمل في عينيه بريق الطفولة وفي قلبه حلم الكرة والوطن. وهو طفل صغير نزحت أسرته إلى البيضاء، حيث ترعرع واشتد عوده، كان حسن تلميذا نجيبا، تفوق في دراسته، وحصل على شهادة الباكلوريا بجدارة، ثم التحق بالدراسات الجامعية، حيث جمع بين دافع التحصيل العلمي وشغف الكرة المستديرة. واصل تألقه إلى أن دق أبواب المجد عبر الفريق الأول لنادي الوداد االرياضي بداية السبعينات من القرن الماضي. يقول "باحسن"، كما يناديه الجميع هنا في واشنطن، في نبرة مفعمة بالاعتزاز: "اسمي حسن سمغوني، ولدت في فاس، لكن الدار البيضاء كانت المدينة التي احتضنت أحلامي، وجعلتني مولعا بها لليوم. هناك بين دروبها القديمة ترعرعت، وهناك لعبت للوداد، الفريق الذي لا يذكر دون أن يذكر معه تاريخ الكرة المغربية". في أوائل السبعينات، سطع نجم "با حسن" كما يحلو للبعض أن يناديه، في صفوف نادي الوداد الرياضي، حيث التحق بالفريق الأول سنة 1972، وكان أصغر لاعب يسجل هذا الإنجاز آنذاك. جاور أسماء لامعة، وأصبح من أعمدة الفريق، يتميز بأدائه الفني، وذكائه داخل الملعب، وخلقه العالي خارجه. "في 1970، التحقت في قلب تجربة استثنائية ضمن صفوف فريق شبان الوداد الرياضي. لم أكن مجرد رقم في قائمة اللاعبين، بل كنت حاضرا بالحماس، بالعطاء، وبالانتماء الذي لا يذبل. كنت أتنفس الوداد كما يتنفس العاشق قصيدته الأولى"، يقول حسن سمغوني نابشا ذاكرة الأمس، ويضيف في حديث لـ "الصباح" : "ما زلت أذكر كلمات عبد الرزاق مكوار، أحد من خبروا خفايا اللعبة وأسرارها، حين نظر إلي ذات مساء بعد نهاية التداريب وقال : الوداد محتاجة أطرا بعين ثاقبة … واحد يشوف بعيد، ويفكر بزوايا ما كيشوفوهاش الناس كاملين". الحاج مكوار يرسم مسار الأنصار لم تكن دعوة الحاج مكوار عبثية. كان يرى أن الفريق يحتاج من يفتح أبواب التواصل مع الجماهير، من ينصت لصوتها الصامت، ويترجم صدى هتافاتها إلى مبادرات تنبض بالحياة. “كنا نلتقي كثيرا على موائد الوجبات البسيطة، ولكن حديثنا كان يغوص عميقا في قلب الفريق، وفي أسئلته الكبرى: "ما الذي يمكن أن نقدمه للوداد؟" .. "كان الرجل يحمل هما كبيرا ويريد أن يوصل الوداد إلى العالمية. كان رجلا واثقا ألمعيا، يقرأ أفكارك من مجرد النظر لعينيك" يقول لاعب الوداد السابق حسن سمغوني ويضيف : "قال لي ذات صباح بهدوئه المعتاد: كيفاش الوداد ما عندهاش جمعية للأنصار"؟ واش ما تقدرش تتكلف بها أنت؟"، واسترسل "با حسن" متذكرا : "كنت حينها لاعبا بسيطا، لم أكن أبحث عن الأضواء، لكني كنت أعرف الناس، أعرف وجوه الجمهور، نبضه، حماسه، أحلامه. وكان قلبي ينبض بما يكفي لأقول لنفسي: "لم لا؟". انطلق "زريقة" في رحلة تأسيسية لأول "إلترا" في المملكة. عبر المدن، التقى رجالات لهم الغيرة على النادي، منهم من رحلوا، كـ"كباطَاس" رحمه الله، ومنهم من لا يزالون يحملون شعلة الانتماء. في ظرف وجيز، تأسست جمعية أنصار الوداد بشكل قانوني ورسمي، لا كحلم عابر، بل كمشروع دائم، ينبض بالشغف والانتماء. منزل كل ودادي ومنصة لصوت الجمهور لم تكن الجمعية مجرد تنظيم، بل كانت بيتا لكل ودادي، منصة لصوت الجمهور، وحلقة وصل بين الميدان والمدرجات. وبحب صادق وعمل دؤوب، وصلت الجمعية إلى مستوى مشرف، نالت معه اعترافا ملكيا، شرفا لا يمنح إلا لمن أثبتوا صدق نيتهم، وصفاء عطائهم. ففي مسيرة حافلة بالعطاء، نال حسن عن جدارة وسام الاستحقاق الوطني من درجة فارس، وهو من أرفع الأوسمة التي يقلد بها المواطنون في المملكة المغربية، وقد وشحه به جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، تقديرا لإسهاماته المتميزة في مجاله، وروحه الوطنية الصادقة. "وهكذا ، من مجرد لاعب موهوب، أصبحت شاهدا وصانعا في لحظة مفصلية من تاريخ الوداد. لحظة ولد فيها الحلم من رحم الالتزام، وكان ذلك درسا لي، كما يقول الأمريكيون : من هنا فصاعدا، السماء هي الحد". يقول زريقة بفخر باد. نعم .. ولأن السماء هي الحد .. كبر حلم الشاب حسن سمغوني فقد استثمر موهبته وتألقه وعلاقته المتميزة بالأب الروحي لنادي الوداد عبد الرزاق مكوار، ليلتحق بإحدى أكبر الشركات المغربية، الشركة الشهيرة، التي كانت تسيل لعاب الشباب المتخرجين حينها، شركة "لوسيور"، حيث شغل منصبا إداريا محترما. كان شابا ناجحا، يجمع بين التألق الوظيفي ومداعبة الساحرة المدورة، لكن القدر رسم له مسارا آخر. مشوار في بلاد العام سام لكن مجرى الحياة تغير فجأة. فالأخ الأصغر، أحمد، اختفى في الولايات المتحدة بعد أن سافر للدراسة، وانقطعت أخباره، مما دفع حسن إلى اتخاذ قرار مصيري بضغط من العائلة: ترك كل شيء وراءه، وظيفته، شهرته، وفريقه، وانطلق في رحلة البحث عن أخيه. هكذا، في 1983، حزم أمتعته وغادر إلى بلاد العم سام، يحمل قلبا مملوءا بالقلق، وعينين تترقبان اللقاء. كانت الليلة الأولى في أمريكا تحمل في طياتها مفاجأة أكبر من الحلم. في مدينة "فول تشيرس" بولاية فيرجينيا، بحث عن مأوى، فقادته الأقدار إلى المركز الإسلامي هناك. دخل المسجد وهو لا يعلم أن الإمام الذي سيقابله فيه، ليس سوى أخيه أحمد، الذي اختار حياة الزهد والتقشف. يقول با حسن: "لم أعرفه في البداية، فقد تغيرت ملامحه، أطلق لحيته وشعره أصبح كثيفا. لكن حين عرفت أنه هو، شعرت بأن الله يحبني. كنت أظن أنني سأبحث عنه شهورا وسنين، لكني وجدته من أول ليلة". من هناك، بدأت رحلة با حسن الجديدة. لم تكن مجرد هجرة، بل كانت إعادة تشكيل للحياة. انبهر بالحياة الأمريكية بكل ما تحمله من ضجيج وحداثة وحرية، لكنه لم ينس وطنه. قال ممازحا أخاه ذات ليلة باردة: "أحببت الحياة هنا… وسأبقى هنا، ربما سيأتي أخونا الثالث يوما ما للبحث عنا نحن الاثنين". قبل أكثر من أربعة عقود، وصل حسن سمغوني إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، قادما من المغرب، يحمل بين أمتعته القليل من الأشياء، والكثير من الحلم. كان شابا تملؤه الطموحات، ويقوده هاجس لا يفارقه: أن يكون جسرا حيا بين بلده الأم ومجتمعه الجديد. كانت كرة القدم بوابة حسن إلى العمل الجمعوي. فبعد وصوله إلى واشنطن في أوائل الثمانينات، لم يترك شغفه بالمستديرة يتلاشى، بل جعله وقودا لمشروع أكبر: جمع شمل الجالية المغربية. أسس فريقا لكرة القدم، لم يكن مجرد ناد رياضي، بل أصبح نقطة التقاء، وبيتا رمزيا لكل مغربي يبحث عن دفء الهوية والانتماء في بلاد الغربة. "الغريب أن واشنطن بدأت تمتلئ بالمغاربة، فقط لأنه كان هناك فريق لكرة القدم يجمعهم"، يضحك با حسن وهو يتذكر كيف ساهمت الكرة في تكوين نواة اجتماعية وثقافية متماسكة. سريعا، تحول نشاط "با حسن" من المستطيل الأخضر إلى ساحات العمل الثقافي والاجتماعي، حيث قام بتنظيم أول أسبوع مغربي في الولايات المتحدة سنة 1992، جمع فيه بين الرياضة والفن والصناعة التقليدية. توجت جهوده بحصوله على مفتاح مدينة نيوجيرسي، ثم مفتاح مدينة إيستن في ولاية ميريلاند، وهي تكريمات نادرة ãÇ تمنح لشخصيات ذات أثر مجتمعي بارز. وربما أهم ما خلده حسن سمغوني في مسيرته هو تأسيسه للمعرض المغربي الدائم في ضواحي واشنطن العاصمة، وهو فضاء ثقافي فريد كان يعرض فيه كل ما يعبر عن الهوية المغربية العريقة: كتب فقهية قديمة، أدوات تقليدية، ملابس تراثية، صور ووثائق، بل وحتى مساهمات شخصية من مغاربة أميركا الذين تبرعوا بمقتنيات لها قيمة تاريخية. "كنت أبحث دائما عن فضاء مغربي دائم في واشنطن. وعندما لم أجده، قررت أن أخلقه بنفسي"، يقول با حسن. وبالفعل، تحول المعرض إلى وجهة رئيسية لكل من أراد أن يلمس روح المغرب من قلب أمريكا، واستمر في توسيعه ورعايته بمجهوده الخاص، وبمساهمات تطوعية. أمريكيون خارج البيت مغاربة داخله رغم انخراطه العميق في العمل الجمعوي، لم يغفل با حسن دوره رب أسرة. زوجته، عائشة ، مغربية مثله، وابنتاه عبلة وكنزة، نشأتا على التقاليد المغربية. بيت بصالون بلدي مغربي تحوي تفاصيله عبق السحر المغربي المخزني، وقد اختار الديكور بلمسة مغربية ساحرة تحمل عبق التاريخ المغربي الأندلسي، يقول سمغوني : "نحن أمريكيون خارج البيت، لكن داخل البيت نحن مغاربة مئة في المئة". حتى اليوم، لا يمر العام دون أن يصطحب بناته إلى المغرب. يريدهن أن يعرفن جذورهن، ويتحدثن لغة القلب، ويتذوقن طعم النعناع في الشاي كما يعد في البيوت المغربية. على مدى أكثر من أربعين سنة، لم يكن با حسن مجرد مهاجر، بل أصبح أحد أبرز وجوه الجالية المغربية في أمريكا، وخاصة في واشنطن. كان يلقب بـ"المحاور غير الرسمي للمغرب" في العاصمة الأمريكية. يتحدث الإنجليزية بطلاقة وأناقة، ويظهر دائما ببريستيج رفيع بقبعته الأمريكية وسيجاره الفاخر. لم ينغمس في اللهاث خلف المال والمظاهر، بل سخر مكانته لخدمة وطنه الأم، خاصة في الدفاع عن قضية الصحراء المغربية. أطلق خلال 1990 فريق وداد واشنطن، جمع أفراد الجالية المغربية في واشنطن ونواحيها، ليبقى وفيا لجذوره الرياضية. واليوم، ينسق زيارة فريق الوداد البيضاوي إلى أمريكا للمشاركة في أول نسخة من كأس العالم للأندية بحلتها الجديدة. يقول "با حسن" بفخر: "إنه حلم أن أرى الوداد اليوم تلعب أمام عيني هنا في أمريكا، الوداد عشق يجري في دمي، لم تفارقني الحمراء يوما بل بقيت طيفا يطاردني ويسكنني من الداخل، إنها الحب الأبدي" ويسترسل متحمسا : "عمدة مدينة فيلادلفيا قالت لي إنها لم تشعر بمثل هذه الحماسة من قبل. كانت وسط جمهور الوداد وقالت لي: لو سألتني في اليوم الأول عن موقع المغرب على الخريطة، لما عرفته، أما اليوم فأستطيع أن أشير إليه بسهولة". حمل نعش الراحل الحسن الثاني ربما أكثر اللحظات التي تختصر رمزية هذا الرجل، هي مشاركته في حمل نعش الملك الراحل الحسن الثاني، واحدا من القلائل الذين نالوا هذا الشرف. لحظة مؤثرة تختزل ارتباطه العميق بالمغرب ووفائه للعرش والوطن. با حسن ليس مجرد ناشط أو منظم مهرجانات، بل هو ذاكرة حية للمغرب في أمريكا. رجل قرر ألا يكتفي بالحنين، بل صنع من الحنين مشروعا ثقافيا نابضا بالحياة، وجعل من نفسه صلة وصل حقيقية بين وطن لا ينسى، ووطن يبنى من جديد. وهو في كل ذلك لا يطالب بشيء، سوى أن يبقى صوت المغرب مسموعا ورايته مرفوعة مهما ابتعدت المسافة.

سمغوني : هذه قصتي مع الوداد

لاعب الوداد السابق: وشحني الحسن الثاني ورفعت نعشه بعد وفاته

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

محاكمة داهس طفلة بسيدي رحال

رخاء بأسواق مندوبية التخطيط!

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات