مدرسة ابن حميدة … مهد الإسلام المعتدل

ثلاثة قرون من تعليم القرآن وتعايش مع الفلسفة وانفتاح على إفريقيا تقع مدرسة زاوية ابن حميدة للتعليم العتيق، بين هضاب "الشياظمة"، شيدت قبل ثلاثة قرون من قبل الشيخ "سيدي أحمد بن حميدة"، حملت على عاتقها لواء العلم ونشر المعرفة بين قبائل "ركراكة" بإقليم الصويرة، وكونت آلاف الأئمة والفقهاء على مر عقود من الزمن، وتكيفت في الآونة الأخيرة مع منظومة التعليم العتيق التي تزاوج بين علوم الدين والعلوم العصرية، كما وسعت دائرة استقطابها، إذ انفتحت على إفريقيا، وأصبحت تستقبل بعثات من دول جنوب الصحراء. إنجاز: عصام الناصيري (موفد الصباح إلى الصويرة) - تصوير: (أحمد جرفي) تفصل مدرسة زاوية ابن حميدة للتعليم العتيق، حوالي 55 كيلومترا عن الصويرة، إذ يعرج زوارها على الطريق الوطنية رقم 1 مرورا بجماعة "سبت كزولة" و"تالمست"، قبل سلك طريق منحرف يؤدي مباشرة إلى الزاوية، ومنه إلى المدرسة التي تنتهي الطريق عند مدخلها، الذي كان يشهد حركة كبيرة، للطلبة والأساتذة والفقهاء، الذين يعيش جلهم بتلك المنطقة بعيدا عن الضجيج وصخب المدينة، إذ لا يوجد بالزاوية سوى "حانوت" واحد، يقتني منه القاطنون هناك لوازمهم البسيطة. 3 قرون من العطاء يقول إبراهيم المقدم، مدير المؤسسة ونقيب قبائل "ركراكة"، "إن مدرسة ابن حميدة للتعليم العتيق تأسست منذ ثلاثة قرون، من قبل الشيخ القطب سيدي أحمد بن حميدة، واستطاعت خلالها أن تساهم في حمل لواء العلم ونشر المعرفة، وقيم التسامح والإسلام المعتدل والتصوف"، مستدركا "لكن الإهمال طالها في القرن الماضي، وتدهورت بنيتها التحتية وغادرها الطلبة، غير أن الوالد حرص على تجديد بنيتها ومعالمها، إذ أعاد لها أدوارها التي كانت تلعبها من ذي قبل، إذ شرع في هذا العمل بداية سبعينات القرن الماضي، وهي الآن تعمل وفق منظومة التعليم العتيق، التي تشرف عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وتحتضن المدرسة ثلاثة مستويات تعليمية، ابتدائي وإعدادي وثانوي، إذ يتدرج فيها الطالب إلى حين حصوله على شهادة الباكلوريا، والتي تفتح أمامه آفاقا أكاديمية ومهنية عديدة، إذ تخول له ولوج الجامعات المغربية كما هو الحال بالنسبة إلى باقي الباكلوريات المعتمدة في المغرب. ويؤكد حفيد مؤسس زاوية ابن حميدة، أن المدرسة تفتح لطلبتها آفاقا متعددة، موضحا أنه "باستثناء الكليات العلمية المتخصصة، يلج طلبة المؤسسة المعاهد المتخصصة في المجال الديني، من قبيل معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، كما أن أغلبهم يلجون كلية الشريعة وجامعة القرويين"، وأضاف المتحدث ذاته أن الطلبة يشقون طريقهم بنجاح، إذ حصل عدد منهم على الإجازة والماستر وشهادة العالمية، ومنهم من اشتغل في القضاء والتعليم، بالإضافة إلى الإمامة والتأطير الديني، إذ يعملون مرشدين دينيين تابعين لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. مقاربة النوع اقترنت مدارس تعليم القرآن والكتاتيب بالذكور، وظل حضور الإناث داخلها ضعيفا، إلا أن مدرسة ابن حميدة تحتضن أزيد من 100 طالبة، يتابعن تعليمهن داخلها، ويقطن جزء كبير منهن بدار التلميذة الملحقة بالزاوية، ويشكلن أزيد من 20 بالمائة من مجموع الطلبة، الذين يصل عددهم إلى 521 طالبا، بينهم 340 شابا وشابة يقطنون بالقسم الداخلي، الذي ينقسم إلى مرفقين أحدثا وفق نظام المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فيما باقي الطلبة يتحدرون من الدواوير المتاخمة للزاوية. وعاينت "الصباح" إبان حلولها بالمدرسة عددا من الطالبات اللائي كن يمسكن ألواحهن ويرددن آيات من القرآن، بصوت هادئ عكس الذكور. ويقول الفقيه المشرف على تكوين الطالبات، وهو شيخ غزا الشيب لحيته، "هناك نوعان من الطلبة، صنف لم يسبق له أن درس القرآن، وآخر يكون قد تتلمذ على يد أحد الشيوخ بمدرسة أخرى، لذلك يجب التعامل مع كل صنف معاملة خاصة"، مضيفا "إذا كانت الوافدة على المؤسسة فتاة فإنها تنضم إلى الصف الذي أشرف عليه، أما إذا كان شابا فإنه يلتحق بزملائه الذين يشرف عليهم فقيه آخر". وتابع المتحدث ذاته، الذي كان يفترش "هيدورة" خروف، ويتوسط الطالبات، "إننا نبدأ مع الوافدين الجدد بالسور الصغيرة، وننتقل بعدها إلى السور الكبرى"، مبرزا أنه خلال ثلاث أو أربع سنوات يصبح الطالب متمكنا من القرآن. توسيع دائرة الاستقطاب لم تعد تقتصر مدرسة زاوية ابن حميدة للتعليم العتيق، على استقطاب شباب وشابات القبائل والدواوير المتاخمة لها، بل وسعت دائرة استقطابها، إذ انخرطت بدورها في إستراتيجية الانفتاح على القارة الإفريقية، والمساهمة في ورش تصدير نموذج التدين المغربي، القائم على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وقيم الوسطية والاعتدال، إذ عاينت "الصباح" عددا من الأطفال والشباب القادمين من جنوب الصحراء، لتعلم القرآن والحديث والتفاسير، ويقول إبراهيم المقدم، "إن المؤسسة استقبلت في الموسم الماضي بعثة من الطلبة الأجانب، يتحدرون من غينيا كوناكري، بعد تدخل مفتي الجمهورية، الذي طلب منا التحاق مجموعة من الطلبة، فوافقنا مباشرة بعد أن استشرنا وزارة الأوقاف في الموضوع، التي رحبت بالفكرة بدورها، لأن هناك أوامر سامية لتسهيل التحاق الطلبة الأفارقة، بغية تصدير تجربتنا في التدين، ونحن بدورنا نشتغل ضمن هذا الورش". تعايش الفلسفة والدين في الوقت الذي طفا فيه الصراع بين الفلسفة والدين داخل الجامعات على السطح في الآونة الأخيرة، استطاعت الفلسفة وعلوم الدين التعايش داخل مدرسة ابن حميدة العتيقة، ويقول عبد اللطيف المرزوقي، أستاذ مادة الفلسفة بالمؤسسة، إن "الفلسفة دخلت إلى مدرسة ابن حميدة بموجب التعديل الذي طرأ على منظومة التعليم العتيق منذ 2006، الذي انتقل من تعليم تقليدي إلى تعليم منفتح على العلوم العصرية"، موضحا أن هذا التعديل يجعل طالب التعليم العتيق مؤهلا لملء الفراغ الديني في المجتمع، كما يمكنه من الاطلاع على العلوم الأخرى، بالإضافة إلى تزوده برصيد معرفي يستطيع من خلاله أن يفكر ويناقش ويجادل في عدة مواضيع، وهو ما أنهى عهدا كان فيه الطلبة محصورين في حلقة ضيقة. وأبرز الأستاذ الشاب، الذي يبدو في عقده الثالث، أن حصة الفلسفة داخل المؤسسة تندرج ضمن مواد الثلثين، بمعنى أنها مادة تكميلية كما هو الشأن بالنسبة إلى اللغات الأجنبية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا وغيرها، موضحا أن الطلبة يكونون على موعد مع درس الفلسفة ساعتين في الأسبوع. وأشار المتحدث ذاته، إلى أن درس الفلسفة والفكر الإسلامي من أكثر الدروس التي توفر أرضا خصبة للنقاش والتعبير بحرية، مبرزا في السياق ذاته، أنه ما أحوج طلبة التعليم العتيق إلى مثل تلك المواد التي يغلب عليها طابع النقاش والتساؤل.

مدرسة ابن حميدة … مهد الإسلام المعتدل

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

10 سنوات لمتابعين في حراك الريف

بولماني يشعل مواقع التواصل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات