الزكاري: درس الأمس وقيم اليوم

الباحث في التاريخ قال إن حدث 20 غشت غني بالدلالات والمفاتيح لولوج المرحلة الراهنة قال الباحث أسامة الزكاري إن حدث 20 غشت شكل فورة عارمة وتحولا نوعيا في الخطاب والممارسة لدى الحركة الوطنية، كما استحضر الباحث المهتم بالتاريخ المعاصر أهم المحطات المفصلية للحدث، إضافة إلى تقديمه مجموعة من الخلاصات والدروس التي يمكن استنتاجها منه. في ما يلي نص الحوار: > ماهي الدروس والعبر والغاية من استحضار ذكرى 20 غشت، أي ذكرى ثورة الملك والشعب؟ > لا شك أن الحديث عن هذه الذكرى يشكل وقفة عند واحدة من أبرز المحطات المنيرة في التاريخ التحرري لمغاربة عقود النصف الأول من القرن 20. لم يكن الحدث مجرد رد فعل تجاه جرائم الاستعمار الفرنسي ببلادنا، وعلى رأسها جريمة نفي السلطان الشرعي محمد بن يوسف وعائلته إلى جزيرة مدغشقر يوم 20 غشت من 1953. ولم يكن الحدث مجرد تحركات عاطفية لتيارات العمل الوطني ضد حدث هز مشاعر المغاربة وجعلهم يشعرون بالكثير من عناصر الإهانة والإذلال، كما لم يكن الحدث نقطة عابرة في مسار معارك الحرية والاستقلال أفرزتها سياقات دولية ضاغطة مرتبطة بظروف ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصدور ميثاق الأمم المتحدة ببنوده الواضحة في دعمها للشعوب المناهضة للاستعمار. فالحدث كان يشكل فورة عارمة وتحولا نوعيا في الخطاب وفي الممارسة، سواء بالنسبة لتيارات العمل الوطني السياسي أو بالنسبة للأنوية الجنينية لتنظيمات المقاومة المسلحة وعمليات الفداء. > من موقعك مهتما بتاريخ المغرب المعاصر كيف يمكن قراءة تطور الأحداث؟ > قراءة مداخل هذا التحول لا تستقيم إلا باستحضار المسار العام، الذي تطور منذ انطلاق العمل الوطني ضد الاستعمار خلال مرحلة ما بعد صدور وثيقة 11 يناير لسنة 1944، ذلك أن الحركة الوطنية تفاعلت مع مخرجات الحرب العالمية الثانية، فقدمت تصورا متكاملا للانتقال من مرحلة المطالبة بالإصلاحات التي هيمنت على مرحلة ما بين 1933 و1944، إلى مرحلة جديدة أحسنت استثمار المناخ الدولي وتبعاته التحررية الواسعة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وعوض أن تستوعب فرنسا الدرس وتنحاز لصوت العقل والحكمة، اختارت الانقلاب على وعود الحلفاء التي قدموها للسلطان محمد بن يوسف في مؤتمر أنفا لسنة 1943، وردت بتدشين مسار للقمع وللتنكيل وللاضطهاد في حق الوطنيين المغاربة، حيث منعت الصحافة، واعتقل رواد العمل الوطني، وأغلقت مؤسسات التأطير المدني،... في هذا الإطار، بدأت تتبلور نزعات بديلة بين صفوف أطر العمل الوطني التي أضحت ترى أن العمل السياسي السلمي قد استنفد أدواره، وأن السياق الدولي والضغط الداخلي وانتظارات الشعب المغربي، كلها أمور فرضت الانتقال لمواجهة فرنسا باللغة التي تفهمها. > ما هي المظاهر والمحطات الحاسمة في هذا التحول؟ > لقد تعزز هذا التحول، مع الشحنات الهائلة التي فجرتها زيارة السلطان محمد بن يوسف إلى طنجة بخطابها التاريخي ليوم 9 أبريل من سنة 1947، والذي أكد على مضامين السيادة المغربية التي لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف. فكانت النتيجة بداية الاستعداد لإطلاق مرحلة الكفاح المسلح، فتوجه الوطنيون نحو خلق تنظيمات للتأطير وللتنظيم وللتدريب، وعلى رأسها تنظيمات حركة الكشفية، وما عرف باسم "لجان التزيين" التي كانت تابعة لحزب الاستقلال. ومع انفجار الهزة العارمة في مدينة الدار البيضاء عقب جريمة اغتيال الفرنسيين للزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد سنة 1952 وتحرك الشعب المغربي لاستنكار الجريمة وما تبعه من رد فعل عنيف من قبل القوات الفرنسية انتهى بسقوط عدد كبير من الشهداء، ازداد اليقين ترسخا بضرورة الإعداد للخطوة الحاسمة المتمثلة في الانتقال إلى الكفاح المسلح. ولم تكن الخلايا الأولى تنتظر إلا اكتمال السياقات، فكانت جريمة نفي السلطان الشرعي النقطة التي أطلقت الشرارة العارمة التي هزت الأرض من تحت أقدام الاستعمار في إطار عمليات "الفداء" التي أجبرت الفرنسيين –في نهاية المطاف- على الاعتراف بمطالب المغاربة في الحرية والاستقلال. كان الحدث عظيما بامتياز، أثبت أن إرادة الشعوب لا تقهر. كانت درسا حمل مشروعا واضح المعالم لكنس كل تبعات معاهدة 30 مارس 1912، بعد أن نجح في تحقيق رؤية موحدة لتنظيمات العمل الوطني والمتمركزة حول مطلبين متداخلين، عودة السلطان الشرعي والاعتراف بالاستقلال. لقد أثبت الحدث أن التقاء الإرادات، أي إرادة السلطان والحركة الوطنية وحركة المقاومة وعموم الشعب المغربي، يمكن أن يحدث المعجزات إذا صدقت النوايا وتوحدت التطلعات وانصهرت الانتظارات. > إلى أي حد ساهمت هذه المحطات التاريخية في رسم ملامح المشهد السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال؟ > لقد فجر حدث 20 غشت 1953 طاقات الفعل والمبادرة لدى مجمل الفاعلين السياسيين وبين صفوف أحزاب هذه المرحلة، وعلى رأسها حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي بالمنطقة السلطانية الخاضعة للاحتلال الفرنسي، وحزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية بالمنطقة الخليفية الخاضعة للاحتلال الإسباني. ورغم أن الجميع كان يلتقي في مطلب عودة السلطان الشرعي، فإن استعار نار المواجهات وبداية ارتفاع الأصوات الفرنسية الداعية لإيجاد حل "للقضية المغربية"، قد بدأ يطرح أسئلة جوهرية على أحزاب المرحلة وعلى مواقفها المؤسسة، وعلى رأسها ترتيبات ما بعد الاستقلال وطبيعة النظام السياسي الواجب التكريس،من خلاله، أسس سيادة البلاد، مثل المؤسسة الملكية والدين الإسلامي والانتماء القومي... وبطبيعة الحال، امتد الأمر لطرح إشكاليات تقاسم السلط وسبل تدبيرها. ورغم الأهمية الكبرى لمثل هذه الأمور في جهود ترسيخ الاستقرار الضروري لمرحلة ما بعد رحيل الاستعمار، فقد ظل التعاطي معها خافتا ومتواريا خلف المطلب المركزي المزدوج الذي تحقق الإجماع حوله، أي عودة السلطان من المنفى والاعتراف بالاستقلال. ولعل تأجيل الحسم في القضايا المركزية المرتبطة بطبيعة نظام الحكم وتوزيع الاختصاصات واحتكار تراث معركة الاستقلال، تظل مسؤولة عن مختلف المآسي التي حملها فجر الاستقلال السياسي بالمغرب، مع انتشار موجة التصفيات والجرائم بين أجنحة العمل الوطني نفسها، مما حمل ندوبا عميقة مازال المشهد السياسي المغربي يحمل آثار الكثير منها إلى يومنا هذا. > كيف يمكن وضع جيل اليوم في سياق هذه الأحداث دون أن يحس بالفجوة الزمنية التي تفصله عنها؟ لا يمكن أن نستمر في مخاطبة الأجيال الصاعدة بالخطابات المتماهية مع الحمولات الماضوية المنتشية ببطولاتها وبمعاركها وبفتوحاتها. وفي المقابل، يظل الرهان قائما على استلهام الدروس والعبر، والبحث عن وسائل بديلة لتبليغ المضامين، بلغة تفهمها الناشئة وبمضامين تستجيب لانتظارات هذه الناشئة. يجب التركيز على تعزيز المشترك بين المغاربة على مستوى القيم العابرة للأزمنة، وهي القيم الممتدة في التاريخ، والبحث عن سبل تحيينها وإضفاء عليها العناصر المحفزة المرتبطة بضرورات المرحلة الراهنة. يجب أن يقتنع شباب اليوم أن تجاوز انغلاقات المرحلة الراهنة وأزماتها المزمنة، لا يمكن أن يتحقق إلا بالنهل من رصيد القيم والرصيد المعنوي لدروس النضال الوطني وعلى رأسه محطة 20 غشت 1953. فالحدث غني بالدلالات وبالمفاتيح التي يمكن أن نلج عبرها للمرحلة، وعلى راسها مفاتيح الكرامة والسيادة والاستعداد الدائم للبذل وللعطاء في سبيل الوطن. هي قيم رفعتها الحركة الوطنية وتنظيمات المقاومة لرسم خارطة طريق مازالت تحمل الكثير من عناصر راهنيتها للإجابة على التباسات المرحلة. يجب أن يقتنع الشباب بأن لا انتماء له إلا الانتماء للوطن، هذه رسالة جيل ثورة الملك والشعب. والانتماء للوطن يبتدئ وينتهي عند التنشئة الاجتماعية الراشدة الحاضنة لبذور الاعتزاز بالذات، ولموقف الاستعداد المتواصل لترسيخ هذا الاعتزاز ولترجمته في مواقف وفي مبادرات وفي تجارب ملتحمة مع الواقع القائم. أجرى الحوار: عزيز المجدوب

الزكاري: درس الأمس وقيم اليوم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

20غشت... انتفاضة سلطان وشعب

انتصارات دبلوماسية غير مسبوقة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات