حي استثنائي جمع بين المقاومة بالسلاح والتعبير بالفن ظل حي درب السلطان بالبيضاء واحدا من الأحياء الأسطورية التي ارتبطت بالعديد من الأسماء التي أنجبتها في العديد من المجالات. وكان هذا الحي خلال فترة من تاريخه منبع مجموعة من التجارب والفرق المسرحية التي جاءت استجابة للنسق العام الذي كان يميز هذا الحي الذي جمع بين المقاومة والنضال بالسلاح وبمختلف الأشكال التعبيرية. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في رحلة نوستالجية تستعيد فيها جوانب من الذاكرة المسرحية لهذا الحي. إعداد: عزيز المجدوب في البدء كان النضال الوطني ومقاومة الوجود الفرنسي الذي اتخذ شكل حماية واستعمار أرخى بثقله على الأنفاس. منه كان المبتدأ وكانت الغاية التعبير عن الرفض بأي شكل تعبيري متاح، ومن هنا بدأت حكاية نشأة الحركة المسرحية بدرب السلطان. في هذا السياق يتحدث الباحث عبد الواحد عوزري عن ملامح المسرح المغربي، بشكل عام خلال مرحلة البدايات، قائلا إن بداية هذا النشاط كان "متأثرا بشكل كبير بجولات الفرق المسرحية العربية، وذلك بالنظر إلى الوضعية السياسية السائدة في تلك الفترة، فإن المسرح كان وسيلة للكفاح ضد المستعمر، وتأكيد العروبة وتعبئة السكان ضد المستعمر، أكثر من أنه مجرد تعبير فني". وأضاف عوزري في كتابه "المسرح في المغرب" أن هذا النوع من المسرح "كانت الجوانب التقنية فيه لها أهمية ثانوية، إذ كان يمتح مواضيعه من التاريخ، من أجل التذكير بالماضي المجيد للأمة العربية، وعظمتها، وانتصارات الإسلام، خصوصا في الحروب الصليبية، ولأنه بدون قاعدة تقنية أو طموح جمالي، فقد اعتبر هذا المسرح مسرحا ساذجا". ويتابع المتحدث نفسه "كان أداء الممثلين، في هذا المسرح يعتمد على الخطابة، من أجل تحسيس المتفرج بضرورة التمسك باللغة العربية، في مواجهة اللغتين الفرنسية والإسبانية، باعتبارهما لغة المستعمر، وفي مثل هذه الظروف كان من الممكن أن ينتهي العرض المسرحي بمظاهرة عمومية في الشارع يردد فيها المتظاهرون/ المتفرجون شعارا أطلقه أحد الممثلين في نهاية المسرحية". كانت هذه هي الملامح العامة لطبيعة المسرح الذي كان يقدم في العديد من المدن المغربية الكبرى مثل فاس وطنجة، ولم تشذ الدار البيضاء عن هذا المد، إذ كانت هناك محاولات مسرحية بمجال المدينة القديمة، إلا أنه منذ نهاية العشرينات، بدأت تتشكل أحياء "المدينة الجديدة" المحاذية للقصر السلطاني وحي الأحباس، لتشكل ذلك المجال العمراني الذي سيصير في ما بعد هو "درب السلطان". مسرح وفداء خلال مطلع الأربعينات كان مجال "درب السلطان" قد اكتملت أرجاؤه، وتشكل نسيجه العمراني من أحياء تنوعت أصول وجذور سكانها، من مختلف مناطق المغرب وقبائله، ابتداء من درب كرلوطي والبلدية ودرب الصبليون ودرب الكبير وبوشتنوف ودرب ليهودي ودرب الشرفا والطلبة ودرب الفقراء والقريعة وصولا إلى درب ميلا شرقا وبقية الأحياء المشكلة له. كان الغضب الشعبي على الوجود الفرنسي ومضايقاته مثل الجمرة الخابية تحت الرماد، التي تنتظر أن تتقد في أية لحظة، وتلهب بنيرانها التسلط والجبروت، لذلك لم يكن غريبا أن ترتبط المقاومة الحضرية المسلحة بدرب السلطان وتتشكل فيه خلاياها لتتقوى وتتطور في انتفاضات شعبية جعلت اسم "الفداء" يرتبط بأكبر شارع يخترق هذا المجال ليحيل على ماضيه التليد في النضال من أجل التحرر. وحدها منطقة درب السلطان بالبيضاء شكلت الاستثناء باعتبارها حيا شعبيا كان يتوفر على أزيد من عشر قاعات سينمائية، وهو رقم غير مسبوق وقياسي، بالنظر إلى حجم هذا الحي، وهو ما أفرز حركية فنية ساهمت فيها هذه القاعات وكانت سببا مباشرا في ميلاد العديد من الأسماء الفنية التي تشربت عشق الفن من فضاءات الحي السينمائية، وساهمت في انبثاق العديد من التجارب المسرحية. يكفي استحضار أسماء لقاعات من قبيل "المسرح الملكي" و"الشاوية" و"الباهية" و"موريطانيا" و"شهرزاد" و"الزهراء" و"الأطلس" و"المامونية" و"الأمل" و"الكواكب" و"البيضاء"، لتنتعش الأخيلة وتستحضر معها مئات الأفلام من كل الأصناف كانت تعرض بها، بل من هذه القاعات ما اختص بعرض صنف معين وأخرى اختارت التنويع في معروضاتها الفنية، ومنها ما صار في خبر كان وطالته أيادي الهدم أو جرى تحويل نشاطها في انتظار تكرار سيناريو الإجهاز المرحلي الذي يتكرر مع كل بناية بالطريقة والأسلوب نفسه. آخر قاعة ظلت تصارع اليأس من أجل البقاء هي قاعة "المسرح الملكي" بزنقة آيت إيفلمان بدرب السلطان، قبل أن تلفظ أنفاسها وتعلق عليها لافتة للبيع، بينما تحولت قاعة "الباهية" إلى مركز للإنعاش الوطني تابع للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وقبلهما صارت سينما "الشاوية" أثرا بعد عين، فيما الدور ينتظر قاعات أخرى بدرب السلطان مثل "موريطانيا" و"الكواكب" و"شهرزاد" وغيرها. المسرح الملكي... ميلاد الحركة كانت سنة 1947 مميزة في تاريخ درب السلطان، فهي السنة التي اكتمل فيها بناء "المسرح الملكي" أو "سينما الملكية" وقدم فيها الفنان المصري يوسف وهبي وفاطمة رشدي عروضهما المسرحية وشكلت هذه العروض آنذاك حدثا تاريخيا بالنسبة إلى سكان هذا الحي. في تلك المرحلة ظهرت بعض الفرق المسرحية منها فرقة "الرجاء البيضاوي" التي كان يشرف عليها مؤطر فني من أصل جزائري كان أستاذا في المدرسة المحمدية، هي الفرقة التي كانت تضم أحمد العبدي، والركيبي، والمختار الحمداوي، ومشعال، ومحمد زهير، وعبد القادر البدوي وكان هدفها التحسيس بالقضية الوطنية وبث الروح الوطنية في المقاومين. "العروبة" تسخر من بن عرفة عن هذه المرحلة يقول المسرحي عبد الواحد هلال إن الفرق المسرحية التي تأسست خلال هذه المرحلة كانت في الغالب تتشكل من تلاميذ المدارس الحرة التي كانت منتشرة بمجال درب السلطان مثل "المدرسة المحمدية" ومدرسة "بوشعيب الأزموري" وغيرهما، وكانوا يقيمون أنشطة فنية بخلفية وطنية، بل حتى المناسبات الخاصة مثل الأعراس كانت بدورها لا تخلو من فقرات تمثيل واسكيتشات ساخرة. ويتحدث المسرحي المخضرم، في حديث مع "الصباح"، عن ظروف ميلاد فرقة "العروبة"، التي التحق بها في ما بعد، أنها جاءت في سياق المد القومي الذي كان في أوجه خلال نهاية الأربعينات، خاصة بعد نكبة فلسطين، واشتداد القمع الاستعماري، لذلك كان اختيار اسم "العروبة" مفعما بالجو السائد آنذاك. كان مقر فرقة "العروبة"، يضيف الهلالي، بشارع بني مكيلد، وكانت تضم العديد من الأسماء منها عبد اللطيف الزيادي وعبد الرزاق الهراوي وأسماء أخرى ستلتحق بها في ما بعد مثل محمد العلوي ومحمد التسولي وآخرين. من أشهر العروض التي قدمتها هذه الفرقة، خاصة في فجر الاستقلال، مسرحية بعنوان "بن خرفة"، وهي تحوير ساخر للسلطان الذي نصبته الحماية الفرنسية بديلا للسلطان محمد الخامس خلال منفاه، واشتهرت المسرحية التي قدمت ب"المسرح الملكي" لدرجة أن السلطان طلب إعادة تقديمها داخل القصر الملكي. وخلال الفترة نفسها قدم مجموعة من المقاومين، لمناسبة عودة السلطان محمد الخامس، مسرحيتي "الخائن" و"التضحية في سبيل الوطن" في سينما "المامونية" من خلال فرقة "الهلال" التي تأسست بدرب "اليهودي". كما تأسست فرقة "الشهاب" بدرب الكبير وكان من أعضائها محمد تمار والتحق بها محمد التسولي، وكان هناك عمل مشترك بين فرقة الاتحاد الأخوي وفرقة الشباب، وفي سنة 1961 شاركت "الشهاب" في مهرجان الهواة بفاس من خلال مسرحية "الكراهية" وغيرها من الأعمال التي اشتهرت بها. ويستعرض هلال مختلف التجارب المسرحية التي كان يعج بها مجال درب السلطان منها فرقة "الأخوة العربية" لمؤسسها الراحل عبد العظيم الشناوي ومحمد بنبراهيم وهي الفرقة التي شهدت التحاق ثلة من الأسماء التي ستطبع مشهد التمثيل بالمغرب منهم عبد اللطيف هلال ومحمد مجد والزعري والداسوكين وعبد القادر لطفي وسعاد صابر وزهور السليماني وصلاح ديزان وخديجة مجاهد ونور الدين بكر وثريا جبران... وقدمت فرقة "الأخوة العربية" ما يزيد على 18 مسرحية منها "الطائش" و"الحائرة" وانكسر الزجاج" جلها من تأليف وإخراج عبد العظيم الشناوي كما ذاع صيتها كثيرا في الأوساط البيضاوية خاصة خلال مرحلة الستينات. كما تحدث هلالي عن تجارب أخرى منها فرقة "المسرح الأحمر" التي ستتحول في ما بعد إلى "المسرح الباسم" وكانت أشبه بالواجهة الفنية لمنظمة "23 مارس" وتأسست هي الأخرى بدرب السلطان، إضافة إلى تجربة فرقة البدوي وتجربة الحسين حوري وتجربة "الرواد" وغيرها من الفرق التي أثثت هذا الحي الشعبي في زمن الفورة الثقافية. الكواكب البيضاوية... الأمل ما زال مستمرا من بين الفرق الرائدة التي تأسست نهاية الخمسينات بمنطقة درب ميلا التي تشكل امتدادا لدرب السلطان، هناك فرقة "الكواكب البيضاوية" التي ظلت تزاول نشاطاتها المتعددة في مجال المسرح والموسيقى إلى يومنا هذا. استقبلنا عبد الله أنوار، مؤسس الفرقة، بمكتبه بالمركب الاجتماعي عمر بن الخطاب، الذي ظل يحتفظ فيه بأرشيف هذه التجربة التي تخرجت منها العديد من الأسماء ويتعايش مع ذكريات الأمس الجميل من خلال الصور والوثائق ومخطوطات المشاريع الفنية التي تم إنجازها أو التي ما زالت موقوفة إلى أجل غير مسمى. يتحدث أنوار (82 سنة) عن تجربته بحسرة بالغة وهو يجيل بصره في أرجاء الفضاء الذي يضم جزءا من تاريخه الشخصي، وتاريخ أجيال عشاق المسرح الذين تدرجوا ضمن تجربة "الكواكب البيضاوية" التي ذاع صيتها خلال فترة الستينات بدرب ميلا ودرب السلطان إبان وهج تجربة مسرح الهواة. كانت بداية أنور من خلال الجو العام الذي كان سائدا بدرب السلطان، حيث كانت العروض المسرحية تختلط بالنضال ضد المستعمر، ويذكر أنه كان يشاهد بعض هذه العروض التي ظل مأخوذا بأسلوب التشخيص فيها، رغم أنها لم تكن احترافية إلا أنها كانت كافية لتزرع في الفتى، آنذاك، عشق الركح والخشبة. وتأسست فرقة "الكواكب البيضاوية" سنة 1957، وبدأ صيتها ينتشر مطلع الستينات ببعض الأعمال المسرحية التي ألفها وأخرجها عبد الله أنوار منها "الكاتب دحو" و"فكرة الفتاة" التي صدرت كرواية سنة 1962، وكانت الفرقة تزاوج بين الاشتغال والتكوين في المسرح والموسيقى. وما زالت هذه الفرقة تمارس نشاطها في التكوين والانفتاح على المواهب الشابة بمحيط درب ميلا والأحياء المجاورة له، إذ يظل أنوار مسلحا بأمل ترسيخ الفعل المسرحي في واحد من الأحياء التي ظلت معطاء.