في قلب “إمارة العطش” بالبيضاء

"وكالات توزيع عشوائية" لا يعرفها بنكيران اغتنى أصحابها من بيع الماء بأغلى سعر في المغرب يؤدون أغلى فاتورة ماء في المغرب، يدفعون أقساطها لـ"وكالات توزيع عشوائية"، وحين يفكرون في الاحتجاج، يرمون بتهمة "الخيانة"، وتشهر في وجوههم ملفات البناء غير القانوني، ومعها قرارات جاهزة بالطرد والتشريد، وأخرى بالاعتقال على ذمة التحقيق. هم آلاف المواطنين بضواحي البيضاء يوجدون، اليوم، بين فكي كماشة، طرفها الأول "مافيا ماء" راكمت ثروات ونفوذا وسلطة من الاتجار في هذه المادة الحيوية، وطرفها الثاني، رجال وأعوان سلطة متواطئون، يوفرون الحماية وشروط العمل "المناسبة" لـ"أمراء الماء"، بدل تطبيق القانون. "الصباح"، انتقلت إلى دواوير بعمالة النواصر، وحققت في أسرار وكالات "أخطبوطية" للتدبير "غير المفوض" للماء، لها أسعارها و"أشطرها" وفواتيرها وأطرها ومستخدموها... وقانون خاص، أهم بند فيه "خلص، أو سير موت بالعــــطش". إنجاز: يوسف الساكت - تصوير (عبداللطيف مفيق) منذ ثلاثة أشهر، تخوض "جمعيات توزيع الماء الصالح للشرب" بإقليم النواصر حرب "استنزاف" ضد سكان دواوير جماعات دار بوعزة وأولاد عزوز وأولاد صالح، الذين يرفضون أداء مستحقات فواتير مياه بلون أصفر تطلع منها رائحة كريهة يمكن استنشاقها على بعد أمتار، يقولون إنها أحد أسباب الــبتور الصغيرة الحمراء التي تنتشر على أجساد الأطفال وتطلع من وجوه المراهقين والـــــــــشباب.السكان هنا بدواوير "العتيقيين" و"أولاد أحمد" و"بوعمريين" و"السهابة" و"مرتاح" و"القوالبية" والكلسة، وغيرها من الدواوير الأخرى التابعة لنفوذ جماعة دار بوعزة، تعبوا من أداء فواتير شهرية تتجاوز في المعدل 200 درهم، مقابل مياه تصلح، في أحسن الأحوال، لتنظيف المراحيض وتجفيف عتبات المنازل، بينما يدفعون أقساطا مالية أخرى لشراء "ماء الشرب الحقيقي" من بائعين يتجولون بعربات، تجرها دواب، على متنها براميل بلاستيكية بأحجام مـــــــــختلفة.الحاجة الصحراوية، إحدى قاطنات زنقة "البوليسي" بدوار "العواتقة"، قالت لـ"الصباح" إن ماء الجمعية تعافه الكلاب والقطط فما بالك بالإنسان. وأكدت أن الماء الذي "يقطر" من صنابير المنازل لونه أصفر ورائحته كريهة، خصوصا في الساعات الأولى من الصباح، حين تستأنف "الجمعية" إطلاقه، بعد قطعه في منتصف الليل.الشيخ بلحية بيضاء يومئ برأسه، تأكيدا لكلام الحاجة الصحراوية، ثم يرفع أصبعه لطلب الحديث:-"كاين هاد شي أولدي كاين، وكاين ما كثر منو..هاد شي حنا عايشين فيه من سنين..معمرنا ما دوينا ولا حلينا فامنا".يؤكد الرجل أنه تعود النهوض باكرا قبل أذان الفجر، وهو الوقت الذي يعاد ضخ المياه في الصنابير، بعد قطعه في الحادية عشر والنصف من الليلة السابقة.في هذا الوقت، يقول، يمكن رؤية الأوساخ والقاذورات التي تسيل من القنوات الصدئة بالعين المجردة، كما يمكن استنشاق الروائح الكريهة التي تتجول في غرف المنازل الضيقة، وتصيب كثيرا من السكان بالزكام وحساسية الأنف والحـــــنجرة.ترتفع الأصوات وسط الحلقة الصغيرة بزقاق "البوليسي"، وتصيح المرأة بجلباب أسود وخمار:-"ما تبقاوش غير تسمعو الناس أوصافي، أجيى شوفو بعينيكم هاد شي وسط الديور، باش ما تقولوش حنا كنكذبو عليكم".يفتح باب منزل يسار الزقاق، وتسمح لنا صاحبته بالدخول إلى المطبخ الصغير المقابل لمدخله، وتتجه مباشرة إلى برميلين كبيرين بسعة 150 لترا موضوعين بزاويته، وتقول إنهما يحتويان على ماء صالح للشرب، اشترته من بائع متجول ب3 دراهم لـ30 لترا.في الجهة الأخرى، يوجد برميل آخر قالت إنها عبأته، قبل يومين، من صنبور المياه المرتبط بقنوات الضخ التي تتحكم فيها الجمعية المكلفة بتوزيع الماء وتستخلص واجباته من السكان بسعر 25 درهما للطن.-"الله يخليك لما شم هاد الما باش تتأكد من ريحتو الخانزة..لكذبنا عليك الله فوقنا غادي يحاسبنا على هضرتنا"، تقول المرأة، قبل أن تردف: "راه باين غير من لونو الصفر بحال شي ميت.. الله يستر". اتهاماتيقول السكان إن الحل يوجد بيد "مستشارين" و"فاعلين جمعويين" و"مسؤولين محليين" و"أعوان سلطة"، تحولوا بفضل الاتجار في الماء والبناء غير القانوني إلى "أسياد" و"أمراء" يطبقون شريعة العطش، فوق رقاب 100 ألف نسمة، تقطن بالدواوير التابعة للملحقة الإدارية لأولاد أحمد بعمالة النواصر، وهم المسؤولون أنفسهم الذين يعترضون سبيل مشاريع الهيكلة العمرانية، ومشاريع ربط هذه التجمعات السكانية شبه العشوائية بشبكات الماء الصالح للشرب والتطهير السائل التي تشرف عليها شركة "ليدك" عبر منظومة إنماء- المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. (الصباح العدد 4856).اتهامات خطيرة حملتها "الصباح" إلى مستشارين بجماعة دار بوعزة، وصف بعضهم احتجاجات السكان بالمشروعة التي تهدف للتصدي إلى "عصابات الماء والبناء العشوائي"، حسب وصفهم، التي نبتت مثل الفطر منذ 15 سنة، وراكمت ثروات كبيرة تقدر بالملايين ونقلت بعض رؤساء الجمعيات ومقدمين في عدد من الدواوير التابعة لعمالة النواصر من فقراء لا يجدون ما يكملون به عشاء ليلة، إلى أباطرة وأثرياء يركبون سيارات الدفع الرباعي، ويسكنون الفيلات والشقق الفاخرة بضواحي البيضاء ويملكون الضيعات ويستثمرون في مشاريع عقارية ويدخنون "السيجار الكوبي" في سهرات حمراء تهدر فيها حزم من "الورقة الزرقا".في حين فضل مستشارون آخرون التحفظ في الكلام، مؤكدين أن الملف شائك ومعقد وفيه "بزاف ديال المشاكيل"، أما البعض الآخر، فاحتمى بلغة التبرير والدفاع عن الواقع . «كونطرات" ورخص الملف معقد فعلا، ويعود إلى منتصف التسعينات، حين أفرز واقع الهجرة القروية والبطالة والنمو السكاني المطرد، تجمعات سكانية غير قانونية ودواوير عشوائية بمئات الأسر، نمت على أطراف عين الشق والنواصر ومديونة والمحمدية.هذا الواقع الجديد، أفرز بدوره وضعيات اجتماعية وعمرانية شائكة، بدأت بالضبط، حين شرع السكان الحاصلون على "كونطرات" السكن، يطالبون بحقهم في الربط بشبكات الإنارة والماء الصالح للشرب وأشياء أخرى، اعتبروها من صميم حقوقهم.هنا بدأ الملف يأخذ بعدا آخر، مع ارتفاع حدة المطالب والاحتجاجات التي يصل صداها إلى جهات عليا، وعجز السلطات المحلية، التي أغمضت العين عن هذا التمدد العمراني المشوه، عن الاستجابة لها بشكل قانوني، في ظل اعتراض الشركة المكلفة بتدبير الماء والكهرباء والتطهير السائل، والمكتب الوطني للماء والكهرباء، عن إطلاق أشغال الربط في مساكن "غير معترف بها" وسكانها غير حاصلين على رخص السكن التي يشترطتوفرها، بالضرورة، للاستفادة من الخدمات الاجتماعية الموازية. في البداية، قررت السلطات المحلية والمنتخبة تزويد السكان الجدد بالماء الصالح للشرب عن طريق تشييد مجموعة من السقايات والعوينات، مرتبطة بشبكة مركزية لتوزيع الماء تابعة لشركة "ليدك"، في مناطق متفرقة من الدواوير، ويستعمل السكان وسائلهم الخاصة لنقل المياه إلى منازلهم، أما التطهير السائل، فسمح للسكان بحفر "مطامير" تحت المراحيض، تستعمل لتجميع الفضلات، ويجري إفراغها بشكل دوري حتى لا تفيض عن "الحاجة".هذه الطريقة خلفت عددا من الاحتجاجات في صفوف السكان الذين شرعوا في التعبير عن تذمرهم من عمليات السقي، وسط ازدحام كبير أمام "العوينات"، ما تطلب عقد مجموعة من الاجتماعات بمقرات الجماعات، انتهت إلى حل "سحري" فتح باب "الجنة" أمام رؤساء جمعيات ومستشارين وأعوان سلطة ونافذين.ويقضي هذا الحل بإحداث شبكة عشوائية للربط بالماء "الصالح للشرب" ترتبط، عن طريق قنوات وعدادات فردية، بأكبر عدد ممكن من المنازل، وتتكلف جمعيات متعاقدة مع "ليدك" بتدبيرها، عن طريق استخلاص مستحقات الاستهلاك الشهرية من "الزبناء".رئيس جمعية، مستفيدة من العقد، قال إن الربط المباشر بالماء، كان مطلب السكان أولا الذين انخرطوا في هذا "المشروع" بداية 2000 والتحق بهم آخرون في 2009، لتشمل العملية جميع دواوير عمالة النواصر تقريبا.وأكد مسؤول الجمعية إن العقد الموقع مع "ليدك"، يقضي بشراء الماء من الشركة بـ12 درهم للطن (8 دراهما للماء و4 دراهم للتطهير السائل، علما أن جميع الدواوير غير مرتبطة بشكبة الواد الحار).في المقابل، تعقد الجمعيات "اتفاقا" مع السكان لإعادة بيعهم الماء بسعر يتراوح بين 20 و25 درهما للطن (حسب "أريحية" الجمعية وطبيعة التفاوض مع زبنائها)، بهامش ربح يصل إلى 13 درهما في الطن، تقول الجمعيات إنها تخصصه لتغطية مصاريف الربط وصيانة الشبكة والقنوات ومحركات الضخ وتجهيزاتها، وأجور المتعاونين و"أشياء أخرى".ويحتسب الاستهلاك الشهري باستعمال عدادات فردية توضع في إطار حديدي خارج المنازل، ويكتب هذا الاستهلاك في "فواتير" تشير إلى اسم الزقاق، أو البلوك، والعنوان، ورقم العداد والدليل السابق، والدليل الحالي، ثم الكمية المستهلكة في الشهر، والواجب دفعه.ولأن الأمر يتعلق بعمليات عشوائية من ألفها إلى يائها، لا تحمل هذه "الفواتير" أي إشارة إلى الجهة/ الجمعية التي توزعها وطابعها، وطريقة احتساب الاستهلاك، وحقوق المستهلك وغيرها من الشروط الواجب توفرها في وثيقة رسمية من هذا النوع.هذه التجارة الجديدة أسالت لعاب عدد من الجمعويين والمستشارين، وحولت بعضهم، مع مرور الوقت، إلى "أسياد" و"أمراء" و"أثرياء" لا يشق لهم غبار في هذه المناطق، باعتبارهم يتحكمون في واحدة من أكثر المواد حيوية على وجه الإطلاق، وبيدهم وحدهم قرار "تعطيش" آلاف المواطنين، أو إنزال الرحمة والغيث بهم، بل أضحوا يتحكمون في مصير دواوير بأكملها. آبار سرية مع مرور الوقت، تحولت وكالات التوزيع العشوائية، إلى جزء من البنية "المؤسساتية" لهذه الدواوير، وأصبح مسؤولو الجمعيات المفوض لها محاورين أساسيين لدى السلطات المنتخبة والمحلية وشركة "ليدك" التي تتسلم مستحقاتها شهريا، أو سنويا عن الكمية الإجمالية المستهلكة، مع احتساب واجبات التطهير السائل غير الموجود أصلا.ولم يقنع بعض "الرؤساء" بالثروات الضخمة التي تضخ في خزائنهم من صنابير مياه صدئة، بل أبدعوا حيلا أخرى لتسمين هذه المداخيل، مثل حفر آبار سرية مزودة بمضخات مربوطة بقنوات المياه داخل المنازل، حيث تحسب الكميات المستهلة بالسعر نفسه للمياه العادية الآتية من "شاطوهات" شـــــــــــــركة "ليدك".لهذا السبب بالضبط، يعتقد قاطنون استمعت إليهم "الصباح"، بأن لون الماء الأصفر، ومذاقه المالح ورائحته الكريهة تعود إلى وجود مياه آبار غير معالجة، "تزاحم" المياه العادية في قنوات الضخ، ما انتبه إليه عدد منهم، واستعاض عن شربها بالمياه المعدنية، أو مياه "السقايات" و"العوينات".ويتداول السكان معطيات أخرى، عن إهمال الجمعيات، منذ سنوات، أشغال صيانة وتجديد شبكات الربط، والقنوات ومحركات الضخ وتجهيزاتها، وعمليات التنظيف الدورية لأبراج المياه، ما تسبب في تراكم عدد من الأزبال والطيور النافقة والحشرات والفئران التي تتجول في قنوات صدئة تمرر "البرد" والأوساخ، ما يتسبب في إصابة الأطفال بأمراض جلدية.

في قلب “إمارة العطش” بالبيضاء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الاتحاد الاشتراكي... ثمن الديمقراطية

حنان في دائرة الخطر

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات