العسبي يستعيد جوانب من تاريخ الاختراق الكولونيالي عبر الصحة العمومية صدر حديثا للباحث والصحافي لحسن العسبي كتاب جديد بعنوان "غنيمة حرب... الطب الحديث بالمغرب 1888 ـ 1940" عن المركز الثقافي للكتاب. يتتبع فيه خيوط وملابسات ميلاد الطب الحديث بالتزامن مع فترة الاستعمار الفرنسي أو الإسباني. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" في جولة عبر فصول وعوالم هذا الكتاب الذي يبحر بنا في حكاية الطب الكولونيالي. إعداد: عزيز المجدوب اتخذ الطب الحديث، منذ القرن التاسع عشر، وسيلة من الوسائل التي سخرتها القوى الأوربية لاختراق المغرب، وحاولت من خلالها تركيز حضورها استعماريا خاصة مع مطلع القرن العشرين وتوظيف هذا النشاط ضمن خطة التغلغل السلمي وتحقيق التهدئة. وفي هذا السياق انكب الأطباء والمبعوثون الفرنسيون، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على دراسة الوضعية الصحية لدى المغاربة، ونبهوا في كتاباتهم وتقاريرهم حول بؤر الاستشفاء إلى الحالة المزرية التي وجدوا المغاربة عليها في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، وإلى رسوخ ثقافة بدائية في البحث عن سبل التداوي، وإلى الانتشار الكبير لبؤر الاستشفاء التقليدي. في كتابه يسعى لحسن العسبي لتتبع قصة ميلاد خدمة الطب الحديث في المغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف مدن المغرب، وأيضا الكيفية التي ولدت بها الصيدلة الحديثة في المغرب، ومختبرات التحليلات الطبية وفي مقدمتها معهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي. ومن هنا يعتبر العسبي الكتاب "رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الاحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية". العلمي... أول طبيب مغربي عصري بالموازاة مع الدراسات الطبية المنجزة بالمغرب، خلال القرن التاسع عشر، والتي أنجزها في الغالب أطباء أو باحثون في علوم الأمراض ألمان وإنجليز وفرنسيون وإسبان وإيطاليون جاؤوا إلى المغرب ضمن بعثات دينية تبشيرية، كانت هناك محاولات تحديثية طبية في المغرب من قبل النخب المحلية. ويشير العسبي في هذا السياق إلى حالة الطبيب المغربي عبد السلام العلمي (1830 ـ 1904) باعتباره أول طبيب مغربي عصري درس علم الطب الحديث أكاديميا وتطبيقيا، كما أنه ترك كتابا بعنوان "البدر المنير في علاج البواسير"، معتبرا إياه مؤشرا على محاولات النخبة المغربية للإصلاح من باب الحداثة والعلم، كما أن العلمي راكم تجربة مهمة من خلال اشتغاله في البلاط السلطاني معاصرا أربعة سلاطين وهم مولاي عبد الرحمن، ومحمد بن عبد الرحمن (محمد الرابع)، والحسن بن محمد (الحسن الأول) ومولاي عبد العزيز بن الحسن الأول. وكان العلمي أيضا من أوائل الطلبة المغاربة الذين هاجروا إلى مصر (القاهرة) لدراسة الطب الحديث على يد الطبيب الفرنسي أنطوان بارتيلومي كلو، وعمل معه بمستشفى القصر العيني بالقاهرة الذي كان يضم مدرسة للطب العصري ومنها تخرج طبيبا. وقبل العلمي راكم المغاربة عبر تاريخهم معرفة طبية على مدار تعاقب الدول والأسر الحاكمة، منذ العهد الموحدي، إذ كانت البيئة المغربية من المجتمعات السباقة إلى إنشاء مؤسسات وبنايات مخصصة فقط للتطبيب والعلاج عرفت ب"المارستان" أشهرها مارستان مراكش الذي بناه الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور سنة 1184 ميلادية، ومارستان فاس الشهير بمارستان سيدي فرج في العهد المريني، ثم مارستان سلا بسيدي بنعاشر في القرن الرابع عشر، كما أن جامعة القرويين ظلت تقدم شهادات التخرج الطبي إلى حدود العقود الأولى من القرن التاسع عشر، قبل أن يعجز الطب المغربي عن مجاراة تطور المعرفة الطبية ويدخل في مرحلة بيات وكمون. شجرة الأمراض ارتكز حضور النشاط الطبي الكولونيالي على الخطة التوسعية للاحتلال الفرنسي لوسط المغرب، خاصة في الفترة بين 1907 و1912 لحظة توقيع معاهدة الحماية في عهد السلطان مولاي حفيظ. وانبنت الخطة التوسعية الفرنسية، حسب العسبي، على إستراتيجية مزدوجة وفعالة، تعتمد الاشتغال بذراعين كبيرين، واحد عسكري عنيف، مباشر وآني، والآخر تنموي سلمي بنّاء، ويشتغل على المدى المتوسط والبعيد، ويتضمن الشق الاقتصادي والصحي والتعليمي. بهذا المعنى فإن تطويع المغاربة كان يستهدف كسر شوكتهم للمقاومة الشعبية المسلحة، والتخفيف من حدتها، وفي الآن نفسه تقديم خدمات عمومية مدينية غايتها ترسيم وتبرير الحاجة إلى المساعدة الفرنسية في تحقيق أسباب التنمية. كانت شجرة الأمراض التي كانت متفشية في المغرب في العقود الثلاثة الأولى للقرن العشرين، خارج دورات الجوائح والأوبئة، التي ظلت تتوزع بين الكوليرا والتيفوس والطاعون، تتحدد في أربعة فروع كبرى هي الأمراض الصدرية (خاصة السل)، والأمراض الجنسية (خاصة الزهري)، والأمراض المناعية (خاصة الملاريا) ثم الأمراض المعدية (خاصة الجدري). جريمة قتل وميلاد أول مستشفى تتضارب المعلومات والمعطيات حول لحظة بناء أول بناية استشفائية حديثة بالمغرب، بين توجهين، الأول يربطه بلحظة دخول القوات العسكرية الفرنسية إلى الدار البيضاء في غشت 1907، مع الأطروحة التي تروج لها بأنها جاءت في "مهمة حضارية" لتحديث الشعوب البدائية المتخلفة. أما التوجه الثاني فيستحضر تجارب محاولات دخول الطب الحديث للمغرب قبل مرحلة دخول الاحتلال العسكري إلى المغرب، في شقيه الفرنسي أو الاسباني، من خلال حالات إنشاء مستشفيات طبية حديثة منذ 1886 بطنجة، ثم في 1893 بتطوان. ويستحضر العسبي قصة أقدم مستشفى فرنسي بطنجة، الذي ارتبط بجريمة قتل تورط فيها أمير مغربي، مقيم بطنجة، وضع حدا لحياة صيدلي فرنسي بالمدينة نفسها اسمه "بول راي" سنة 1867، فتدخل سفير فرنسا بالمغرب لدى السلطان محمد بن عبد الرحمن (محمد الرابع العلوي). وطلب السفير من الدولة المغربية أمرين: أولهما إعدام القاتل، والثاني منح فرنسا بناية بطنجة لتقيم فيها مؤسسة طبية تابعة لها. وبعد مفاوضات امتدت لأسابيع، يضيف العسبي، تمت الاستجابة للطلبين معا، إذ تم فعلا تنفيذ حكم الإعدام في القاتل رغم قرابته العائلية بالسلطان، وتم منح فرنسا بناية صغيرة بزنقة الواد بحي دار البارود بطنجة لإقامة مؤسسة طبية فرنسية بها، يجري تمويلها دوريا كل أربعة أشهر من ميزانية الدولة المغربية. وهكذا ولدت أول مؤسسة طبية أجنبية أوربية فوق التراب المغربي تابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، عين بها طبيب متقاعد منتم إلى المصالح الطبية الكاثوليكية للصليب الأحمر الفرنسي، خلفه بعد وفاته بالمغرب، طبيب إنجليزي اسمه ميغريس وبعده طبيب روسي يتقن اللغة الفرنسية اسمه سبيفاكوف. كما ستكون طنجة المجال الذي ولد به أول مختبر للتحليلات الطبية وهو عبارة عن فرع ل"معهد باستور" سنة 1910، الذي سيأتي ميلاده هو الآخر مرتبطا بجريمة قتل، ذهب ضحيتها شاب فرنسي يدعى ألبير شاربونيي في ماي 1906. وبدل من أن يطلب سفير فرنسا، آنذاك بطنجة، تدخلا عسكريا بحريا للسفن الحربية الفرنسية للضغط على السلطان، من أجل فرض اعتقال القاتل ومحاكمته وتعويض عائلة القتيل، اقترح فتح مفاوضات مع السلطان مولاي عبد العزيز عبر نائبه بطنجة محمد الكباص، من أجل منح الحكومة الفرنسية قطعة أرض بطنجة، لإنشاء مؤسسة طبية فيها. وبعد مفاوضات امتدت شهورا، قبل السلطان الفكرة، التي كانت أصلا تتماشى مع نزوعه التحديثي، ما جعله يتحمس لافتتاح مؤسسة طبية مختبرية علمية حديثة من وزن وقيمة "معهد باستور" فوق أرض مغربية، فسلم الفرنسيين قطعة أرض مساحتها هكتار واحد بهضبة مرشان، في الوقت الذي تأخرت فيه أشغال البناء إلى حدود 1910، بعد أن تعذر على المشيدين توفير الميزانية في الوقت المناسب، إلا أن المعهد الذي نال الشهرة هو الفرع الذي شيد بالدار البيضاء مطلع الثلاثينات. البيضاء مهد الطب العصري ظل الرهان على مدينة الدار البيضاء، من قبل إدارة الحماية الفرنسية، وعلى رأسها الماريشال ليوطي، باعتبارها رئة الاقتصاد وفضاء لتجريب كل أشكال الحداثة المدينية، لذا فقد كان كل شيء جديدا في هذه المدينة، بدءا بالميناء والسكة الحديدية والمعرض الدولي والمستشفى العسكري، والمستشفى الأهلي وغرفة التجارة والصناعة وغيرها. وكان طبيعيا في هذا السياق أن تكون أول مؤسسة طبية أنشئت بالمغرب هي المستشفى العسكري الفرنسي بالدار البيضاء سنة 1911، كما جاء بناء أول مستشفى مدني للمواطنين المغاربة (مسلمون ويهود) أنشئ باعتباره مؤسسة فرعية بمنطقة "السور الجديد" بالمدينة القديمة سنة 1913. وفي 1917 افتتح مستشفى جديد وحديث بطاقة سريرية تصل إلى 138 سريرا، بحي "تي إي إف" بالقرب من الموقع الحالي للمعرض الدولي، قبل أن تضاف له ملحقة بحي العنق سنة بعد ذلك، وكان هذا المستشفى المدني يضم جناحين بالتوازي، واحد للمرضى المغاربة المسلمين والآخر لنظرائهم اليهود. وتم تشييد مستشفى "كولومباني" (ابن رشد حاليا) سنة 1928، الذي كان بمثابة مركب طبي ضخم غير مسبوق في تاريخ المملكة، ترتكز فلسفة هندسته المعمارية على إنشاء مؤسسة طبية ممتدة جغرافيا وليس مركبا طبيا بطوابق متراكبة. ومع نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات دخل المغرب إلى مستوى أعلى في الخدمات الطبية، انطلق أساسا من الدار البيضاء قبل أن ينتقل إلى الرباط ومنه إلى بقية المدن المغربية، وفي الكتاب نجد استعراضا مفصلا لمختلف التجارب الطبية بمدن ومراكز المغرب، بدءا من العاصمة الرباط التي وصفها العسبي بأنها "الشغف الخاص للماريشال ليوطي" متحدثا عن مستوصفاتها ومستشفياتها في عهد الحماية. كما تحضر في الكتاب بعض المناطق المغربية التي عرفت بإنشاء مراكز صحية بتخصصات معينة منها "قبائل مزاب ومحاربة السل" وسطات، وحكاية المركز الوطني للعلاج العقلي ببرشيد، والمستشفيات العسكرية والمدنية بفاس ومكناس والقنيطرة مراكش "عاصمة الجنوب الطبية" ثم "المغرب الشرقي... الشقي طبيا".