التواصلي: تجديد الخطاب الديني بالمغرب بين إشكالية المفهوم والمضمون
يجد المتتبع للشأن الديني بالمغرب الذي يقوده نظام مملكتنا (إمارة المؤمنين)، المعروف ب “تأهيل الحقل الديني” أنه حريص على تجديد الخطاب الديني لمواكبة رياح العولمة وحقوق الإنسان والحريات العامة، كما أن الرؤية الرسمية للمجال الديني بالمغرب وتأثرها بالسياق الدولي الذي كان يشن حربا عشواء على ما يسمى بالإرهاب الدولي، دفعتها إلى اتخاذ جميع الإجراءات والتدابير التي تريد من الشأن الديني أن يتفاعل مع القضايا الوطنية، وأن يسهم في بناء سياسة عمومية متكاملة ومندمجة.
وبما أن المجتمع المغربي كسائر المجتمعات الأخرى يعرف تحولات وتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية متنوعة، كان لابد من مراعاة هذه التغيرات عند إصدار أي خطاب ديني. لكن السؤال الذي شغل بال الكثير من الباحثين والمهتمين هو ما المقصود بتجديد الخطاب الديني في ظل تحولات فكرية متموجة وغير مستقرة؟
للإجابة عن هذا السؤال نورد أولا تعريف الدكتور يوسف القرضاوي الذي ذهب إلى اعتبار الخطاب الديني هو “ذلك البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين، لدعوتهم إلى الإسلام، أو تعليمه لهم أو تربيتهم عليه، عقيدة أو شريعة، عبادة أو معاملة، فكرا أو سلوكا، أو لشرح الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم، فردية أو جماعية، روحية أو مادية، نظرية أو علمية”(1).
والملاحظ على هذا التعريف أنه يمثل أحدث ما قيل في موضوع الخطاب الديني، حيث يركز على البعد الغائي والرسالي للخطاب الديني الإسلامي، من خلال الدعوة إلى الإسلام أو تعليمه للناس، أو تربيتهم عليه، أو شرحا لمواقفه من مختلف قضايا العصر التي يعيشها المسلم وغير المسلم.
فبما أن الخطاب الديني هو كلام بشري، يستند إلى مرجعية دينية قرآنا وسنة، سواء كان منتج الخطاب أفرادا متفرقين أو هيئات ومؤسسات رسمية أو غير رسمية، وأن غايته هو نشر دين الله عقيدة وشريعة وأخلاقا ومعاملات للمسلمين وغير المسلمين… وبما أن الخطاب الديني في عصرنا عاد ليتصدر الخطاب الفلسفي والنقاشات الفكرية، مستفيدا من العودة القوية للمظاهر الاجتماعية والثقافية للتدين تارة، وتأثيراتها السلبية على الفضاء العمومي وقضاياه تارة أخرى، فإن تجديده رهين بسلطة تسانده وتدعمه، والمقصود بسلطة الخطاب الديني كما قال الأستاذ صالح النشاط ” تلك السلطة المستمدة من طبيعة مكوناته، أي من المكون الشرعي والبشري، بغرض التأثير على المخاطب واستمالته، وتشكيل وعيه وطريقة تفكيره”(2)، لأن من شروط تحقيق الفاعلية والتأثير في أي خطاب ديني فهم المسلم المخاطب لـمحتوى الخطاب الموجه إليه وطبيعته فهما دقيقا، بمعنى “وضوح فكرة الخطاب لديه بمنطلقاتها وأهدافها، وتفهمه لمدى قابليتها للتنفيذ”(3).
نفهم مما سبق أن الإشكال ليس في تجديد الخطاب الديني بل في الحاجة الملحة إلى تجديد الفكر الإسلامي، وإلى محاولة إصلاحية معرفية منهجية، تستطيع رصد سائر أسباب هذا الخلط الحاصل في المفهوم وآثاره وانعكاساته، لأن المسلمين اليوم “ليسوا بحاجة لكي يستعيدوا فاعليتهم إلى تكوين الدين من جديد، أو تجديد الدين ذاته، لكنهم في حاجة إلى الوعي المعرفي والمنهجي الذي يمكنهم من توليد الإرادة والقدرة والعزيمة والفاعلية لتجديد مناهج الفهم وفقه التدين، وإلى قدرة على تقويم مسيرة حياتهم العملية والسلوكية بأفكار قائمة على القاعدة العقدية ومصادر التدين”(4).
إن موضوع تجديد الخطاب الديني ليس بدعا من القول، بل هو الشغل الشاغل للعلماء المحققين منذ فجر تدوين السنة النبوية، وكان مقصد التجديد في كل حقب التاريخ الإسلامي هو تخليص الإسلام مما شابه من الخرافات والبدع، وإلى جانب ذلك عرض الإسلام بصورة تناسب العصر، لأن الإسلام – كما قال الدكتور عبد الهادي بوطالب- “يعاني من الجهل من لدن الكثير، وحتى من عدد من المسلمين أنفسهم، أو من تعمد البعض تقديمه على غير حقيقته، أو من كون خصومه قد وضعوا له مسبقا في أذهانهم صورة مشوهة، ثم أخذوا يجهدون فكرهم في التذرع بالمبررات التي يتصيدونها من خلال تشريعاته التي حرفوا فيها الكلم عن مواضعه، وأخرجوا بعض نصوصها عن سياقها، فصوروا الإسلام في صورة الدين الجامد، الحقود المتطرف الداعي للعنف”(5).
يمكن القول بناء على ما سبق إن تواجد الدين في حياة المجتمعات البشرية اليوم أصبح مرتبطا بمدى قدرة الخطاب الديني على الإجابة على كثير من الأسئلة الراهنة، ليس بالضرورة أن يكون الخطاب أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر بالصيغة التي تحدث بها علماؤنا الأوائل، بل يجب “أن يواكب الخطاب الديني الأحداث والقضايا العصرية، وأن يعالج المشكلات التي تعرض للأمة في مسيرتها نحو الفهم الواعي المستنير، وأن يتناول قضايا التربية والشباب، وقضايا الإسهام بجهدهم فيما يعود على الأوطان بالنفع”(6)، إذ الناس اليوم في حاجة ماسة إلى من يؤطرهم دينيا، خصوصا وأن المجتمع المغربي عرف كغيره من المجتمعات العربية الإسلامية صحوة دينية كبيرة بفضل عوامل متعددة، ولهذا حاول مشروع تدبير الشأن الديني أن يستجيب لهذا الأمر من خلال مجموعة من الإجراءات. ولعل هذا ما يفهم من الخطاب الملكي أثناء تنصيب المجلس العلمي الأعلى والمجالس المحلية سنة 2000، حيث جاء فيه: “إننا نريد من مجالسنا العلمية أن تكون مجالا رحبا يتيح للعلماء أن يؤدوا رسالتهم الدينية والوطنية بدءا بتأطير المواطنين والمواطنات أينما كانوا لتحصين عقيدتهم، وحماية فكرهم، وإنارة عقولهم وقلوبهم”(7).
من أجل ذلك، فإن المضمون الجوهري الذي وجب الوعي به من موضوع تجديد الخطاب الديني هو تمكنه من إعادة استكشاف الجوهر، – أقصد هنا الجوهر الأخلاقي- ، والأهداف السامية لرسالة الإسلام لتطبيقها بإخلاص وبشكل مناسب مع مقتضيات العصر، لأن المسألة وما فيها هي إعادة تلقف الجوهر الأصلي للرسالة وشكلها، من خلال فهم متجدد للبقاء متمسكين بها، مع مواجهة تطور البشر والمجتمعات بفكر واضح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) خطابنا الإسلامي في عصر العولمة، الدكتور يوسف القرضاوي، ص 19، ط 3، 2009م، دار الشروق، القاهرة.
(2) تجديد الخطاب الديني بالمغرب، الدكتور صالح النشاط، ص 92، ط1، أكتوبر 2008م، الرباط.
(3) إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى إصلاح نظم الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، الدكتور طه جابر العلواني، ص 29، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 5، 2009م، الولايات المتحدة الأمريكية.
(4) نفسه، ص 32
(5) حقيقة الإسلام، الدكتور عبد الهادي بوطالب، ص 5، أفريقيا الشرق، ط2، 2004م، المغرب.
(6) تجديد الخطاب الديني، الدكتور عبد الغفار حامد هلال، ص 272، طبعة بسنة 2015م، منشورات اتحاد كتاب المغرب.
(7) خطب إمارة المؤمنين في الشأن الديني، ص 153، منشورات المجلس العلمي الأعلى، دجنبر 2006م، الرباط.